الذخيرة القانونية

موقع يتعلق بالقانون التونسي

random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الدعوى البليانية

من المبادئ المحورية في القانون المدني أن أموال المدين ضمان عام لحقوق دائنيه جميعا وعلى وجه المساواة[1]، على أن مجرد تقرير هذا المبدإ لا يكفي لتحقيق نفعه في الواقع العملي إذ الأصل أن يحتفظ المدين بحريته في التصرف في أمواله إدارة أو تفويت ما دام كامل الأهلية غير محجور عليه أو مفلسا، فتنعقد تصرفاته صحيحة وتمضي في حق دائنيه[2].
ولأن المدين لا تغل يداه عن التصرف في مكاسبه لمجرد أن ذمته عامرة بالديون، فإنه من الممكن أن يعمل فيها بالإسراف والتبديد للتفصي من الوفاء بالتزاماته إضرارا بحقوق دائنيه، ولذلك فهو محمول قانونا على الامتناع عن كل ما من شأنه الإضرار بهم.
فالجدوى من الضمان العام منوطة بالتماس الدائنين الوسائل العملية التي شرعها القانون لصيانته، فقد رصد المشرع لهم إجراءات تنفيذية لتحصيل حقوقهم وأخرى تحفظية لصيانتها من الضياع، وتدخل هذه الوسائل بشقيها في نظام المرافعات المدنية.
أما على صعيد القانون المدني، فلم يغفل المشرع حماية الدائنين، فكفل لهم زيادة على جملة الضمانات الشخصية والعينية الخاصة التي يمكنهم توثقة حقوقهم بواسطتها استعمال آليات حمائية تتمثل في دعاوي ثلاث يدرؤون بها الضرر الذي يلحق ضمانهم العام من جراء تصرفات مدينهم التي تنقص من مكاسبه أو تزيد في التزاماته إذا أهمل أو ساءت نيته.
فإذا كان المدين مهملا لحقوقه جاز للدائن القيام بالدعوى المنحرفة أو غير المباشرة لاستعمال ما لمدينه من حقوق استنادا إلى آلية النيابة القانونية وإرجاع ما تقاعس عن تحصيله من الحقوق التي له على مدينيه إلى الضمان العام.
أما إذا كان سيئ النية بأن تصرّف تصرفا صوريا لإيهام دائنيه بأنه فوت في بعض مكاسبه والتظاهر لهم بالإعسار، جاز لهم أن يسلكوا طريق دعوى إعلان الصورية توصّلا للتصريح بعدم نفاذ التفويت في حقهم[5].
على أن الضرر يصبح فعليا ومحققا بالنسبة إلى الدائنين إذا ما تجسدت نية المدين السيئة في تصرف إيجابي لا يقتصر على مجرد الإهمال وجدّي غير صوري، وأدّى به ذلك إلى إدراك حالة إعسار حقيقي، فيجوز لهم في هذه الحال الطعن في التصرف بطريق الدعوى البوليانية ACTION PAULIENNE.
ولئن اقتصر المشرع التونسي في ضبط أحكام هذه الدعوى على نصّ في غاية الإنجاز هو الفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع، فإنها تعدّ من أهم الآليات الحمائية للدائنين لاعتبارات تاريخية وعملية بالرغم مما قد يثيره بعض الفقهاء من شكوك حول مدى شيوعها في التطبيق[6].
فهي دعوى عريقة وراسخة في التقاليد القانونية إذ ترجع تاريخيا إلى أواخر العهد الجمهوري الروماني ويرجح أن يكون الحاكم الروماني " بولص "                   Le préteur Paulus أول من أنشأها واشتقت تسميتها بعد ذلك من اسمه، فقد انطلق واضعها من وصف غش المدين بتصرفاته التي يقصد بها إبعاد مكاسبه عن متناول دائنيه Fraus creditorum بكونه عملا غير مشروع Délit بما أضفى على الدعوى طابعا جزائيا، وكان يقيمها نيابة عن جماعة الدائنين الوكيل القضائي المكلف بتصفية أموال المدين Curator bonorum vendendorum، وكان مآلها القضاء بإلزام المتصرف إليه بدفع غرامة مالية لا يقل مبلغها عن قيمة الشيء الذي تلقاه من المدين إن لم يردّه بعينه كاملا Restitutio in integrum إلى ممثل الدائنين الذي يتولّى توزيع المتحصل على جميع الدائنين الأمر الذي يؤدي بطريق غير مباشر إلى إلغاء التصرّف كليّا تجاههم كافة[7].
ثم انتقلت أحكام الدعوى البوليانية إلى القانون الفرنسي القديم لكن لم يكن لها في ظله شأن كبير لأنه كان يوجب إقامة معظم التصرفات في شكل حجج رسمية يحررها موثقون Notaires وتمنح الطرف الدائن فيها آليا رهنا عاما يخول له تتبع جميع أموال مدينه التي كان معظمها وقتئذ من العقارات الأمر الذي كان يغني الدائنين عن استعمال الدعوى البوليانية، ولم تسترد مكانتها في التطبيق إلا بإلغاء الرهن العام بموجب المجلة
المدنية التي صدرت سنة 1804، يبد أن محرريها اكتفوا في غياب نظرية عامة للدعوى
لدى الشراح القدامى الذين كانوا يستمدون أحكامها من القانون الروماني، اكتفوا بنصّ وحيد شديد الاقتضاب هو المادة 1167 [8] التي لا تعدو أن تكون إعلانا لمبدإ جواز الطعن من الدائنين في تصرفات المدين من دون تفصيل لشروطه وآثاره، لكن دور الدعوى البوليانية تجدّد في الحياة العملية بتنامي الثروة المنقولة عددا وقيمة والتي هي أسرع تداولا من العقارات بما يساعد المدين على تبديدها إضرارا بدائنيه، وكذلك ببروز أنواع جديدة من المعاملات المنشئة لعلاقات المديونية وتطوّر فئة الدائنين المهنيين والمتصفين باليقظة والحرص على استخلاص الديون والتي تتألف خاصة من المؤسسات المصرفية[9] وهو ما يفسر كثرة الأحكام والقرارات القضائية المتصلة بدعاوي طعن تقيمها البنوك.
أما في الشريعة الإسلامية، فجمهور الفقهاء على أن الأصل في المدين أن تسري عقوده على غرمائه عملا بالقاعدة الكلية القاضية بأن لكل شخص ولاية على نفسه وماله وليس لهم تقييد تصرّفاته إلا إذا أجراها وهو في مرض موته[10] أو بطلب الحجر عليه قضائيا متى كان مفلسا أي كانت أمواله مستغرقة بالديون أي مساوية لها أو غير كافية للوفاء بها،والحجر إجراء جماعي وعلني شبيه بما كانت عليه الدعوى البوليانية في ظل
القانون الروماني يستوفي به الدائنون حقوقهم ببيع مكاسب المدين وقسمة ثمنها بينهم.
غير أن الإمام مالكا وبعض الأئمة الحنابلة ومتأخري الحنفية خالفوا الجمهور وقالوا إن المدين إذا عجز عن الوفاء بديونه، جاز لغرمائه طلب إبطال عقوده التي فيها تبرع كالهبة والبيع بالمحاباة إلا ما جرت العادة بفعله سواء كان قيد الحجر أم لا، ويقوم هذا الرأي على أساس من القياس ومن الاستحسان، أما القياس، فيستند إلى علة الحجر التي هي عجز المدين عن الوفاء بديونه، فإذا وجدت العلة حتى قبل الحجر وجب التقييد، وأما الاستحسان فوجهه ما ذهب إليه الإمام الحنبلي ابن قيم الجوزية من أن " في تمكين … المديان من التبرع، إبطال حقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا، فإنها إنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكلّ طريق وسدّ الطرق المفضية إلى إضاعتها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله "، ولا ريب أن هذا التبرع إتلاف لها فكيف ينفذ تبرع من دعا الرسول على فاعليه ؟ " [إعلام الموقعين، مطبعة دار الجيل، بيروت، ج4، ص7 ].
هذا وإن الطعن في تصرفات المدين في الحالين أي قبل الحجر وبعده يصطبغ بصبغة العقوبة لقوله صلى الله عليه وسلّم: " ليّ الواجد ظلم، يحلّ عرضه وعقوبته "، وإن رأي مالك ومـن لـف لفـه شبيـه بمضمون أحكـام الدعـوى البوليانيـة فـي التشريعات الحديثة كإجراء فردي يفترض إعسار المدين[11].
وإذا كان المشرع الأردني قد استمد القسم الأكبر من القواعد المنظمة للدعوى البوليانية[12] من الفقه الإسلامي وتخصيصا من الفقه المالكي[13]، فإن التشاريع المدينة العربية الحديثة الأخرى استحدثت بها أحكام خاصة بالدعوى البوليانية اقتبسها المشرع المصري في أول الأمر وبالأخص من القانون المدني البرتغالي [ المواد من 1033 إلى 1044 ] والبرازيلي [ المواد من 106 إلى 113 ]، فجاءت أحكاما مفصلة ومستفيضة امتدت على المواد من 237 إلى 243 من القانون المدني[14]، ثم أخذ عنه معظم القوانين المدنية العربية فجاء بعضها مطابقا له[15] والبعض الآخر مقاربا له[16]، فيما اتبع المشرع اللبناني نهج القانون الفرنسي في معالجة هذه الدعوى مكتفيا بنص المادة 278 من قانون الموجبات والعقود ومستندا في أحكامها على ما أقّره الرأي الفقهي السائد في فرنسا.
أما بالنسبة إلى القانون التونسي، فلم تكن مجلة الالتزامات والعقــود تتضمـن
أحكاما خاصة بالدعوى البوليانية رغم أن المشروع الأوّلي للمجلة المدنية والتجارية للمملكة التونسية لسنة 1897 نظمها بالفصـ 232 ـل واللائحة الابتدائية للمجلة نفسها المؤرخة سنة 1899 تعرّضت لها بإسهاب ضمن الفصول من 351 إلى 355، وقد علّل الكاتب العام للحكومة التونسية المكلف بالعدلية هذا الفراغ التشريعي بأن أحكام الدعوى البوليانية حفظت لتدرج بالمجلة التجارية، وهو تعليل خاطئ لأن هذه الدعوى مدنية لا تجارية[17].
ونتيجة لذلك جاءت مجلة الالتزامات والعقود في صياغتها النهائية خالية من نصّ ينظم الدعوى البوليانية باستثناء إشارة عرضية إليها بعنوان القسم الثاني من الباب الرابع، ولم تدرج فيها أحكامها إلا بمقتضى الأمر العلي المؤرخ في 15 سبتمبر 1923 الذي أضاف إليها نصّا مقتضبا يكاد يكون مطابقا للمادة 1167 م م ف، هو الفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع التي نصها: " يجوز للدائنين أن يطعنوا في حق أنفسهم في العقود التي تممها مدينهم بأنه تممها لإضرارهم في حقوقهم تغريرا وتدليسا لكن بدون أن تقع مخالفة الأحكام المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالميراث ". وهو نصّ                كالمادة 1167 م م ف لا يعدو أن يكون إعلانا لمبدإ جواز الطعن في تصرفات المدين دون تفصيل شروطه أو آثاره.
ويبدو أن إدراج هذه الأحكام بالمجلة على هذا النحو جاء مرتجلا نتيجة تفطن المشرع إلى افتقارها إلى نص ينظم الدعوى البوليانية على خلاف التشاريع الأخرى، فسارع إلى إدراجه كأنما لم يجد أقرب إليه من المادة 1167 م م ف فنقل فحواها بصورة تكاد تكون حرفية وهو ما أثمر نصا مقتضبا حاكى فيه المشرع التونسي نظيره الفرنسي حتى على مستوى الاستثناءات المتصلة بالحالة الشخصية والميراث والتي أثبت التطبيق القضائي محدودية نطاقها.
هذا إلى أن المشرع لم يوفق في ترجمته للنص الفرنسي، فصاغ أحكام الفقرة الأولة من الفصـ 306 ـل صياغة غير دقيقة إذ يتطلب المصطلح الذي اعتمده للدلالة على هذه الدعوى بعض التدقيق، فهو استعمل في العنوان المدرجة تحته الفقرة المذكورة عبارة " الإبطال " وصلب نصّها عبارة " الطعن " بما يوقع في اللبس بينها وبين دعاوي البطلان ولذلك فإنه من الأحرى تسميتها " الدعوى البوليانية " كما يسمّيها أغلب الفقهاء[18] ووردت صراحة في بعض التشاريع المقارنة[19] وباعتبار أن هذه التسمية ترجع الدعوى إلى مصدرها التاريخي.
وهذا الاقتضاب وعدم الدقة في التشريع من شأنهما أن يثيرا صعوبات تطبيقية كثيرة بما يحتم على القضاء القيام بدور تأسيسي هو إنشاء القواعد التفصيلية لهذه الدعوى، وهو ما لم يتوفق فيه كليا مما دعا بعض الشراح[20] إلى التصدي بالنقد لعدة حلول قضائية، كما أن الندرة في فقه القضاء المنشور وغير المنشور وقلة الدراسات الفقهية النظرية بخصوص الدعوى[21] حالتا دون استجلاء كافة جوانب نظامها القانونـي
وبقي النصّ المنظم لها يفتقر إلى المزيد من التأويل الأمر الذي يضفي على دراستها جدوى نظرية خاصة في غياب تنظيم لإشهار الإعسار كإجراء جماعي في القانون المدني التونسي بما يبقي للدعوى دورها ومكانتها الأساسيين في حماية الضمان العام للدائنين من إعسار المدين زيادة على استنادها إلى مفهوم محوري في القانون بوجه عام هو مفهوم الغش مثلما يتضح من مقولة " الغش يفسد كل أمر                               «  Fraus omnia corrumpit » التي تنسحب على المدين بمقتضى عدة أحكام في مواد قانونية مختلفة منها على سبيل الذكر لا الحصر الفصلان 462 و 463 من المجلة التجارية الذان يجيزان إبطال التصرفات الواقعة من المدين المفلس والمضرة بدائنيه خلال فترة الريبة والفصـ 278 ـد من المجلة الجنائية الوارد بتجريم تفريط المدين المعقول عنه في الأشياء المعقولة وكذلك الفصـ 288 ـل من المجلة الجنائية الذي ينصّ على تجريم التسبب في الإفلاس Banqueroute وعقابه وهي جنحة تشبه في أركانها شروط الدعوى البوليانية من ذلك الإعسار وحلول الدين إلا أنها خاصة بالتجار.
على أن دراسة الدعوى البوليانية لا تستجمع فوائدها النظرية إلا بالرجوع إلى القواعد العامة التي تحكم مادة الالتزامات مع الاستئناس بالنصوص التشريعية والاقتباس
من الحلول القضائية المقارنة دون الإخلال بمقتضيات القانون التونسي وأهدافه وتوجهاته العامة، ذلك أن أحكام الدعوى البوليانية عرفت في فرنسا خاصة، وهي التي استلهم المشرع أحكام الفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع من مضمون المادة 1167 من مجلتها المدنية، عرفت تحوّلات عمقية، إذ تدرجت لتصبح دعوى فردية بعد أن كانت جماعية، وعمل فقه القضاء على توسيع نطاق تطبيقها معتمدا على الصياغة العامة للنصّ وكذلك على المستند الأخلاقي الذي تنبني عليه ليجعل منها الأداة العامة لمحاربة الغش في القانون المدني ومعاقبة المدين على كلّ التصرفات التي يريد بها النيل من حقوق دائنيه خاصة في ظل استحداث أساليب غش جديدة اليوم.كما أن ارتباطها بالضمان العام الذي يشمل كلّ مكوّنات الذمة المالية للمدين عدا ما لا يقبل منها الحجز، ويتأثر بمختلف أنواع التصرفات، أكسبها صفة العمومية وقابلية الانطباق على مختلف الصور بما فيها تلك التي مكن المشرع فيها  الدائن من وسائل طعن خاصة سواء استنفدها دون نتيجة أو لم يستعملها على اعتبار أن معاقبة المدين على غشه أولى من مجازاة الدائن على تقصيره.
وقد تجسّدت هذه التحوّلات في فقه قضاء غزير أضفى على أحكام الدعوى البوليانية طابعا عمليا مرده الحرص على بحث أيسر الطرق لحماية الدائنين وصيانة ضمانهم العام بتوخي المرونة في الإثبات بل وتجاوز بعض شروط الدعوى من حين إلى آخر ممّا أفضى إلى توسيع مفرط لنطاق تطبيقها والخلط بينها وبين أنواع أخرى من الدعاوي، فأدّى ذلك بالتبعية إلى محو خصوصياتها، لكن ذلك لم يمنع الفقهاء من الانطلاق من الحلول القضائية لاستكمال النظام القانوني للدعوى وبناء نظرية عامة لها[22].
ومهما يكن من أمر، فإن تجدد النظرة إلى الدعوى وطريقة تناولها من قبـــل
القضاء أسهم في تعزيز وظيفتها الحمائية الأمر الذي أدى إلى تكثف لجوء الدائنين إلـى 
استخدامها في الواقع العملي، وهو ما يفسّر الزيادة المطردة للأحكام والقرارات القضائية الصادرة بشأنها.
واعتبارا لما تقدم شرحه من تنامي أهمية الدعوى البوليانية من الناحية العملية وتوسع ميدان تطبيقها في الوقت الذي حافظت فيه على استقلالية نظامها القانوني وخصوصيته، فإنه يكون من المتجه تقسيم هذه الدراسة إلى جزئين:

الجزء الأول: مقومات الدعوى البوليانية.
الجزء الثاني : نظام الطعن بالدعوى البوليانية.




أتاح المشرع للدائنين القيام بالدعوى البوليانية للطعن في التصرفات التي يعمد المدين إلى ابرامها لتبديد مكاسبه وتهريبها لحرمانهم من استيفاء ديونهم منها وذلك صيانة لحقهم في الضمان العام.
        وبما أن المدين ينزع في كثير من الأحيان إلى التفصي من أداء ديونه، فإن المشرع أراد حماية دائنيه من الأعمال التي قد يقوم بها لتحقيق غايته هذه بأن جعل الدعوى البوليانية من خصائصهم [ الفصل الأول ].
        ولما كانت العمومية السمة الجوهرية في الضمان العام إذ ينصب على جميع ما للمدين من المكاسب المنقولة والعقارية الحالية منها والمستقبلة[23]، فإن نجاعة الدعوى البوليانية في صيانته منوطة بإضفاء صفة العمومية هذه عليها من حيث الموضوع بسحب مرماها على جميع التصرفات القانونية التي يمكن أن ترد على أي من تلك المكاسب وتمكين الدائنين من الطعن فيما متى أبرمها المدين غشا وإضرارا بحقوقهم وهو ما يؤخذ من عمومية صياغة أحكام الفصـ 306 ـل م ا ع [ الفصل الثاني ].








       الفصل الأول: الدعوى من خصائص الدائن

        خلافا لدعوى الصورية التي يحق للدائن[24] والخلف الخاص للمتعاقدين وكل من له صفة الغير على معنى الفصـ 26 ـل من م ا ع ممارستها، جعلت الدعوى البوليانية من خصائص الدائن شأنها شأن الدعوى المنحرفة[25] مثلما يتضح من صريح                الفصـ 306 ـل من م ا ع.
        وعليه لا يجوز للمدين[26] ولا لمعاقده القيام بالدعوىالبوليانية لنقض التصرف المبرم بينهما[27]، وينسحب هذا الحظر على خلفهما العام وكل ما انجز له منهما حق خاص[28].
فإذا سلّمنا بانفراد الدائنين بالدعوى البوليانية، يتحتم أن نقر استنادا إلى عموم عبارات الفصـ 306 ـل م ا ع، وإعمالا لقاعدة الفصـ 533 ـل من م ا ع التأويلية بإجراء عبارة " الدائنين " على إطلاقها بأن كافة الدائنين يحق لهم القيام بها                 [ المبحث الأول ] مستندين إلى حقوقهم أيا كان مصدرها أو موضوعها                       [  المبحث الثاني ].

       المبحث الأول: إسناد حق القيام إلى كافة الدائنين

        يقتضي تحليل حق القيام بالدعوى البوليانية بوصفه شاملا لمختلف الدائنين تعداد الدائنين تعداد الدائنين المخوّل لهم مباشرته من جهة [ الفقرة الأولى ] وبيان كيفية ممارسته عمليا من جهة أخرى [ الفقرة الثانية ].
       الفقرة الأولى: تعداد الدائنين

        لئن كانت الدعوى البوليانية مقرّرة أصلا لحماية الدائن العادي [ أ ]، فإن حق القيام بها يمتد إلى الدائن ذي الضمان الخاص [ ب ].

        [ أ ] – الدائن العادي

        الدائن العادي هو من ليس له تجاه مدينه ضمان شخصي أو عيني خاص يضمن له الوفاء إنما ينحصر  حقه في الضمان العام على مجموع مكاسبه يكون فيه على قدم المساواة مع نظرته ليس له أفضلية عليهم ولا حق تتبع على أموال مدينه ولا كفالة، وهو بصفته هذه أكثر عرضة للتأثر بتصرفات مدينه فيكون أحرى بحق القيام بالدعوى البوليانية من الدائنين الذين لهم توثقات حتى إن بعض الفقهاء[29] قصروا عليه المباحث التي خصصّوها لهذه الدعوى في مؤلفاتهم وأغفلوا الدائن ذا الضمان الخاص.
        على أن هذا الاعتبار  لا يفضي إلى جعل الدعوى حكرا على الدائن العادي مثلما رأت محكمة التعقيب في أحد قراراتها[30]، ضرورة أنه لا يجوز التفريق حيث لم يفرّق المشرع وأن الضمان العام الذي ترمي هذه الدعوى إلى صيانته يمثل الحدّ الأدنى المشترك بين جميع الدائنين والذي يكفل لهم الخلاص.
        لكن كيف للدائن أن يطعن في تصرفات مدينه حال أن المبدأ العام يقتضي حرية المدين في التصرف في مكاسبه وانصراف آثار تصرفاته إلى دائنيه[31]؟
        يحيلنا هذا التساؤل إلى البحث عن التبرير النظري أي الأساس القانوني لحق الدائن في القيام بالدعوى البوليانية.
        والإجابة على هذا السؤال تتوقف على كشف الطبيعة القانونية للدائن أي الصفة التي يتلبس بها إزاء تصرفات مدينه كي يتسنى له الطعن فيها.     
لقد حمل المبدأ المذكور فريقا من الفقهاء[32] علىالقول أن الدائن خلف عام لمدينه على اعتبار أن تصرفات هذا تؤثر على حقوق ذاك بالإنقاص والزيادة، وجاراهم في هذا الرأي المشرع اللبناني في المادة 268 من قانون الموجبات والعقود التي جاءت تنص في صياغة أشبه بأسلوب المؤلفات الفقهية على أن حق الضمان العام " … يكسب الدائن صفة الخلف العام للمديون"، فيما اعتبر فقهاء آخرون الدائن خلفا خاصا لمدينه[33].
إلا أن هذا التحليل لا يستقيم لأن حق الدائن وإن كان ينصب على جميع مكاسب المدين دون تخصيص كما هو شأن الخلف العام، فإن آثار تصرفات مدينه لا تنتقل إليه كما تنتقل آثار تصرفات المورّث إلى الخلف العام باعتباره امتدادا لذمة مورثه، وتصرفات السلف إلى خلفه الخاص، والتي تنشئ في ذمتهم مباشرة حقوقا والتزامات، إنما تتعدى إليه بطريق غير مباشر من جهة كونها تزيد أو تنقص من ضمانه العام، فيحتج بها عليه باعتبارها وقائع مادية لا تصرّفات قانونية منشئة لحقوق أو التزامات في ذمته[34].
وتبنى فريق آخر من الفقهاء[35] تحليلا مغايرا مفاده أن المدين نائب عن دائنيه في التصرف في مكاسبه ما لم يخرج عن مراعاة حسن النية، فإذا خرج عن هذه الدائرة وقصد بتصرفاته الإضرار بدائنيه انتفت عنه صفة التمثيل وأضحى دائنوه بمنزلة الغير فينشأ حقهم في الطعن في تصرفاته تلك، فلا تثبت له الغيرية إلا متى أقام الدليل على توفر شروط الدعوى البوليانية[36].
غير أن هذا الرأي على وجاهته الظاهرة ليس بمنأى هو الآخر عن النقد لانبنائه  على افتراض صفة النيابة في المدين حال أن النيابة قانونية كانت أم اتفاقية ترتب إضافة آثار تصرّفات النائب من حقوق والتزامات إلى الأصيل أو الموكّل، وهو ما لا ينطبق على الدائن كما قدمنا، ثم إن هذا التحليل مزدوج ومصطنع إذ يقوم على إسناد صفتين متناقضتين إلى الدائن على التعاقب: الأولى كونه أصيلا أو موكّلا تنصرف إليه أعمال " نائبه " المدين، ثم تحل محلها الثانية وهي كونه غيرا بالنسبة إلى مدينه، وتتولد بمجرد ثبوت سوء نية المدين.
والحقيقة إن الدائن ما دام غير مشمول في نطاق القوة الملزمة للتصرفات القانونية مثلما يحدّده المشرع ضمن الفصـ 241 ـل م ا ع، فإنه ليس من المتعاقدين ولا ممن في حكمها أي الخلف العام والخلف الخاص، كما أنه ليس بموكلّ للمدين إذ أن صفة الغير أصيلة فيه.
وإسباغ صفة الغير على الدائن تؤهله لمباشرة حق القيام بالدعوى البوليانية بصرف النظر عن تحقق شروطها أو عدمه، طعنا فيما يراه مضرا بحقوقه من التصرفات التي يبرمها مدينه، ويسند إليه الفقهاء صفة " الغير " من نوع خاص       SUI GENREIS لكونه لا ينجر له من تصرفات مدينه نفع ولا ضرر بمعنى اكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات إنما يتأثر بطريق غير مباشر بانعكاساتها على مكاسب مدينه المكوّنة للضمان العام، لكنه يملك طلب محو آثارها تجاهه بواسطة الطعن بالدعوى البوليانية[37].

[ ب ] – الدائن ذو الضمان الخاص

قد لا يكتفي الدائن بالضمان العام إذا اتضح له أنه لا يكفل له استيفاء حقه لما قد يعتريه من التبديد بفعل المدين أو مزاحمة بقية الدائنين، فيلجأ إلى ضم ذمة مالية أو أكثر إلى ذمة المدين الأصلي فيصبح له بدلا من مدين واحد مدينان اثنان أو أكثر يكونون جميعا مسؤولين عن الدين إما في وقت واحد أو على التعاقب، كما في الكفالة والتضامن أو يشترط على مدينه تخصيص مال معيّن مملوك له لضمان الوفاء بالدين وهو الرهن، أو يبادر إلى حبس ماله لاستيفاء حقه منه. وهذه كلها ضمانات شخصية وعينية خاصة.
وليس الدائن محمولا على أنه قد نزل عن حقه في الضمان العام لمجرد تحصيله على الضمان الخاص، فلا تنزع عنه صفة الدائن العادي إذ لا يجوز أن يكون هذا الضمان الخاص الذي أريد به تقوية حقه سببا في إضعاف هذا الحق وحرمانه مما هو ثابت لسائر الدائنين وإلا أفضى ذلك إلى نتيجة غير مقبولة هي معاقبة الدائن الحريص بإسقاط حقه في الضمان العام[38].
وعليه يجوز للدائن الذي له ضمان خاص الرجوع على أموال المدين الأخرى غير المال المخصصّ، بواسطة الوسائل القانونية المختلفة الموصلة إلى صيانة الضمان العام ومن بينها الدعوى البوليانية[39].
فالدائن الذي له كفالة يمكنه القيام بالدعوى البوليانية طعنا في تصرفات المدين الأصلي أو الكفيل على السواء، وليس في هذا خرق لمبدإ التبعية في الكفالة الذي تضمنه             الفصـ 1496 ـل م ا ع الذي اقتضى عدم مطالبة الكفيل قبل التوجه بالطلب إلىالمدين  الأصلي ضرورة أن موضوع هذه الدعوى ليس المطالبة بالأداء إنما هو إلغاء التصرفات التي قد يكون المدين أو الكفيل أبرمها غشا وإضرارا بالدائن.
كما أن الدائنين ذوي الامتياز عاما كان أم خاصا وإن كانت لهم أفضلية على بقية الدائنين حتى المرتهنين طبقا لأحكام الفصـ 195 ـل م ح ع، فإنهم لا يفقدون حقهم في الضمان العام، ويجوز لهم تبعا لذلك الطعن في تصرفات المدين إذا أضحت حقوقهم مهدّدة من جرّائها، والجدير بالذكر أن الامتياز العام المسند بموجب الفصـ 199 ـل رابعا م ح ع، إلى المبالغ المستحقة للخزينة العامة بعنوان ضرائب وأداءات مختلفة بوسائل تنفيذية استثنائية، فقد خوّل المشرع الإدارة إصدار سندات تنفيذية تمكنها من استخلاصها دون اللجوء إلى القضاء غير أن مختلف هذه الوسائل الجبرية لا تعدو أن تكون مجرد رخصة لا تحجب عن الإدارة الحق في اللجوء إلى القضاء لاستصدار حكم فيما تطالب به إذا كان ذلك مفيدا لها حتى في صورة التي تستطيع فيها إصدار سند تنفيذي إداري، وهي مضطرة إلى التقاضي إذا كانت النصوص لا تسمح بإصدار ذلك السند، كما يمكنها استعمال القضاء المستعجل ومختلف الإجراءات التحفظية[40] تأسيسا على قاعدة الفصـ 550 ـل م ا ع، القاضية بأن من أمكنه الأكثر أمكنه الأقل، معنى ذلك أن للإدارة في حق الخزينة الطعن في التصرفات التحايلية التي يعمد المطالب بالضريبة إلى إبرامها تهرّبا من أذاء دينه الجبائي[41].
ويلحق بامتياز الخزينة امتياز المؤسسات التي تمثلها كالصندوق القومي للضمان الاجتماعي [ الفصـ 116 ـل من القانون عـ 30 ـدد لسنـ 1960 ـة المؤرخ                 في 14 / 12 / 1960 والفصـ 99 ـل من القانون عـ 28 ـدد لسنـ 1994 ـة المؤرخ في 11 / 02 / 1994 ] وصندوق ضمان النفقة وجراية الطلاق التابع له [ الفصل الرابع من القانون عـ 65 ـدد لسنـ 1993 ـة المؤرخ في 05 / 07 / 1993 ].
كما أن الدائن ذا الامتياز الخاص يحق له الطعن بهذه الدعوى بدليل أن             الفصـ 200 ـل ثانيا م ح ع خوّل للدائن بمعينات الكراء استرداد الأشياء التي عليها امتيازه الخاص وهي إلى العام والمحصولات وما هو مستعمل لخدمة الأراضي وأثاث البيوت المكتراة إذ أخرجت عن تتبعه بأن نقلت إلى الغير مخادعة فيما يمكن أن نعتبره تطبيقا ضمنيا خاصا لدعوى الطعن، ولا يمكن لهذا الغير معارضته بقرينة الحيازة كسند لملكية المنقول على معنى الفصـ 253 ـل م ح ع.
على أن التطبيق القضائي تركّز بالخصوص على الدائن المرتهن، فقد درج فقه القضاء، فقد درج فقه القضاء على تمكين هذا الدائن من الطعن في التصرفات التي يبرمها مدينه إذا استجمع شروطه وهي غش المدين وحصول ضرر له منها ومن ذلك إذا وقعت على العين المرهونة تبرى أو بمقابل رمزي أو كانت تهمّ سائر أموال المدين الأخرى متى كانت قيمة حقه تتجاوز قيمة المال المخصّص بغضّ النظر عن الدعاوي المتأتية له قانونا من الرهن[42].
أما المحاكم التونسية فقد تجاوزت موقف محكمة التعقيب في قرارها                عـ 6357 ـدد [ ق.ت.60، عـ 9 و 10 ـدد، ص 38 ] والذي يقصر حق القيام بالدعوى البوليانية على الدائن العادي، كما في الحكم عـ 23512 ـدد الصادر عن محكمة الاستئناف بتونس في25 / 10 / 1995[43] والذي تفيد الوقائع التي انبنى عليها من حيث الأصل أن المدين اقترض مبالغ مالية  ووظف بموجب عقد القرض رهنا على عقار له لفائدة المقرض ثم عمد إلى التفريط فيه مقابل ثمن دون قيمته الحقيقية فطعن الدائن في هذا التصرف بالدعوى البوليانية، فاستجابت المحكمة للطعن بمقولة: " … إن بيع العقار المرهون من شأنه أن يضر بحقوق الدائن المرتهن خاصة وأن ثمن البيع أقل بكثير من قيمة العقار … وهو أمر كاف لإثبات توفر صفة القيام … إذ أن عدم كونه طرفا في العقد المطلوب إبطاله لا يمنع من القيام في طلب الإبطال إذ خوله له             الفصـ 306 ـل مدني ". ويبرّر هذا الحلّ بأن الدعاوي الخاصة المخوّلة للدائن المرتهن بموجب حق التتبع هي رخصة لا تحول دون تمكينه من القيام بالدعوى البوليانية.
على أن هذا المسلك وإن كان يمكن الدائن المرتهن من إزاحة التفويتات التي أجراها المدين شيئ النية على العين المرهونة ومن شأنها أن تعرقل التنفيذ عليها أو تحدّ من جدواه، فإنه يطرح صعوبات عملية عليه إذ القيام بالدعوى البوليانية يقتضي شروطا يصعب عليه إثبات تحققها خاصة منها الإعسار وسوء النية في حين أن حق التتبع المخوّل له بموجب الرهن يمكّنه من التنفيذ على العين حيثما وجدت ولو بين يدي حائز حسن النية، على أن الملاحظ في القضية المذكورة أن الدائن المرتهن كان قد استنفد حقه في التتبع بتبتيت العقار لفائدته لكنه وجد صعوبة في تنفيذه تتحوّز المشتري المتواطئ بالعقار.
 الفقرة الثانية: كيفية القيام

تستوجب دراسة كيفية القيام بالدعوى البوليانية أوّلا تحديد الوضع القانوني للأطراف فيها [ أ ] قبل عرض القواعد الإجرائية المتبعة فيها [ ب ].

[ أ ] – أطراف الدعوى

يفترض كل دعوى قضائية خصومة بين طرف مدّع وبين طرف                مدعى عليه وينضم إلى هذا الطرف أو ذاك عند الاقتضاء دخلاء على معنى           الفصـ 224 ـل م م م ت.
فإذا كان الدائن هو المدّعي في الدعوى البوليانية،  فهل يقوم بها منفردا أم يشترط أن يقوم بها جميع الدائنين في وقت واحد ؟
قد يؤخذ من صيغة الجمع الواردة عليها لفظة " الدائنين " بالفصـ 306 ـل          م ا ع أن الدعوى البوليانية إجراء جماعي يفترض قياما متزامنا لجميع الدائنين مثلما كان عليه الأمر في القانون الروماني، إلا أن الشراح يجمعون اليوم على أنها دعوى فردية يحق لكل دائن القيام بها بمفرده مستقلا عن بقية الدائنين[44] حتى في القوانين التي يستفيد بمقتضاها الدائنون من نتائج الدعوى البوليانية التي يقوم بها أحدهم[45] وهو ما يتأيد أيضا باستعمال المشرع التونسي لعبارة " الدائن " في صيغة المفرد ضمن عنوان القسم الثاني من الباب الرابع والذي تنضوي تحته أحكام الفصـ 306 ـل م ا ع.
على أن الطابع الفردي للقيام لا يحول دون رفع جماعي للدعوى البوليانية في وقت واحد عند افتتاحها أو على التعاقب بطريق التداخل فيها أثناء سيرها ولو لأول مرة لدى الاستئناف[46].  
أما إذا كان المدين تاجرا وحكم بتفليسه، فإن القيام الجماعي يصبح هو المبدأ لكون هذا الحكم يعطّل على الدائنين القيام بالمطالبة منفردين طبقا لأحكام              الفصـ 459 ـل م ت ، ويبقى لأمين الفلسة القيام بالدعوى في حقهم بصفه وكيلا قضائيا على معنى الفصـ 470 ـل م ت ، على الدائنين العاديين والدائنين ذوي الامتياز العام، وفائدتها في هذه الصورة تتمثل في أنها يمكن أن تشمل تصرفات المدين         المضرة بحقوقهم والسابقة عن فترة الريبة Période Suspecte التي تتحدّد بالرجوع إلى تاريخ التوقف عن الدفع طبقا لأحكام الفصول 452 و 462 و 463 م ت، وتلك الواقعة منه خلال تلك الفترة ولكنها ليست من بين التصرفات المشمولة بأحكام الفصلين                    462 و 463 م ت.
على أن فقه القضاء الفرنسي أقرّ استنادا إلى تأويل نصوص مماثلة هي المواد 46 و 47 و 107 و 108 من قانون 25 / 01 / 1985 المتعلق بإنقاذ المؤسسات التي تمر بصعوبات أن استئثار ممثل الدائنين بالقيام في حقهم لدى القضاء لا يمنعهم من القيام بالدعوى البوليانية منفردين أثناء سير إجراءات التسوية أو التفليس[47].
ويمكن سحب هذا الحلّ على دائني المؤسسة أثناء التسوية طبق أحكام             قانون 17 / 04 / 1995، فلئن نصّ الفصـ 12 ـل على التعليق الاختياري للإجراءات القضائية الرامية إلى الاستخلاص قبل التسوية الرضائية، والوجوبي كمفعول لاتفاق التسوية والفصـ 34 ـل على تعطيل كلّ تتبع فردي لنفس الغاية أثناء فترة المراقبة في إطار التسوية القضائية، فإنه لا مانع من قيام أي دائن بمفرده بالدعوى البوليانية طعنا
في التصرفات السابقة عن توقف المؤسسة عن الدفع الذي هو منطلق فترة الريبة الخاصة بالتسوية القضائية والتي خوّل الفصـ 32 ـل للمحكمة إبطال التصرّفات الواقعة خلالها ضرورة أن الإجراءات القضائية التي يتسلط عليها التوقيف والتعطيل إنما هي بصريح مختلف النصوص المذكورة تلك الموجّهة ضدّ المدين والرّامية إلى            " الاستخلاص " و " المطالبة " بالأداء بيد أن الدعوى البوليانية توجّه ضدّ معاقد المدين[48] ولا تستهدف المطالبة بالأداء لاسيما وأنه باضمحلال جماعة الدائنين في ظل قانون 1995 تبعا لتغليب المشرع خيار إنقاذ المؤسسة الاقتصادية على مطلب الوفاء بالديون، لم يعد يملك الدائنون لصيانة حقوقهم سوى الطعن منفردين.
ولئن كانت صيغة " في حق أنفسهم " الواردة بالفصـ 306 ـل م ا ع ، والتي يقابلها في التحرير الفرنسي    En leur nom presonnel " توحي بأن القيام بالدعوى البوليانية  متوقف على الدائن شخصيا، فإنما أراد بها المشرع تمييزها عن الدعوى المنحرفة التي ورد بعض أحكامها بالفصل ذاته ويقيمها الدائن لا باسمه الشخصي ولا في حق نفسه إنما بوصفه نائبا قانونيا عن المدين المهمل لكسبه.
فيجوز القيام بالدعوى البوليانية كسائر الدعاوي بطريقة النيابة اتفاقية كانت بالتوكيل أو قانونية بمقتضى الولاية أو التقديم أو بواسطة مصفي الشركة مثلا على مقتضى الفصـ 1337 ـل م ا ع، أو أمين الفلسة كما تقدم، كما يكون بطريق الحلول Subrogation[49] فمثلا، إذا وفى الكفيل الحق للدائن انتقل إليه حقه بما يلحقه من توابع ودعاوي من ذلك حق الطعن بالدعوى البوليانية إذا كانت شروطها قد توفرت للدائن[50] وذلك بمقتضى الحلول محل الدائن المخوّل له بمقتضى الفصـ 1509 ـل م ا ع. هذا وقد اعتبرت محكمة التعقيب الفرنسية أن المبتت له الذي كان قد وفّى للدائن المرتهن يحل محله في الطعن بالدعوى البوليانية في عقد إجارة طويلة رتبها المدين على العقار المرهون رغم أن الدائن الموفى له كان قد انتفت عنه المصلحة في القيام بها بموجب الوفاء[51].
 أما الدعوى الشخصية المنصوص عليها بالفصـ 1505 ـل م ا ع، فلا يمكن تأسيس الطعن عليها لأن موضوعها ينحصر في قيام الكفيل على المدين بما أدّاه عنه للدّائن مع المصاريف والخسائر التي أوجبتها الكفالة.
أمّا الطرف المقوم ضدّه بالدعوى البوليانية، فإن لم يعينه المشرع بالفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع، فإن القاعدة التي يجمع عليها الفقهاء وأطرد عليها فقه القضاء[52] هي عدم القيام بها ضدّ المدينإذ لا جدوى من مقاضاته حال كونه معسرا بل إنه يشترط لقبول الدعوى أن يكون في حالة إعسار، إنما ضدّ " الغير " المستفيد من التصرف والذي دخل ذمته المالية الكسب الذي أخرجه المدين من الضمان العاموهو معاقد المدين المباشر أو خلفه الخاص عند الاقتضاء، على أن للقيام على المعاقد والمدين معا أو إدخال المدين في الدعوى الدعوى عملا بأحكام الفقرة الثانية من                 الفصـ 224 ـل[53] وإن لم يكن شرطا للقيام[54] جدوى عملية ثابتة للدائن القائم ولمعاقد المدين إذ يسبغ على الحكم الصادر في الدعوى قوة الأمر المقضي تجاه المدين، لذلك نجد هذه الطريقة شائعة في التطبيق مثلما يتضح من تتبع الأحكام والقرارات القضائية في هذا الصدد[55].
[ ب ] – القواعد الإجرائية

تتناول هذه القواعد بمعناها الواسع مرجع النظر وإجراءات الدعوى بدءا من رفعها وأثناء سيرها توصّلا إلى الحكم فيها.
وبما أن الدعوى البوليانية من مباحث القانون المدني لا قانون المرافعات فإنه يجب النظر إلى طبيعتها القانونية وخصائصها المدنية لتحديد انعكاسها على النواحي الإجرائية لدى القيام بها.
لقد استقر رأي الفقه وفقه القضاء[56] اليوم على أن الدّعوى البوليانية هي دعوى شخصية، بعد استبعاد الرأي القائل بطبيعتها العينية أو المختلطة[57]، فالدائن يستند دائما إلى حق شخصي ولو ترتب له من الحكم مثلا إمكانية التنفيذ على العقار الذي تصرف فيه المدين فإنه لا يفعل ذلك بوصفه مالكا لهذه العين أو صاحب حق عليها، وإنما استنادا إلى حقه في الضمان العام على أموال المدين الذي هو حق شخصي، فهي دعوى لا تستهدف مباشرة نزع ملكية العقار من معاقد المدين وإستنادها إلى الدائن القائم بها وإنما إلغاء التصرف تمهيدا للتنفيذ عليه[58].
وتترتب على هذا الوصف آثار هامة على الصعيد الإجرائي، بالنسبة إلى مرجع النظر الترابي، تقام الدعوى البوليانية لدى المحكمة التي بدائرتها مقر المطلوب أو مكان تنفيذ العقد المطعون فيه عملا بأحكام الفصلين 30 و 36 من م م م ت، لا المحكمة التي بدائرتها العقار محل التصرف المطعون فيه.
أما مرجع النظر الحكمي، فبما أن الدعوى البوليانية هي دعوى شخصية لكونها مبنية على التزام شخصي على معنى الفصـ 20 ـل م م م ت و تستهدف بطريق غير مباشر ضمان الوفاء به، وذلك بتمكين الدائنين من تعقب الأموال التي يخرجها المدين من ضمانهم العام[59]   فإنه يمكن تحريره بالاعتماد على مقدار الدين الذي تتأسس عليه لا القيمة المصرّح بها في التصرّف المطعون فيه، فينعقد الاختصاص لحاكم الناحيةأو المحكمة الابتدائية بحسب ذلك المقدار.
كما يترتب على الصبغة الشخصية للدعوى أن المطلوب وإن كان حسن النية لا يجوز له مجابهة الدائن القائم بالدفوع التي يحق لهإثارتها في الدعاوي العينية، فلا يقبل دفعه باكتساب العقار الموهوب له من المدين مثلا بالحوز ذي المدة المخفضة، لأن مثل هذه الدفوع ترمي إلى حماية الحائز تجاه منازعات الاستحقاق والتي لا تنتمي إليها الدعوى البوليانية[60].
ولما كان الدائن يستند في الدعوى البوليانية إلى حقه، فإن الطابع الشخصي ثابت فيها، في حين أنه يقوم في الدعوى المنحرفة مقام مدينه فتختلف طبيعة هذه الدعوى بحسب ما إذا كانت حقوق  المدين شخصية أو عينية، ولهذا فلا لزوم في الدعوى البوليانية أن يستأذن الدائن القاضي في الحلول محلّ المدين فيما له من حقوق[61]، وبما أن الدائن القائم لا يمثل مدينه فلا يحق للمطلوب أن يحتج عليه بالدفوع التي له على المدين كانقضاء الالتزام أو بطلانه.
على أن سلوك طريقة الدعوى البوليانية لا يمنع من القيام بغيرها من الدعاوي أو العكس، فما لا يمكن إدراكه من أموال المدين بالدعوى المنحرفة مثلا كتلك الراجعة له من تعويض عن ضرر بدني أو معنوي أصابه والتي هي مستثناة من مرماها، يمكن إدراكه بواسكة القيام بالدعوى البوليانية إن ثبت أن المدين نزل عنها إضرارا بدائنيه[62] وكذلك إذا أبرم المدين عقدا احتياليا تحت ستار عقد آخر، فإنه ينبغي القيام أولا بدعوى إعلان الصورية للكشف عن العقد الحقيقي المستتر ثم القيام بالدعوى البوليانية لطلب إلغاء هذا العقد[63]، كما يمكن القيام أولا بالدعوى البوليانية للطعن في تنازل المدين عن تركة أو وصية ثم التدخل بالدعوى المنحرفة لقبولها بدلا منه، فيمكن للدائن إذا ممارسة الدعوى البوليانية ودعاوي أخرى الواحدة تلو الأخرى على التعاقب، وليس للمطلوب حينئذ أن يحتج لدفع الدعوى الثانية بقرينة الفصـ 481 ـل من م ا ع نظرا لاستقلال كلّ واحدة عن الأخرى في الموضوع والسبب.
كما يمكن أن يمارس الدائن الدعوى البوليانية وغيرها من الدعاوي متداخلة في وقت واحد، فإذا كان القيام بها يكون غالبا في شكل دعوى أصلية، فإنه من المسلّم به أن كلمة " قيام " تنصرف إلى الدعوى وتشمل أيضا الطعن والدفع[64]، فيجوز للدائن رفع الدعوى البوليانية ضمن دعوى أخرى وأثناء سيرها إما مسألة أولية كما لو واجهه المطلوب في دعوى منحرفة بأن المدين قد أبرأه من الدين، فيمكنه الدفع بأن الإبراء صدر غشا وتواطؤا بينهما، فيكون على المحكمة الفصل في هذا الدفع على أساس مدى توفر شروط الدعوى البوليانية قبل البت في مآل الدعوى المنحرفة، وإما كدعوى فرعية متصلة بطلب أصلي في الحكم بالأداء وإلا فإلغاء تصرف للمدين إذا ثبت أنه يعوق تنفيذ الحكم بثبوت تسببه في إعسار المدين، وإما كدعوى معارضة لردّ دعوى الاستحقاق التي يرفعها مشتري العقار من المدين إثر إشكال تنفيذي حكم بجديته، فإنه يجوز للدائن العاقل أن يدفع بالطعن في العقد الذي بنيت عليه دعوى الاستحقاق لصدوره من المدين قصد تهريب العقار عن متناوله، وهي صورة شائعة في التطبيق[65]، كما يجوز للدائن أن  يطعن في دعوى واحدة في التصرف بالصورية وبالدعوى البوليانية معا على سبيل الخيرة فيحاول أولا إثبات الصورية، فإن لم ينجح بأن كان العقد حقيقيا انتقل إلى إثبات تحقق شروط الطعن بالدعوى البوليانية[66].

المبحث الثاني: تأسيس القيام على كل أنواع الديون

تبعا لامتداد حق القيام بالدعوى البوليانية إلى كافة الدائنين، يمكن أن تستند هذه الدعوى إلى كلّ أنواع الديون ذلك أن الضمان العام يغطي كل التزامات المدين ونظرا لتنوع الديون فإنه يتجه أولا تصنيفها [ الفقرة الأولى ] قبل تحليل ما يلزم أن يتوفر فيها من الشروط لتصلح أساسا للقيام [ الفقرة الثانية ].

الفقرة الأولى: تصنيف الديون

يمكن تصنيف علاقات الدائنية التي تنشأ بين الدائن ومدينه اعتمادا على معيارين جامعين هما مصدر الدين [ أ ] ومحلّه [ ب ].

[ أ ] – من حيث المصدر

المراد بمصدر الدين هو السبب القانوني الذي أنشأه، ولقد رتب المشرع ضمن الفصل الأول من مجلة الالتزامات والعقود مصادر الالتزام على المنوال التقليدي فحصرها في الاتفاقات وغيرها من التصريحات الاختيارية وشبه العقود والجنح وشبهها، خلافا للتصنيف الفقهي الحديث بين الوقائع المادية والتصرفات القانونية ولكن ما يستنتج من كلا التصنيفين أن الالتزام يمكن أن ينشأ عن عقد أو غيره من الأعمال الإرادية أو غير الإرادية. إلا أنه بالرجوع إلى أحكام الدعوى البوليانية المنصوص عليها بالفصـ 306 ـل م ا ع، نجد المشرع قد أوردها في القسم الثاني من الباب الرابع من المجلة والذي عنوانه " في بعض وسائل يحصل بها الوفاء بالعقود "،  فهل معنى ذلك أن هذه الدّعوى مقصورة على الدائنين الذين لهم ديون عقدية وليس لمن عداهم ممن لهم ديون تجاه المدين مستمدة من تصرّف أحادي الجانب أو شبه عقد أو جنحة أو شبه جنحة ممارستها ؟
يكون الجواب بالإيجاب إذا وقفنا عند ظاهر نصّ العنوان المذكور، لكن بالتأمل في صياغته الفرنسية، نجد أن المشرع استعمل في مقابل عبارة " العقود" التي تشير إلى أحد مصادر الالتزام عبارة " Obligations " التي تعني الالتزامات بوجه عام بما يفيد إمكانية تأسيس الدعوى البوليانية على كافة أنواع الديون سواء كان مصدرها العقد أو غيره فيكون نطاق الدعوى باعتماد التحرير الفرنسي أوسع مما قد يكون عليه لو اقتصرنا على الصياغة العربية، غير أن هذا التأويل يعوقه مقتضى الفصل الأول من قانون 5 جويلية 1993[67] الذي نص على أن نشر القوانين بلغة أخرى غير العربية يكون على سبيل الإعلام لا غير، وأنه في صورة الاختلاف يغلّب النص العربي.
إلا أن هذه القاعدة لا تحول دون الرجوع إلى النص الفرنسي باعتباره ترجمة رسمية للنص العربي إذا كان يكتنف هذا النص الغموض وعدم الدقة وذلك على سبيل الاستئناس لتوضيح معناه الصحيح[68].
ثم إن هذا التأويل الموسّع يؤيّده نصّ الفصـ 306 ـل من م ا ع ذاته إذ وردت عباراته مطلقة، فباستقراء عبارتي " الدائنين " و " حقوقهم "، يفهم أن المشرع أراد سحب حق ممارسة الدعوى البوليانية على كافة الدائنين استنادا على حقوقهم لا فرق بين ما كان منها ذا مصدر عقدي أو غير عقدي، خاصة وأنه يجب تغليب نصوص الفصول من ناحية القوة الملزمة على نصوص العناوين والتي يعتمدها المشرع لتبويب أحكـام
المجلة فحسب، كما أن اعتماد التأويل الضيق يتعارض مع الإنصاف إذ يترتب عليه حرمان الدائنين ذوي الديون غير التعاقدية من الطعن في تصرفات مدينهم الاحتيالية التي من شأنها الإضرار بحقوقهم إذ ولئن كانت الديون التعاقدية هي الأكثر عددا، فإنها لا تمثل كلّ الديون، كما أن الدعوى البوليانية تتأسس على صيانة الضمان العام الذي يسنده القانون إلى كلّ دائن على ذمة مدينه أيا كان سند دينه أو مصدره.
فالدعوى البوليانية إذا إجراء مفتوح لكافة الدائنين مهما كانت مصادر ديونهم       لا فرق بين ما إذا كان مصدر هذا الحق تصرفا قانونيا أو واقعة مادية[69]، فالبائع دائن بالثمن، والمتضرر من عمل غير مشروع دائن بالتعويض والمفتقر دائن للمثري بلا سبب. ويؤكد هذا التطبيق القضائي، فقد جرى عمل المحاكم على النظر في هذه الدعوى سواء كان مصدر حق الدائن تعاقديا ناشئا مثلا عن عقد قرض[70] أو عقد حساب جار[71]      أو ترتب على جنحة[72] أو كان مصدره القانون كدين النفقة أو ترتب للخزينة بمقتضى التشاريع الجبائية[73].
أما الالتزامات الطبيعية كالدين الذي يسقط بمرور الزمان ولم يف به المدين اختيارا، أو ما يطلق عليه الالتزام الناقص الذي هو في الأصل واجب أدبي لا يمكن إجبار المدين على تنفيذه لانتفاء عنصر المسؤولية فيه والذي يخوّل للدائن الالتجاء إلى القضاء إمّا للاحتياط من عدم الوفاء أو للإجبار على التنفيذ[74]، فإن الدائن لا يمكنه الطعن استنادا إلى هذا النوع من الالتزامات بالدعوى البوليانية في تصرفات مدينه.
هذا والمقصود بالمصدر أيضا هو السند الذي يجسّد الدين، فيمكن للدائن القيام بالدعوى البوليانية سواء كان حقه موثقا بكتب غير رسمي كورقة تجارية أو عقد خطي أو بحجة رسمية.
[ ب ] – من حيث المحل

ليس المراد بالطبيعة الشخصية للدعوى البوليانية اقتصارها على الدائنين الذين لهم حقوق شخصية على مدينهم إذ أن الدائن الذي له حق عيني على عقار أو منقول للمدين تثبت له في واقع الأمر صفتان أولاهما صفته باعتباره ذا حق عيني يرتكز حقه على العين ويخوّل له عليها كلّ الصلاحيات التي يمنحها سائر الحقوق العينية خصوصا الأفضلية والاستئثار، وثانيتهما صفته باعتباره دائنا شخصيا وله من هذه الناحية ما لسائر الدائنين الشخصيين من حق في الضمان العام، فالمشتري مثلا يتكون حقه من عنصرين هما المال المبيع وله ملكيته وبقية أموال المدين وهي ضمان عام له ولسائر الدائنين وكذلك الموصى له يصبح بوفاة الموصي دائنا للورثة في العين الموصى بها، فيجوز له الطعن في تصرفات المدين في كلتا الحالتين إذا حالت دون توصله إلى حقه بعينه بواسطة الدعوى البوليانية إن استوفت شروطها شأنه في ذلك شأن كل دائن شخصي فلا تعارض إذا بين الصبغة الشخصية لهذه الدعوى والطبيعة العينية لحق الدائن المؤسسة عليه لأن صلاحيته في القيام بها إنما تنبثق من صفته كدائن شخصي ويستند فيها إلى حقه في الضمان العام، ولذا يجب استبعاد التكييف القانوني الذي أسنده بعض الفقهاء إلى هذه الدعوى على أنها دعوى عينية أو دعوى مختلطة بحسب طبيعة الحق الذي تتأسس عليه، إذ لا تأثير لهذا الحق على طبيعة الدعوى.
ثم إنه وإن كان الأصل في الوفاء بالالتزامات هو أن يكون عينيا أي أن يقوم المدين بأداء نفس موضوع الالتزام وبالطريقة المحددة لذلك بمقتضى سنده اتفاقا كان أو قانونا، فإنه إذا كان محل التزام المدين مثلا عملا أو امتناعا عن عمل سواء كان التزاما بتحقيق نتيجة أم ببذل عناية، فلا يجبر على تنفيذه عينا لتعذر ذلك قانونا لما فيه من جبر بدني يسلط على شخص المدين، فيكتفي بالتنفيذ بمقابل وذلك بمطالبته بالخسارة[75] وهكذا فإن الالتزامات تنشأ عينية من حيث محلها أو في الكيفية المبدئية لتنفيذها لكنها تتحوّل إلى التزامات شخصية محلها أداء مقدار مالي تعويضا عن عدم الوفاء، فمن التزم بتسليم عين معيّنة بموجب عقد بيع مثلا وتلفت أو تعيب بفعله أو تفريطه، ضمن للدائن قيمتها فيغرّم مبلغا من النقود يعادل قيمتها ويعوّض هلاكها أو تعيبها[76].
على أن حق ممارسة الدعوى البوليانية ولئن كان مخوّلا نظريا لكل دائن سواء كان موضوع حقه مقدارا من المال أو عينا معينة أو عملا أو امتناعا عن عمل، فإن واقع التطبيق القضائي في هذا الصدد تغلب عليه الدعاوي المؤسسة على الديون بأداء مقدار مالي[77] ولعل مرد ذلك أن استيفاء الديون بعمل أو امتناع عن عمل أو حق عيني يدخل أساسا في نطاق أحكام المسؤولية المدنية من ذلك مثلا إخلال الواعد ببيع العقار بالتزامه الشخصي بعمل هو إتمام البيع النهائي وذلك بالتفويت في العقار إلى شخص ثالث وحرمان الموعود بالبيع من حقه في الخيار إنما يدخل في مجال المسؤولية العقدية ولا يمكن الطعن فيه بالدعوى البوليانية إلا إذا استوفت شروطها، ومع ذلك فإن القضاء الفرنسي[78] قبل في شأنه أحيانا القيام بالدعوى البوليانية دون فحص مدى توفرّ شروطها وهو ما أفضى إلى توسيع مفرط في نطاق هذه الدعوى وطمس خصوصياتها وإخراجها من ميدانها الأصلي[79] لتستغرق صورا من مشمولات أحكام المسؤولية.
وإذا كانت الديون كلّها تصلح أساسا للقيام بالطعن بالدعوى البوليانية إذا استجمعت أركانها، فإنه يتعين أن تستوفي في هذه الديون جملة من الشروط.

الفقرة الثانية: شروط الدين

إن خطورة الدعوى البوليانية باعتبارها تستهدف الطعن في تصرفات المدين ومن ثم تنال من استقرار المعاملات تستلزم أن يكون الدين الذي تتأسس عليه من الجدية بما يضمن الموازنة بين حقوق الدائن القائم ومصالح المعاقد المقوم ضده والذي ترتبت له هو أيضا حقوق من المدين، فيجب أن يستوفي هذا الدين جملة من الشروط في علاقته بتصرف المدين بأن يكون قد نشأ قبل إبرامه [ أ ] وأن يكون في ذاته ثابتا ومستحق الأداء [ ب ] على أن هذه الشروط لم تعد مطلوبة في مطلق الأحوال إذ أدخل عليها التطبيق القضائي عدة استثناءات.

[ أ ] – دين نشأ قبل تصرف المدين

لئن خلا الفصـ 306 ـل م ا ع من إشارة إلى شرط أسبقية الدين عن تصرف المدين[80]، فإن فقه القضاء تواتر على الأخذ به[81] والفقهاء يجمعون على أنه شرط جوهري يقتضيه القانون الروماني حيث الدعوى البوليانية إجراء جماعي لفائدة الدائنين السابقة حقوقهم عن التصرف المطعون فيه، ويبررونه بمقولة أنه لا يتصوّر أن يضرّ تصرف المدين بدائن نشأ حقه بعد التصرف ووجد ذمة المدين وقد افتقرت بخروج المال بموجب ذلك التصرف فلا يملك إلا أن يعتمد عليها وهي على هذه الحال وليس له التظلم من ذلك، كما أن المدين لا يعمد إلى الغش غالبا إلا للنيل من حقوق دائنيه التي ترتبت عليه بعد ويندر أن يقصد بتصرفه الإضرار بدائنين لم تنشأ لهم حقوق عليه بعد، فأهمية هذا الشرط مردّها ارتباطه بركني الدعوى الأساسيين أي الضرر والغش[82].
على أن هذا التفسير يفقد كثيرا من قيمته بالنظر إلى اتساع مخيلة المدين لطرق غش لا متناهية المقصود منه الإضرار بدائنين لم تثبت حقوقهم نهائيا قبل تصرفه وقد أظهر التطبيق القضائي أمثلة متنوعة لذلك إذ قبلت المحاكم الطعن بالدعوى البوليانية في تفريط مدين تعلقت به جنحة في أملاكه تفصيا مما قد يحكم به عليه من تعويضات للمتضررين بيد أن الدائن بالتعويض لم يكن حقه حين إبرام التصرف قد ثبت نهائيا بمقتضى الحكم[83] وكذا الشأن بالنسبة إلى الكفيل الذي يتناهى إلى علمه عسر المدين الأصلي فيسارع إلى التفريط في مكاسبه قبل أن يطالبه الدائن[84] وكذلك تصرفات المطالب بالضريبة المقصود منها التهرب من الأداء الجبائي والتي وإن سبقت إجراءات التسوية الجبائية التي أخضع لها، فإن للإدارة في حق الخزينة العامة الطعن فيها بالدعوى البوليانية تأسيسا على نشأة الدين الجبائي منذ قيام سببه المنشئ Fait Générateur لا تاريخ الشروع في إجراءات التسوية[85].
واستنتج  الفقهاء من الحلول القضائية أن العبرة في شرط الأسبقية بتحقق السبب المنشئ للدين قبل إبرام التصرف  أي بالوجود لا بالاستحقاق وأنه يكفي أن يكون مبدأ الدين على الأقل ثابتا حين إبرامه Un principe cretain de créance                          أو Créance en greme [86] وهو ما كان يقتضيه صراحة الفصـ 353 ـل من المشروع التمهيدي للقانون المدني والتجاري للمملكة التونسية الذي نصّه: " لا يجوز طلب الفسخ إلا من الدائنين الذين سبق سبب حقوقهم تاريخ العقد المطلوب فسخه "[87].
وعلى ما في شرط الأسبقية بهذا المفهوم من مرونة، فإن فقه القضاء تجاوزه غير مرة واستثنى من مجال تطبيقه الصور التي يبرم فيها المدين تصرفات بطريقة احتيالية محبوكة قصد النيل من حقوق ستنشأ في ذمته لاحقا لفائدة دائن مستقبل سواء كان هذا الدائن معيّنا حين التصرف غير معين[88] وقد سايره الفقهاء في هذا الاتجاه[89] ولكنهم اعتبروا أن الدعوى لا تسمع إذا تأسست على دين نشأ بعد تصرف المدين وذلك من جراء جنحة غير قصدية ارتكبها لأنه لا يمكن اتهام المدين بالغش في تصرفه ما دام الحادث غير متوقع لديه وقت إبرام التصرف[90].
فإذا كان مبدأ اشتراط الأسبقية محلّ إجماع، فإن الجدل الفقهي والقضائي انحصر في كيفية إثباتها. 
فالقاعدة أن عبء إثبات الالتزام محمول على القائم به، وبما أن الأسبقية شرط من شروط الدعوى البوليانية، والدائن القائم بها هو الذي عليه إثبات توفر جميع شروطها، فيكون على الدائن إثبات حقه بما في ذلك إثبات كونه سابقا عن التصرّف المطعون فيه.
أما وسائل إثبات الأسبقية فتختلف باختلاف مصدر حق الدائن، فإذا كان واقعة قانونية كالعمل غير المشروع، أمكن للدائن إثبات تاريخ نشأته بكافة الوسائل تطبيقا للقواعد العامة، أما إذا نشأ حقه عن تصرف قانوني وكان مطلوبا إثباته بكتب فإنه يجب الإدلاء به إذا كان رسميا، ويتعين زيادة على ذلك أن يحمل تاريخا ثابتا إذا كان خطيا أي حجة غير رسمية لأن الدائن يواجه في الدعوى البوليانية معاقد المدين الذي هو غير بالنسبة إلى علاقة المديونية[91]، وبما أن الدائن يعتبر غيرا بالنسبة إلى عقود مدينه، فإنه لا يمكن مجابهته بها إلا متى كانت تحمل تاريخا ثابتا على منوال ما نص عليه              الفصـ 450 ـل م ا ع، لذلك يكون التاريخ الثابت بها حجة للدائن أو عليه[92].     
ويرى أغلب الفقهاء أنه يلزم الدائن إقامة الدليل على ثبوت تاريخ حقه درءا لما قد يتواطؤ عليه هو والمدين من عبث بتاريخ السند والذي هو أمر غير مستبعد في التطبيق إذ يمكن مثلا للمدين الذي ندم على هبة فرّط بموجبها في بعض أمواله وأراد الرجوع فيها في غير الصور القانونية أن يتفق مع دائن لاحق لها على الطعن فيها بالدعوى البوليانية مع تقديم تاريخ سند حقه[93].
وتتقررّ أسبقية تاريخ حق الدائن نتيجة لمقارنة تاريخ سنده بتاريخ التصرف الذي يجب أن يكون هو الآخر ثابتا ولا يمكن للمعاقد الاعتداد بأسبقية تاريخ إقامة التصرّف لحق الدائن إن لم يكتسب هذا التصرف تاريخا ثابتا إلاّ بعد نشوء ذلك الحق، ومثال ذلك مشتري العقار الذي يمضي العقد لكن لا يسجله بقباضة المالية طبق أحكام              الفصـ 581 ـل م ا ع، إذا كان العقار غير مسجل ولا يتمم ترسيمه طبق أحكام       الفصـ 305 ـل م ح ع، إذا كان العقار مسجلا، وينشأ في الأثناء حق الدائن بتاريخ ثابت وعن حسن نية، فإن هذا الحق يعدّ أسبق من العقد لأنه لم يحز تاريخا ثابتا إلا بعد نشوء الحق[94]، أما إذا لم يثبت الدائن أسبقية حقه بكتب ثابت التاريخ، فإن الدعوى لا تنجح سواء أكان التصرف المطعون فيه ثابت التاريخ أم لا[95].
وأمام الصعوبات التي يطرحها اشتراط إثبات الأسبقية بتاريخ ثابت على الدائن بما يعرّض دعواه إلى الفشل، دعا بعض الفقهاء إلى التخلي عنه وتمكين الدائن من إثبات أسبقية حقه بمختلف الوسائل باعتبار أن اشتراط التاريخ الثابت يتعارض مع مفهوم الأسبقية القائم على الاكتفاء بوجود حق مبدئي للدائن قبل إبرام التصرف المطعون فيه[96] فيما استند البعض الآخر إلى أن إثبات الأسبقية جزء لا يتجزأ من إثبات الغش في جانب المدين والذي يمكن إثباته بجميع الوسائل، فإذا أثبت الدائن الغش، ثبتت أسبقية حقه بطريق الاستنتاج وما على المعاقد المقوم ضدّه إلاّ إثبات أن هذه الأسبقية اكتسبت عن سوء قصد[97] وقد تبنت محكمة التعقيب الفرنسية ذات الموقف في أحد قراراتها المبدئية[98] ولئن أثار هذا الحل نقد بعض الشراح[99]، فإنه مؤسس على اعتبار الأسبقية  عنصر واقعيا  élément de fait يثبت بجميع الوسائل في إطار إثبات الغش ولا يرقى إلى درجة الشرط القانوني في الدعوى خاصة وأن الفصـ 306 ـل من م ا ع لم يتعرّض إليه، فضلا عن أنه يفضي إلى توسيع نطاق ممارسة الدعوى البوليانية بما فيه حماية أنجع لحقوق الدائنين.

[ ب ] – دين ثابت ومستحق الأداء

أوّل ما يشترط في الدين سند الدعوى البوليانية أن يكون ثابتا أي خاليا من النزاع، فالدائن الذي يدّعي بحق ما زال خاضعا للنقاش في أساسه كما لو كان موضوع نزاع قيد النظر لدى المحاكم لا يجوز له أن يطعن في تصرفات المدين[100].
على أن ثبوت الدين ليس المراد منه اشتراط أن يتضمنه سند قابل للتنفيذ لكن ليس معنى ذلك أن الحكم في الدعوى سيكون في ذاته سندا تنفيذيا للدائن مثلما ذهبت إلى ذلك محكمة التعقيب في أحد قراراتها بقولها إن " الدائن سيحصل على هذا السند عند رفع الدعوى البوليانية ذلك أن المحكمة في هذه الدعوى تبحث صفة المدعي، فإذا ثبت أمامها أنه دائن فحكمها بإجابة الدائن في الطعن في عقود مدنيه حكم بثبوت حقه فيصبح هذا الحق قابلا للتنفيذ[101] ". ذلك أن موضوع الدعوى هو طلب إلغاء التصرف المطعون فيه لا التحصيل على حكم بالأداء يكون سندا تنفيذيا للدائن إلا إذا اقترن طلب الإلغاء بطلب أصلي في الأداء خاصة وأن الغالب في التطبيق هو أن الدائن في أغلب الأحيان لا يسلك طريقة الدعوى البوليانية إلا إذا كان بيده سند تنفيذي سبق أن استصدره ضد المدين بحكم أو أمر بالدفع صار قابلا للتنفيذ أو ضرب عقلة تحفظية على مكاسبه ولم يجد ما يعقله نظرا لإعساره ثم تفطن إلى أنه قد فرط في بعض مكاسبه وهو نفس ما انبنى عليه هذا القرار وغيره من حيث الأصل[102]
ويؤخذ من عدم لزوم ثبوت الدين بسند تنفيذي للطعن في تصرفات المدين أن الدعوى البوليانية لا ترقى إلى درجة الإجراء التنفيذي وتتعدّى في الوقت نفسه مجردّ التحفظ على أموال المدين فهي وسيلة وسطى فوق التحفظ ولكنها دون التنفيذ ولا تستغرقه[103] وقد أشار المشرع اللبناني صراحة إلى هذه الخاصية ضمن المادة 275 من قانون الموجبات والعقود حيث عدّها من " … الوسائل المتوسطة التي تمهّد سبيل التنفيذ … بدون أن يتم ذلك ".
وهذه الخاصية هي نفسها مناط الشرط الثاني في الدين حتى يصلح اساسا للقيام بالطعن في تصرفات المدين، وهو شرط الحلول.
فإذا كان المشرع قد أجاز للدائن الذي دينه معلّق على شرط بمقتضى            الفصـ 135 ـل م ا ع أو مقترن بأجل بمقتضى الفصـ 148 ـل م ا ع، صيانة حقوقه بالطرق التحفظية ولو قبل حصول الشرط أو حلول الأجل إذا كان هناك خطر ملّم         أو أسباب معتبرة من شأنها أن تهدّد الوفاء، فإنه يمكن أن نقول مبدئيا مع بعض الفقهاء[104] إن الدعوى البوليانية بما هي إجراء يتعدى مجرّد التحفظ على أموال المدين إلى التمهيد لعقلتها، تعدّ إجراء خطيرا من شأنه أن ينال من استقرار المعاملات ولا يجوز للدائن الذي لم يحل دينه أن يطعن بموجبها في عقود مدنية فيتعين أن يكون دينه قد حل زمن القيام لا زمن التصرّف المطعون فيه.
إلا أنه بالرجوع إلى التطبيق القضائي، يلاحظ تقريب الدعوى البوليانية من الإجراءات التحفظية، وتوخي المحاكم تبعا لذلك المرونة في الأخذ بشرط حلول الدين، فبعد أن كانت المحاكم الفرنسية تقضي برفض الدعوى متى كان الدين معلقا على شرط[105]، اعتبر هذا الحلّ تضبيقيا خاصة وقد استقر فقه القضاء على الاكتفاء بوجود دين مبدئي غير ثابت زمن إبرام التصرف المطعون فيه[106].
أما في زمن رفع الدعوى، فإنه إذا كان ثبوت الدين ضروريا، فإن استحقاقه غير مشروط سواء كان مؤجلا أم معلقا على شرط وفق ما ذهبت إليه محكمة التعقيب الفرنسية التي حسمت بهذا الموقف جدلا كان قائما بين الفقهاء بناء على اختلافهم في وصف الدعوى بكونها تحفظية أو تنفيذية[107].
وإذا كان هذا الحلّ مستجدا بالنسبة إلى الديون المعلقة على شرط، فإنه لا يعدو أن يكون بالنسبة إلى الديون المقترنة بأجل تطبيقا للقواعد العامة، إذ أن الدين المؤجل يسقط أجله تلقائيا ويستحق حالا بسبب عسر المدين أو سوء نيته كما لو كان الدائن مرتهنا ونقص المدين بفعله من الشمان الذي أعطاه إياه عملا بأحكام                    الفصـ 149 ـل  م ا ع[108]، وتحقق هذين العنصرين لازم في الآن نفسه لممارسة الدعوى البوليانية.
وقد تبنت محكمة التعقيب التونسية حلاّ مشابها بشأن دين مؤجل غير مستحق فقبلت طعن بنك في تصرّف أحد عملائه ممن لهم حساب جار مفتوح لديه بالتفويت إلى
زوجته في عقار له بثمن بخس حال أن هذا الحساب مدين للبنك بمبالغ طائلة ولم يقفل بعد وظل حاصله السلبي غير نهائي، مما يجعل الدين المترتب عليها غير مستحق الأداء على معنى الفصـ 732 ـل م ت، وقد جاء في هذا القرار أن " شرط استحقاقية أداء الدين غير لازم لأن المشرع لم يشترطه "[109].
ويرى أحد شراح القانون التونسي أنه إذا كان يجوز للدائن المؤجل القيام بالطعن بالدعوى البوليانية لأنها تفترض إعسار المدين الذي هو من مسقطات الأجل، فإن الدائن المعلق دينه على شرط حقه غير موجود ما لم يحصل الشرط، وعليه، لا يتصوّر أن يحصل لهذا الحق ضرر، فلا يقبل منه القيام بهذه الدعوى ويكفيه لحفظ مصالحه المتوقع حصولها اتخاذ الوسائل الاحتياطية لصيانة دينه عملا بأحكام الفصـ 135 ـل             من م ا ع، خاصة وقد خطر المشرع بموجب الفصـ 134 ـل م ا ع على المدين بدين معلق على شرط إجراء أي عمل قبل حصول الشرط من شأنه أن يمنع الدائن من إجراء حقوقه أو يجعله صعبا عليه عند تمام الشرط، ورتب على حصول الشرط إلغاء أعمال المدين السابقة عنه إذا كانت مضرة بالدائن[110].         
على أن هذا الرأي لا يتماشى وما توصل إليه فقه القضاء من جواز الطعن في تصرفات المدين استنادا إلى دين مبدئي، ثم إن التطبيق القضائي أظهر إمكانية تصرف المدين بنية الإضرار بدائن مستقبل، فضلا عن أن الإلغاء المنصوص عليه           بالفصـ 134 ـل م ا ع كجزاء لأعمال المدين المانعة للدائن من إجراء حقوقه يمكن قانونا أن يكون أيضا نتيجة لدعوى طعن، وعليه وفي غياب فقه قضاء في هذا الصدد يمكن القول إنه يجوز في القانون التونسي  للدائن الذي كان حقه وقت تصرف المدين معلقا على شرط الطعن في التصرف شريطة أن يكون حين القيام مستحق الأداء لأن صفة القيام لا تتحقق فيمن دينه معلق على شرط إلا بحصوله ذلك أن الشرط أمر مستقبل غير متحقق الوجود.
وهذا الجدل الذي أثير حول شرط استحقاق الأداء نظرا لسكوت المشرع في          الفصـ 306 ـل م ا ع والمادة 1167 م م ف، لا نجد له نظيرا في ظل القوانين المدنية العربية المقارنة التي حسمت الأمر فاشترطت صراحة أن يكون الدين سند القيام بالدعوى البوليانية مستحق الأداء[111] قبل إبرام التصرف المطعون فيه أو على الأقل قبل القيام[112].
ويعتبر مستحق الأداء الدين المعلّق على شرط أو أجل فاسخين لأنهما لا يحولان دون قيام الدين واستحقاق أدائه قبل تحققهما[113].
ولم يشترط المشرع التونسي في الفصـ 306 ـل م ا ع، ولا التشاريع المقارنة أن يكون الدين معين المقدار لا زمن إبرام التصرف المطعون فيه ولا زمن القيام بدعوى الطعن، وقد جاء في القرار التعقيبي عـ 3669 ـدد [ ن.81، ج3، ص 136 ] المؤرخ في 7 أكتوبر 1981 أن الدعوى يجوز القيام بها " بصرف النظر عن مقدار      الدين "، لكن يبدو أن محكمة التعقيب عدلت عن هذا الحلّ حين أقرّت أن " المشرع وإن لم يوجب بنصّ الفصـ 306 ـل م ا ع أن يكون بيد الدائن سند تنفيذي إلا أنه يجب أن يثبت لدى المحكمة صفة الدائنية ومقدار الدين "[114].
وهذا الموقف نجد محكمة التعقيب الفرنسية قد تبنّته في خصوص الديون التي موضوعها مبلغ مالي[115]، غير أن هذا الحلّ لقي نقدا من الفقهاء لكون شرط التعيين أضحى عديم الفائدة بعد أن استقرّ فقه القضاء اليوم على جواز الطعن على أساس دين مبدئي[116] فضلا عن كونه يفضي إلى حرمان الدائن الذي دينه ثابت ومستحق الأداء من الطعن في تصرّفات مدينه المضرّة بحقوقه بعلّة أنه غير معيّن المقدار خصوصا وأن الديون النقدية هي الأكثر شيوعا في التطبيق، ولذلك فالحل السائد في فقه القضاء الفرنسي، وما عليه أغلب الفقهاء هو أن تعيين مقدار الدين ليس شرطا لممارسة دعوى الطعن، إنما يكفي أن يكون هذا التعيين ممكنا زمن التصرف أو حتى زمن القيام إذ للمحكمة أن تأذن بتعيينه بطلب من الدائن خاصة في الصور التي يكون فيها المدين مشمولا بالدعوى وكانت مقترنة بطلب أصلي في الأداء[117].

الفصل الثاني: الدعوى تستهدف تصرفات المدين

الدعوى البوليانية أداة لمحاربة غش المدين[118]، وبما أن الغش عمل إداري، فإنه يفترض أن لا يتأتى إلا من تصرّف قانوني، لذلك لا توّجه هذه الدعوى إلاّ ضد تصرفات المدين القانونية[119]، سواء باشرها بنفسه أو بواسطة نائب أما أعماله المادية الصرفة فتخرج عن مناط الطعن إذ لا يتصوّر أن تنطوي على سوء نية بالمفهوم المعتبر في إطار هذه الدعوى، والذي هو إرادة الإضرار بالدائنين، فلو أن المدين تسبب عمدا أو إهمالا بغير قصد في الإضرار بالغير بعمل غير مشروع، فأوجب هذا العمل قيام مسؤوليته وتعويضه للضرر وتسبب ذلك في إعساره، فلا سبيل للدائن إلى الطعن في هذا العمل بحكم أنه نافذ ضرورة في حقه[120].
والتصرف موضوع الطعن لا بدّ أن يكون جدّيا، فإذا كان صوريا أضحى من مشمولات دعوى إعلان الصورية، على أنه يمكن للغرماء الطعن في تصرف المدين ولو كان باطلا لسبب من أسباب البطلان المطلق أو النسبي[121] أما لو انقضت الالتزامات الناشئة عنه بأحد أوجه الانقضاء التي ترجع بموجبها ذمة المدين إلى الحالة التي كانت عليها قبل التصرف، فإن الدعوى تصبح وقتئذ غير ذات موضوع.
وإذا كانت الدعوى البوليانية تنسحب مبدئيا على جميع تصرفات المدين             [ المبحث الأول ]، فإن بعض هذه التصرفات يخرج استثناء عن نطاق مرماها              [ المبحث الثاني ].

المبحث الأول: الانسحاب المبدئي على جميع التصرفات

يبدو بالرجوع إلى عنوان القسم الثاني ونص الفصل 306 م ا ع المندرج تحته أن المشرع قصر الطعن بالدعوى البوليانية على العقود [ الفقرة الأولى ] على أن فهم النص على هذا النحو يفضي إلى التضييق من نطاق هذه الدعوى بما يجعلها قاصرة عن حماية حقوق الدائنين مما يدعو إلى تجاوز ظاهر النص بسحب أحكامه على مختلف تصرفات المدين العقدية منها وغير العقدية [ الفقرة الثانية ].

الفقرة الأولى: النص يقصر الطعن على العقود

لا ريب أن العقود[122] أهم مصادر الالتزامات وأكثرها شيوعا في التطبيق مما يجعل الإلمام بها من الصعوبة خاصة وأن المدين من الممكن أن تتسع مخيلته لطرق غش متنوعة تتجسّد في عقود متنوعة [ أ ]، على أن الإحاطة بمختلف العقود تقتضي تناولها من زاوية التفرقة بين عقود العوض وعقود التبرع والتي لها أهمية كبيرة في إطار النظام القانوني للدعوى البوليانية [ ب ].

[ أ ] – تنوع العقود

إن تنوع الروابط العقدية هو من لوازم مبدإ سلطان الإرادة والحرية التعاقدية الذي أسهم في بروز أنماط عقدية جديدة وغير مألوفة ولم ينظمها المشرع أفرزها تطوّر نسق المبادلات الاقتصادية نحو مزيد من السرعة والتشابك.
وقد حاول فقهاء النظرية العامة للالتزام استيعاب مختلف أنواع العقود باعتماد تقسيمات عديدة تستند إلى معايير مختلفة[123].
ومن الممكن أن يكون أحد الأطراف في أي عقد من العقود مدنيا لغيره وقد يكون مقصده من إبرامها الإضرار بدائنيه. ولذلك فقد أصاب المشرع حين أورد           عبارة " العقود " ضمن الفصـ 306 ـل م ا ع مطلقة تستغرق جميع أنواع العقود.
ولا يتسع المجال لاستعراض مختلف تقسيمات العقود وإنما لا بأس من الإشارة إلى أهمها.
فالعقود تتفرع من حيث تكوينها أساسا إلى عقود رضائية وشكلية وعينية.
أما من حيث الموضوع، فتتفرع إلى عقود بسيطة تقتصر على معاملة واحدة كعقد البيع وأخرى مختلطة هي مزيج من عدة عقود، ومثالها العقد بين صاحب الفندق والنزيل، فهو في الوقت نفسه إجارة للمسكن وبيع للمأكل ووديعة للأمتعة، وأما من حيث الأثار، فهي تنقسم بالخصوص إلى عقود ملزمة لجانبين تنشئ التزامات متقابلة في ذمة المتعاقدين كالبيع والمعاوضة والإجارة. وأخرى ملزمة لجانب واحد لا تنشئ التزامات إلا في ذمة أحد المتعاقدين كالوديعة غير المأجورة مثلا وبديهي أن هذه لا تقبل الطعن بالدعوى البوليانية إذا لم يكن المدين هو الطرف المحمول عليه الالتزام فيها، وينقسم من حيث الآثار كذلك إلى عقود محددة يعرف كل طرف وقت إبرامها مقدار ما يعطي ومقدار ما يأخذ بموجبها، وعقود احتمالية ليس بوسع أي من طرفيها أن يحدد نهائيا على وجه الدقة وقت إبرامها قدر ما يأخذ وقدر ما يعطي بموجبها، وتسمى أيضا عقود الغرر ومنها عقود الرهان، والمقامرة، فإذا أقدم المدين على إتيانها فخسر وتسبب ذلك في عسره أو زيادة عسره بما فيه ضرر لدائنيه، جاز لهؤلاء الطعن فيها بالدعوى البوليانية عدا التأمين إذا كان وجوبيا.
على أن سؤالا من الممكن أن يطرح بشأن طبيعة العقود التي يمكن أن تنصرف إليها الدعوى البوليانية، فهل أن إدراج المشرع أحكام هذه الدعوى ضمن مجلة الالتزامات والعقود يعني أن الفصـ 306 ـل م ا ع لا ينطبق إلا على العقود المدنية ولا ينسحب على غيرها من العقود التجارية ؟
إن المراد بالعقود التجارية في هذا السياق كلّ العقود التي تنطبق عليها قواعد القانون التجاري بوجه عام وبمفهوم موسّع يتجاوز التعريف القانوني الوارد بالفصلين الثاني والرابع من م ت، ولا ينحصر في العقود التي نظمها المشرع بالفصـ 597 ـل وما بعده من م ت.
ذلك أن القانون التجاري يشتمل على قواعد خاصة أملتها طبيعة المعاملات التجارية ومتطلباتها، غير أن المشرع لم يضع لهذه القواعد التفصيلية نظرية عامة، فإذا خلا القانون التجاري من قواعد تنظم تلك العقود، أمكن الرجوع إلى النظرية العامة للعقد لسد الفراغ عند الاقتضاء باستمداد أحكامها العامة وتطبيقها عليها اعتبارا للصيغة الاحتياطية والتكميلية Subsidiarité لهذه النظرية أي قابليتها للانطباق على كافة العقود في تكوينها وآثارها، ولما كانت الدعوى البوليانية تنبثق من الأحكام العامة التي تضمنها الكتاب الأول من مجلة الالتزامات والعقود، فإنه تأخذ صفة دعوى شريعة                 عامة Action de droit commun ، وهي تستمدّ عموميتها أيضا من طبيعتها كأداة لمحاربة الغش حيثما وجد في العقود المدنية أو التجارية وفي صيانة حقوق الدائنين التي تتأثر بعقود المدين مهما كانت القواعد التي تخضع لها، ثم إنه لا وجه للتفريق حيث لم يفرّق المشرّع وأورد عبارة " العقود " بالفصـ 306 ـل م ا ع مطلقة.
وتبرز فائدة استعمال هذه الدعوى بالخصوص في الصور التي لا ينص فيها القانون التجاري على وسيلة طعن خاصة تحمي الدائنين من عقود مدينهم المضرة بحقوقهم مثل صور المساهمة في شركة[124] وإحالة الحصص[125] والأسهم في الشركات، بل إن القضاء الفرنسي ذهب إلى اعتبار هذه الدعوى مفتوحة حتى في حال وضع القانون آليات خاصة تؤدّي نفس وظيفتها الحمائية وهو ما دعا أحد الشراح الذين تناولوا بالتعليق بعض الحلول القضائية في هذا الصدد إلى القول إنها من الضمانات التي تقدّمها النظرية العامة للالتزامات لتعزز عند الاقتضاء الآليات الخاصة لحماية الدائنين إذا لم تأت بنتيجة[126]، ومن أمثلة ذلك عمليات التخفيض في رأس مال الشركات[127] وبيع الأصل التجاري[128] واندماج الشركات[129] والتي هي عقود ثنائية أو جماعية يمكن أن تكون موضوع اعتراض أو معارضة من الدائنين وفقا لقواعد خاصة في القانون التجاري[130].
وفي غياب فقه قضاء مماثل في تونس على حد علمي، يمكن الاستئناس بهذا الحلّ تأسيسا على التشابه بين النظامين على صعيد مضمون النصوص القانونية ذات الصلة.

[ ب ] – أهمية التفرقة بين عقود العوض وعقود التبرع

لا يخلو أي نوع من أنواع العقود من أمرين إما أن يكون بعوض أو على وجه التبـرع، فعقـود المعاوضـة هي التي يأخذ فيها كل طرف مقابلا لما أعطاه، أما عقود
التبرع فهي التي لا يأخذ فيها الطرف مقابلا لما أعطاه ولا يعطي الآخر مقابلا ما أخذه.
وتبرز الفائدة من هذه التفرقة من وجهة أحكام الدعوى البوليانية في تحديد مدى تأثير هذه العقود على مكاسب المدين وإنقاصها من الضمان العام، وضبط شروط ممارستها وآثارها بحسب ما إذا كان تفويت المدين في مكاسبه المنقولة أو العقارية بعقد تبادلي يأخذ بموجبه عوضا لها، أو بعقد تبرّعي لا يقبض بموجبه مقابلا، ففي الصورة الأولى يكون تواطؤ معاقد المدين مشترطا، ويجوز لهذا المعاقد إذا نجح الدائن في دعواه ضده أن يرجع على المدين بضمان الاستحقاق وكذلك بمصاريف الدعوى، أما في الصورة الثانية، فلا يشترط تواطؤ المعاقد ولا تأثير لحسن نيته على مآل الدعوى، وليس له الرجوع على المدين بما ذكر.
ولقد فصل بعض التشاريع المدنية العربية جانبا من أحكام الدعوى البوليانية بناء على تفرقة صريحة بين عقود العوض وعقود التبرع[131]، ولكن أحد الفقهاء أخذ على المشرعين الذين فصلوا العقود القابلة للطعن معتبرا أنه كان أحرى بهم أن لا يستعملوا عبارة التبرعات على عمومها وأن يحصروا قابلية الطعن في الهبات لأن من التبرعات ما لا يؤدي إلى التمليك كالعارية التي لا تضر بالدائن لأنها ترد على المنفعة فقط و لا تخرج المال المعار من ضمانه، لكن هذه المآخذ في غير طريقها لأن المدين قد يعير شيئا من ماله بقصد إخفائه عن متناول دائنيه، أو التواطؤ على إتلافه[132].
ونظرا للازدواجية بين عقود العوض وبين عقود التبرع على صعيد نظام الطعن بالدعوى البوليانية، فإنه يلزم أن تسند المحكمة الوصف القانوني الصحيح إلى العقد المطعون فيه بمعزل عمّا يطلقه الطرفان عليه من تسمية، ويطرح هذا الإشكال خاصة في البيوعات، فإذا كان الثمن فيها بخسا، اعتبرت من قبيل التبرعات المقنّعة، ولا يغير حسن نية المعاقد حينئذ من مآل الدعوى فلا يشترط تواطؤه[133] وعلى نقيض ذلك هبة الثواب Donation avec charge أي التي تكون مقترنة بأداء محمول على الموهوب له، فإن محكمة التعقيب الفرنسية أسندت إليها وصف المعاوضة[134].
وتتسم التطبيقات القضائية للدعوى البوليانية بالتنوع سواء في خصوص عقود العوض أو عقود التبرع، فبالنسبة إلى عقود العوض نجدها قد شملت خاصة عقود البيع [135]والصلح باعتباره تفويتا " Transigre c'est aliénre " [136]. والمساهمة في شركة[137].
أما بالنسبة إلى فئة عقود التبرع، فإنها الأكثر إضرار بحقوق الدائنين لذلك نجد فقه قضاء غزيرا فيما يخص الطعن في عقود هبة[138] حتى أن المشرع الفرنسي خصّ بعض العقود التبرعية بنظام للطعن فيها، وهو ما تضمنته المادة 14 – 132 L من مجلة التأمين والتي حلّت محلّ المادة 69 من قانون 13 جويلية 1930 المتعلق بالتأمين[139] والتي اقتضت تمكين الدائنين من الطعن في عقد التأمين على الحياة إذا  أبرمه مدينهم لفائـدة الغير وذلك في حدود الجزء الذي دفعه المدين المشترط Sous scripteur زائد على القيمة الحقيقية للأقساط، دون رأس المال المؤمنّ الذي يكون قد انتقل فورا وبقوة القانون إلى المستفيدين وأصبح حقا مباشرا لهم لم يمر عبر ذمة المدين، وهذه الصورة هي من صور الاشتراط لمصلحة الغير التي نزلها الفقهاء منزلة الهبة باعتبارها تبرعا مقنّعا وغير مباشر Libéralité indirecte ou déguisée [140] وبذلك فهي تأخذ حكمها من حيث عدم اشتراط التواطؤ خاصة وأن الغش واضح من قيمة التبرع التي يبرز في الشطط في قيمة أقساط التأمين[141].
  الفقرة الثانية: تجاوز ظاهر النص

اقتضى الفصـ 306 ـل م ا ع أن " … للدائنين أن يطعنوا … في العقود التي تممها مدينهم … "، وقد حصر المشرع في هذا النص مرمى الدعوى البوليانية في عقود المدين حال أن نيته السيئة من الممكن أن تتجسم في أعماله الإرادية غير التعاقدية ممّا يبّرر تجاوز ظاهر النص [ أ ] خصوصا وأن توسيع نطاق هذه الدعوى ليشمل كلّ التصرفات العقدية وغير العقدية يؤيده تعدّد التطبيقات القضائية في هذا الاتجاه [ ب ].

[ أ ] –التبريرات

أوّل هذه التبريرات يستمد من الإطار المندرجة ضمنه أحكام                   الفصـ 306 ـل م ا ع على مستوى ترتيب النصوص وتبوبيها بالمجلة، ذلك أن هذا الفصل يقع تحت الباب الرابع من المقالة الخامسة التي تحمل عنوان " فيما يترتب على الالتزامات " والتي هي جزء من الكتاب الأول من المجلة المتعلق بما تعمر به الذمة مطلقا، وهو ما يؤخذ منه أن المشرع أدرج أحكام الدعوى البوليانية ضمن آثار الالتزامات بوجه عام، ولا شك أن الالتزامات لا تجد مصدرها في العقود والاتفاقات فحسب إنما تستمد وجودها أيضا من التصريحات الاختيارية على مقتضى الفصل الأول من م ا ع، أي المنشئة للالتزام بموجب إرادة منفردة صادرة من جانب واحد، وعليه، فعبارة " العقود " كما وردت بالفصـ 306 ـل م ا ع غير مطابقة لمقصد المشرع الذي أراد بها جميع التصرفات الإرادية.
ثم إنه بالرجوع إلى التحرير الفرنسي للفصـ 306 ـل م ا ع نجد المشرع استخدم عبارة " Les actes " في مقابل " العقود " وهي تعني التصرفات بوجه عام، وهذا المدلول ينصرف إلى الأعمال الإرادية العقدية وغير العقدية على السواء، والاستئناس بالنص الفرنسي على هذا النحو له ما يبرره ذلك أن أحكام الفصـ 306 ـل م ا ع مستمدّة من المادة 1167   م. م. ف [142]، كما أن الفصـ 351 ـل من المشروع التمهيدي للمجلة المدنية والتجارية حرّر أصلا باللغة الفرنسية ثم وقع تعريبه على هذا النحو: " للدّائنين أن يقوموا بإبطال ما عقده المدين من تفويت أو ترك شيء … "، وممّا يؤكّد امتداد الدعوى البوليانية إلى مختلف التصرفات أن المشرع أورد عبارة " ترك شيء على سبيل الذكر كتصرّف يقبل الطعن بهذه الدعوى تعريبا لكلمة " Renonciation " التي تفيد التنازل والذي هو عادة تصرّف أحادي الجانب غير عقدي [143].
هذا ويمكن أيضا تبرير تعميم الدعوى البوليانية على كافة التصرفات القانونية للمدين استنادا إلى القانون المقارن، فقد خوّلت المادة 237 من القانون المدني المصري والمادة 191 من القانون المدني الجزائري والتشاريع المدنية العربية الموافقة لهما " لكل دائن … صدر من مدينه تصرف … أن يطلب عدم نفاذ هذا التصرف في حقه"، أمّا المادة 371 من القانون المدني الأردني فقد وردت فيها عبارتا التبرع والمعاوضة مطلقتين بما يجعلهما تنصرفان إلى التفويتات بموجب العقود وبموجب إرادة المدين المنفردة فقد جاء بها أن المدين " لا يجوز له التبرع بماله ولا التصرف فيه معاوضة … ولو بغير محاباة وللدائنين أن يطلبوا الحكم بعدم نفاذ تصرفه في حقهم ".
وأما المادة 278 من قانون الموجبات والعقود اللبناني، فإن عبارة " العقود " الواردة بها تعريبا لكلمة " Actes " في النص الفرنسي لا تثير مشكل تأويل ضرورة أن القانون اللبناني يقتضي في صورة اختلاف النصين تطبيق النص الفرنسي[144].
ثم إنه يتبين من مراجعة المؤلفات الفقهية أن الشراح يستعملون عبارة            " التصرفات "[145] أما فقهاء القانون المقارن فيعتبرون أن ممارسة الدعوى تتجاوز عقـود

المدين لتشمل كلّ تصرفاته القانونية [146].
وبصورة إجمالية، يتأسس سحب الدعوى البوليانية على مختلف التصرفات القانونية على اعتبار أن حصر هذه الدعوى في العقود دون غيرها لا يتلاءم مع الوظيفة الحمائية المنوطة بها ضرورة أن المدين من الممكن أن ينقص من مكاسبه بمختلف التصرفات سواء أكانت عقودا أم تصرفات أحادية الجانب، كما أن جعل قابلية الطعن بالدعوى البوليانية وقفا على العقود لا يمنع المدين من الاحتيال على دائنيه بالإنقاص من مكاسبه التي هي ضمان عام لهم بواسطة تصرفات يبرمها بإرادته المنفردة.
فمتى وجد الغش والضرر، جاز الطعن سواء في التصرفات العقدية او غيرها عملا بقاعدة الفصـ 536 ـل م ا ع الأصولية القاضية بأن " ما حكم به القانون لسبب معين جرى العمل به مهما وجد السبب المذكور ".

[ ب ] – التطبيقات

لئن كانت الحالات التطبيقية التي عرضت للمحاكم التونسية تتصل في أغلب الأحيان بالطعن في عقود أبرمها المدين، فإنه بتتبع بعض الأحكام والقرارات القضائية نجد أن القضاة لا يتقيدون في صياغتها بحرفية نص الفصـ 306 ـل م ا ع وينزعون إلى التعميم باستخدامهم عبارة " التصرفات " غير مرة، فقد جاء في إحدى حيثيات القرار التعقيبي عـ 55037 ـدد المؤرخ في 28 سبتمبر 1998 وغير المنشور              أن " … من شروط الدعوى البوليانية هو أن يكون التصرّف الذي قام به المدين يقصد به الإضرار بدائنه … "، كما ورد في القرار التعقيبي عـ 1542 ـدد [ ن.78، ج 1، ص 50 ] أن " … الفكرة الأساسية في هذه الدعوى هي منع المدين من التصرف في ماله تغريرا وتدليسا ".
كما أن محكمة التعقيب اعتمدت عبارة عامة أخرى غير عبارة " التصرفات " فقد جاء في قرارها عـ 5710 ـدد [ ق.ت.70، ص 553 ] أن " دعوى الإبطال يستلزم قبولها شروطا … لكن إذا كان هذان الشرطان كافيين في التبرعات … "، فعبارة التبرعات أشمل من عبارة عقود التبرع، إذ يمكن أن يتبرع المدين بموجب عقد كما يمكن أن يتبرع بإرادة منفردة، فالتبرع لا يكون بموجب عقد ضرورة.
ومن الأمثلة التطبيقية للتبرعات الصادرة بإرادة المدين المنفردة [147] التنازل عن تركة بعامة حقوقها[148] أو ردّ المدين الموصى له للوصية[149] أو نزوله عن حق عيني كحق الملكية أو الانتفاع أو حق ارتفاق أو رهن، أو عن حق شخصي كما لو تنازل عن اشتراط لمصلحته أو أبرأ أحد مدينيه من دين له في ذمته[150].
وينصّ الفصـ 356 ـل م ا ع  على إمكانية الطعن في الإبراء الصادر عن المدين غشا وإضرارا بدائنيه أما الإقرار غير الحكمي، فلئن كان تصرفا بإرادة منفردة فإن مفعوله الكاشف وغير المنشئ يحول دون قابليته للطعن بالدعوى البوليانية، فقد اعتبرت محكمة التعقيب أن " مجرّد الإقرار ليس من قبيل التفويت الذي يتممه المدين لإضراره بحقوق دائنيه تغريرا وتدليسا ولا يجوز حينئذ لأولئك الدائنين القيام بالطعن فيه "[151].
كما أن التصديق Ratification من المدين على عقد أبرم في حقه بلا نيابة وإمضاءه Confirmation عقدا قابلا للإبطال لتصحيحه يقبلان الطعن بالدعوى البوليانية
ما دام في العقد موضوع التصديق أو الإمضاء إضرار بالدائنين[152].
أمّا ترك المدين التمسك بالتقادم المكسب أو المسقط لفائدته، فقد نص              الفصـ 387 ـل م ا ع أنه " يسوغ للغريم أو لمن له مصلحة في التمسك بمرور الزمان كالكفيل أن يحتج به ولو سلّم فيه المدين " فيما يعتبر من تطبيقات الدعوى المنحرفة، لكن محكمة التعقيب الفرنسية أجازت للدائنين على أساس نص مشابه هو                المادة 2225 م م ف أن يطعنوا بالدعوى البوليانية في نزول المدين عن التمسك بسقوط دعوى بمرور الزمن[153] كما أن المادة 346 من قانون الموجبات والعقود اللبناني يجيز صراحة إقامة دعوى الإبطال إذا كان عدول المدين عن التمسك بالتقادم بقصد الغش ويعتبر بعض الفقهاء استنادا إلى القانون الروماني أن إهمال المدين عقارا مملوكا له في يد الغير فحازه حتى امتلكه بالتقادم هو من قبيل التنازل الضمني عن ملكه وليس مجرد تقادم مكسب، ويجوز للدائنين الطعن فيه بالدعوى البوليانية إذا كان احتياليا[154] غير أن الأستاذ السنهوري يرى أن هذه الصورة من تطبيقات الدعوى المنحرفة وما على الدائن إلا أن يكون أكثر حرصا ويتدخل باسم مدينه بواسطة هذه الدعوى فيقطع بموجبها التقادم ويسترد العين ممن اكتسبها[155].
وعلى العموم، وفي غير الصّور التي سبق ذكرها، متى صدر عن المدين تصرّف أحادي الجانب بإرادته المنفردة غشا وترتب عليه انتقاص من مكاسبه بما فيه ضرر لدائنيه، جاز لهم الطعن في هذا التصرف بالدعوى البوليانية لتعقب المال الذي فرّط فيه المدين بموجبه بين يدي المستفيد.
على أن بعض التصرّفات يخرج من مناط هذه الدعوى استثناء بالنظر إلى خصوصية طبيعتها أو نظامها القانوني.

المبحث الثاني: الإقصاء الاستثنائي لبعض التصرفات

أردف المشرع الأحكام العامة للفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع باستثناءات تهم التصرفات التي تخرج عن مرمى الدعوى البوليانية [ الفقرة الأولى ]، وإلى جانب هذا الاستثناء القانوني، توجد تصرفات أخرى استقر الفقه والقضاء على إقصائها من مناط الطعن بهذه الدعوى [ الفقرة الثانية ]، ومرد هذا الاستثناء هو عدم تلاؤم الطعن مع طبيعة تلك التصرفات وموضوعها.

الفقرة الأولى: الاستثناءات بمقتضى النص

أجاز المشرع بالفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع للدائنين  أن يطعنوا في عقود مدينهم شريطة أن لا تقع مخالفة " الأحكام المتعلقة بالحالة الشخصية أو            بالميراث "، وباستقراء هذا النص، يتبين أن تصرفات المدين المتصلة بحالته           الشخصية [ أ ] أو بالميراث [ ب ] مستثناة من الطعن.

[ أ ] – التصرفات المتصلة بالحالة الشخصية

أسند الفقهاء في فرنسا إلى الاستثناءات الواردة بالمادة 1167 م م ف، مدلولا موسّعا يتجه اعتماده في تحديد معنى عبارة " الحالة الشخصية " الواردة                 بالفصـ 306 ـل م ا ع اعتبارا لتشابه النصين.
وتأسيسا على ذلك، تستغرق الحالة الشخصية جميع التصرفات في الحقوق المتصلة بذات الشخص ووضعه العائلي سواء كان لها انعكاس مالي أم لا، ومنها الزواج والطلاق والنسب والتبني، وسواء كانت الأموال المترتبة على هذه الحقوق والتصرفات قابلة للعقلة أو الإحالة أو غير قابلة لهما كالنفقة وحق الاستعمال والسكنى والحقوق المترتبة عن الجنحة وشبهها[156] ذلك أنه لمّا كانت الدعوى تمهد للدائن القائم عقلة مكاسب المدين استيفاء لحقوقه، فإن حقوقه الشخصية والعائلية تخرج عن متناول الدائنين لاستثنائها من الضمان العام.
على أن من بين حقوق الحالة الشخصية ما يمتزح فيه الاعتبار الشخصي الأدبي بالاعتبار المالي بما يجعل التصّرفات التي تشملها مؤثرة على مكاسب الشخص المكوّنة للضمان العام للدّائنين مما يخوّل لهم الطعن فيها بالدّعوى البوليانية، ومثال ذلك الهبة والمهر والتصرفات المتصلة بالنظام المالي للزوجين.
فالهبة وإن أقحمها المشرع التونسي ضمن أحكام مجلة الأحوال الشخصية[157] فإنها في واقع الأمر تصرّف مالي لاخلاف بين الفقهاء في أنه ليس من المستثنيات.
أما المهر فإن كان من أركان الزواج الأدبية وكان القصد منه التودد إلى الزوجة، فإنه ما دام مقوّما بالمال ولا حدّ لأقله ولا لأكثره، فقد يسمّي الزوج لزوجته مهرا مشكا بما فيه ضرر للدّائنين، فيجوز لهم الطعن في هذا التصرّف إذ أن حقوق الدائنين أولى من الإسراف والترف خاصة إذا كان القصد منه الإضرار بحقوقهم[158] على أن المهر لما كان حقا وملكا للزوجة حسب الفصـ 12 ـل م أ ش، فليس للمحكمة ذات النظر في الدعوى أن تنقض التصرف برمته، بل تخفض المهر إلى قدر عادل وتنقضه فيما زاد عليه بما يمكن الدائن في ذات الوقت من استيفاء حقه منه.
أما بخصوص نظام الأموال بين الزوجين، فقد جعل المشرع نظام الاشتراك في الأملاك اختياريا فأجاز للزوجين تبنيه عند إبرام الزواج أو بتاريخ لاحق وسحب نطاقه ليشمل عقارات أخرى غير ما هو من متعلقات العائـلة، وعقارات مكتسبة قبل الزواج بما فيها المتأتية ملكيتها من هبة أو إرث أو وصية، كما مكّنهما من تغيير نظام الأموال الأصلي، وإنهاء الاشتراك[159]، ولئن حرص المشرع في هاتين الصورتين على حماية الدّائنين بأن جعل الاحتجاج عليهم بالتغيير متوقفا على مصادقة المحكمة عليه، ومكّنهم من التداخل في قسمة المشترك، فإن فقه القضاء الفرنسي جرى استنادا إلى نصوص مشابهة[160] على أن الزوجين إذا عمدا إلى تغيير نظام الأموال بينهما من الاشتراك إلى التفرقة أو سارعا إلى قسمة المشترك للحيلولة دون تداخل الدّائنين أو اعتراضهم قصد الإضرار بهم بجعل الجزء القابل للعقلة من الذمة المالية العائلية المشتركة في منأى عن تتبعهم بتخصيصه بموجب القسمة بالقرين غير المدين، جاز لهؤلاء الطعن بالدّعوى البوليانية في مثل هذا التصرّف[161].
أما تصرّفات المدين في الحقوق الشخصية المحضة أي اللصيقة بذاته، فهي وإن ترتب عليها فقدانه لهذه الحقوق أو خروج الأموال الناتجة عنها من ذمة المدين، لا تقبل الطعن بسبب ارتباطها بخيار خاص بذات المدين كحقه في الرجوع في الهبة، فقد ذهبت محكمة التعقيب الفرنسية إلى عدم جواز الطعن في تنازل المدين عنه بعلّة أنه على فرض قبول الطعن، تبقى عودة المال الموهوب إلى ذمة المدين متوقفة على استعماله خيار الرجوع الذي هو لصيق بشخصه وله مطلق الحرية في استعماله وليس لأحد إرغامه عليه أو النيابة عنه فيه[162] أو كما لا تقبل الطعن بسبب عدم قابلية الأموال الناتجة عنها للعقلة ولا للإحالة كحق التعويض عن الضرر البدني والمعنوي الناشئ للمدين عن جنحة وقعت على ذاته والنفقة والتسبقات ذات الصبغة المعاشية والأجور والمرتبات في حدود الجزء المعاشي غير القابل للحجز منها، وحق الاستعمال وحق السكنى الذين لا
يجوز كراؤهما أو إحالتهما لمكانة الاعتبار الشخصي Intiutus presonae فيهما وكــلّ
الأشياء الشخصية أو الضرورية للمعيشة التي لا تقبل الحبس أو الحجز[163].
فالإقصاء من مناط الطعن بالدّعوى البوليانية يشمل مختلف هذه              التصرفات ويتأيد ذلك بأحكام الفصـ 353 ـل من اللائحة الابتدائية التي                كانت تحظر على الدائنين الطعن في " عقود المدين التابعة للحقوق المعلقة بخصوص ذاته [ Droits exclusivement attachés à sa personne ] كالحقوق الأبوية والطلاق والنفقة والانتفاع والسكنى " وبما ذهب إليه جانب من الفقه الفرنسي انطلاقا من             المادة 1167 م م ف، المشابهة لنص الفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع[164].
على أن الرأي الفقهي الراجح هو القائل بجواز الطعن في التصرفات التي يجريها المدين مستعملا حقا لصيقا بشخصه متى قصد بها الإضرار بدائنيه، كما لو أقرّ ببنوة طفل لتحمل واجب الإنفاق عليه[165]، فإذا كان المشرع قد استثنى تلك التصرفات صراحة من ميدان الدعوى المنحرفة[166] فإن ذلك يبرّر باعتبارت أخلاقية لا تجيز للدّائن أن يحلّ محلّ المدين فيما يمس ذاته وكيانه، أما في الدّعوى البوليانية، فلا يعتدّ بهذه الاعتبارات إذ أن المدين يتصرّف عن سوء قصد فلا يستحق أن يحمى باعتبارات هو نفسه لم يحترمها[167] كما أن هذه الدّعوى تستهدف محاربة الغش الذي هو أخطر من إهمال الحقوق، لذلك يجب أن لا تكون الحقوق الشخصية دائما بمنأى عن طعن الدّائنين.

[ ب ] – التصرفات ذات العلاقة بالميراث

خصّ المشرع الميراث بأحكام تمتد على أكثر من ستين فصلا [ من              الفصـ 85 ـل إلى الفصـ 152 ـل م أ ش ] تضاف إليها الفصول من 131             إلى 141 م ح ع، المتعلقة بقسمة التركات، ويمكن اعتبار أحكام الوصية أيضا من مشمولات الميراث لارتباطها الوثيق به.
فقد عرّف المشرع الوصية بالفصـ 171 ـل م أ ش، بأنها " تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع "، فهي هبة الشخص مالا لآخر يتملكه بعد موته، وتبدو الوصية بهذه الصفة تبرّعا من الممكن أن يلتجئ إليه الشخص إذا كان مدينا إضرارا بدائنيه ، غير أن الطعن فيها غير ذي جدوى لسببين أوّلهما أن الشيء الموصى به لا يصير ملكا للموصى له إلاّ بعد وفاة الموصي، فما لم يتحقق التمليك بالوفاة فلا ضرر للدّائنين وعليه فلا مصلحة لهم في الطعن، وثانيهما أن حق دائن الموصي مقدّم أصلا على حق الموصى له، فإذا ما توفّي المدين المورّث وجب أن تؤدّى عنه ديونه قبل إنفاذ وصيته طبق أحكام الفصـ 87 ـل م أ ش، وما على دائنه إلاّ استيفاء حقه من مال التركة بدلا من الطعن في الوصية، وله في ذلك وسائل قانونية كثيرة للحيلولة دون تفريط الورثة في التركة قبل سداد ديونها، من ذلك المطالبة القضائية واتخاذ التدابير التحفظية والاستعجالية وطلب ضبط أموال التركة أو وضع الأختام عليها، لكن قد تكون هذه الحماية قاصرة إذا كان تفريط الورثة في أموال التركة بدافع التحيل على دائني مورّثهم للإضرار بحقوقهم، فهل يجوز لهم الطعن في تصرفاتهم بالدعوى البوليانية ؟
بالتمعن في أحكام الفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع يتبيّن أن المشرع لم يقص التصرفات المرتبطة بالميراث من مناط الطعن على وجه الإطلاق إذ لا يتعلق الأمر حقيقة باستثناء إنما بإضافة شرط خاص بالطعن فيها يتمثل في مراعاة أحكام الميراث وعدم مخالفتها باستعمال هذا الطعن[168] إذ لو أراد المشرع إقصاءها كليّا لاستخدم عبارة " عدا التصرفات المتعلقة بأحكام الميراث "، ولا خلاف في أن الطعن في تلك التصرفات لا ينجرّ عنه تغيير وضعية الورثة بإحلال غير الوارث محل الوارث، أو مساس بنسب استحقاقهم وأنصبائهم من التركة، إنما يهدف إلى استبعاد الغش المقصود منه الإضرار بالضمان العام لدائني المورّث والذي يمتد إلى تركته، ذلك أن التوسّع في الاستثناء المتعلق بالميراث يفضي إلى إفراغ الفصـ 306 ـل م ا ع من محتواه وإفشال الهدف الحمائي للدعوى البوليانية.
وتأسيسا على التحليل المتقدم، يمكن لدائني الورثة الشخصيين أيضا الطعن في تصرّفاتهم المتصلة بالتركة من ذلك تنازل المدين الوارث عن حقه فيها والذي هو بمثابة تجرّد المالك عن ملكه[169].
وتدخل قسمة التركات في عموم أحكام الميراث التي أوجب المشرع مراعاتها، لكن قد يوقع الشركاء بموجب القسمة رضائية كانت أم اتفاقية في نصيب شريكهم المدين منقولات أو نقودا يسهل عليه تبديدها أو إخفاؤها عن دائنيه، أو يتعمد هو التهاون عن دفع الغبن عن نفسه فيقبل تمييزه بحصة تقل قيمتها عن قيمة ما يستحق مما يقلل من ضمان دائنيه، فيكون من مصلحتهم مراقبة سير القسمة متى شابتها نية الإضرار بحقوقهم، على أنه لما كانت القسمة تنهي حالة غير مرغوب فيها هي حالة الشيوع وتمسّ إذا تعلقت بتركة اعتبارات عائلية ينبغي مراعاتها، فكان لا بدّ من ضمان استقرارها وعدم تعطيل آثارها، فقد خصّها المشرع بنظام إجرائي يرمي إلى إتمامها مع حماية الدائنين بالتوازي مع سير إجراءاتها فخوّل لهم بالفصلين 121 و 122 م ح ع أن يعارضوا في إجراء القسمة في مغيبهم وطلب نقضها إذا تمت رغم معارضتهم، لكن القسمة تصبح نهائية بالنسبة إليهم إذا وقع استدعاؤهم كما يجب ولم يحضروا إلاّ بعد الفراغ منها، فقد جعل المشرع تجاهل الشركاء اعتراض الدائنين أو طلبهم التداخل في القسمة قرينة قاطعة على الغش، فلا يبقى للدّائنين في دعوى النقض إلاّ إثبات تضرّرهم من إتمامها[170]، فالتداخل والمعارضة وطلب النقض إجراءات تستهدف درء الضرر الحاصل من القسمة عن الدّائنين لذلك لا تعدو أن تكون صورة قانونية خاصة للدعوى البوليانية وبديلة عنها[171]، وهي لا تمنع الطعن بهذه الدعوى إذا تعذر على الدائنين قانونا القيام بالنقض ذلك أن المشرع بالفصـ 122 ـل م ح ع نصّ في هذه الصورة على أنه " إذا لم يترك مبلغ كاف لخلاص ديونهم كان لهم الحق في أن يستوفوا حقوقهم من المشترك إذا بقي منه جزء لم تجر عليه القسمة أو الصفقة وإلاّ جاز لهم مقاضاة الشركاء، فعبارة " مقاضاة الشركاء " جاءت مطلقة تنسحب على مختلف أنواع الدّعاوي المخوّلة للدائنين بما فيها الدّعوى البوليانية، وهذا الحلّ كان قد توصّل إليه القضاء الفرنسي في خصوص الحالات التي تجرى فيها القسمة على عجل بحيث لا يكون بمقدور الدائنين متابعتها أو العلم بها وذلك قصد الحيلولة دون تداخلهم فيها أو اعتراضهم عليها مثلما هو الشأن في قسمة المشترك بين الزوجين[172].
وبما أن الدعوى البوليانية أداة عامة لاستبعاد غش المدين، فإنه يجب حصر القيد المتعلق بأحكام المواريث في قسمة التركات رغم ورود الفصلين 121 و 122 م ح ع ضمن الأحكام المشتركة، فيمكن القول استئناسا بالرأي الفقهي والقضائي السائد في فرنسا إن هذا القيد لا ينسحب على قسمة المال المشاع بين الشركاء غير الورثة وقسمة الشركات بعد انحلالها وكلّ أنواع القسمة التي هي في حقيقتها تبرعات كقسمة الأصل أمواله بين فروعه في قائم حياته Partage d'ascendant والذي هو تصرّف شائع في فرنسا أو معاوضات كتخفيض رأس مال الشركة المدنية بتخصيص أحد الشركاء بعنصر من موجوداتها[173].

الفقرة الثانية: الاستثناءات خارج النص

تجد هذه الاستثناءات مصدرها من الاجتهاد القضائي والعمل الفقهي، وهي مبرّرة بالطبيعة القانونية الخاصة للتصرّفات المستثناة والتي هي الوفاء بالالتزام [ أ ] والأحكام القضائية [ ب ].

[ أ ] – الوفاء بالالتزام

الوفاء Le paiement تنفيذ المدين التزامه بأداء محله، وهو أحد الأسباب القانونية لانقضاء الالتزامات[174].
ويعتبر القضاء الفرنسي الوفاء عملا قانونيا لا يقبل مبدئيا الطعن[175] وهو ما كانت تقتضيه التقاليد القانونية الرومانية، وقد فسر البعض هذا النهج على نحو حسابي بأن المدين ينقص بالوفاء من ماله لكنه ينقص في مقابل ذلك من التزاماته، بل ويتجنب بالوفاء المصاريف التي قد تترتب على التأخر عنه لا لاسيما الفائض القانوني ومصاريف التقاضي، وعبّروا عن ذلك بمقولة Celui qui paie ses dettes s'enrichit [176] لكن لو صحّ هذا التفسير لاستثنينا على جميع المعاوضات، وهو ما لم يقل به أحد.
ولذلك يبرّر أغلب الفقهاء استثناء الوفاء من الطعن بأنه ضروري خلافا لغيره من التصرّفات يلزم المدين القيام به لذلك لا يمكن اتهامه بالغش أذا أوفى لأحد دائنيه إذ في غياب نظام للإفلاس المدني يغلّ يدي المدين عن التصرف في مكاسبه مثلما هو الأمر في الإفلاس التجاري، فإن المدين يبقى حرّا في إدارة أمواله والتصرف فيها وليس مطالبا بخلاص دائنيه حسب ترتيب محدّد[177].
أما الدّائن الموفى له، فيستبعد أن يكون مدفوعا بنية الإضرار بالدّائنين لأنه يقبل الوفاء لخاصة مصلحة نفسه، كما أن الوفاء جزاء له على حرصه ضرورة أنه نتيجة التسابق فيما بين الدائنين Le paiement est le prix de la course، فإذا استنفدت موجودات المدين بهذا الوفاء، فما على بقية الدائنين سوى تحمّل تبعة تقاعسهم[178].
فإذا كان الوفاء بالتزام مدني غير قابل للطعن، فإن الوفاء بالتزام طبيعي يعتبر باتفاق القفهاء[179] عملا تبرعيا يقبل الطعن بالدعوى البوليانية.
لكن القضاء الفرنسي لم يستبعد إمكانية الطعن في الوفاء بالالتزام المدني إذا تبيّن بصورة جلية نية المدين الموفي الإضرار بدائنيه وتواطؤ الدائن الموفى له معه على ذلك Concret frauduleux [180] وكذلك إذا تم الوفاء بغير الطرق المعتادة أي في غير صور الوفاء البسيط كما لو كان بمقابل خصوصا متى وجد تفاوت واضح بين قيمة ما قدّم للوفاء وقيمة الدين الموفى به[181] ذلك أن الوفاء بمقابل منزل منزلة التصرفات بعوض ويدّل على ذلك سحب المشرع بالفصـ 342 ـل م ا ع أحكام ضمان المبيع عليه، ويمكن إلغاؤه شريطة أن يثبت الدائن غش المدين الموفي بالمقابل وتواطؤ الدّائن الموفى له معه عليه، وقد وجد بعض الفقهاء في موقف القضاء سندا للقول بجواز الطعن في الوفاء إذا تجرد عن طابعه الإلزامي وكان القصد منه تفضيل أحد الدائنين كالوفاء بدين لم يحلّ أجله[182].
وقد توسّع المشرع المصري في هذا الشأن وذهب إلى أبعد مما توصّل إليه الفقه والقضاء في فرنسا فنصّ في المادة 242 من القانون المدني " وإذا وفى المدين المعسر أحد دائنيه قبل انقضاء الأجل الذي عيّن أصلا للوفاء فلا يسري هذا الوفاء في حق باقي الدائنين، وكذلك لا يسري في حقهم الوفاء، ولو حصل بعد انقضاء الأجل، إذا كان قد تم نتيجة تواطؤ بين المدين والدائن الذي استوفى حقه "، وهكذا فإن القانون المصري يميّز بين الوفاء قبل حلول الأجل  باعتباره تبرعا ويجوز الطعن فيه دون اقتضاء غش المدين أو تواطؤ الموفى له، والوفاء بعد حلول الأجل والذي يعد من المعاوضات، فلا يتسنى إلغاؤه إلا بعد إثبات غش المدين وتواطؤ من تم له الوفاء[183].
وأمام انحسار نطاق مبدإ عدم قابلية الوفاء للطعن بالدعوى البوليانية من جراء تعدّد الاستثناءات التي أدخلت عليه، تساءل بعض الفقهاء[184] عن التبرير الحقيقي لهذا المبدإ ومدى جدوى الإبقاء عليه.
على أن المبدأ في الوفاء الصادر عن المدين التاجر المفلس خلال فترة الريبة أنه يقبل الطعن من الدائنين كلّ بانفراده ولا يشترط فيه إثبات الغش أو التواطؤ           إذا كان موضوع الوفاء دينا لم يحل أجله، ويكون إبطاله وجوبيا مثلما اقتضاه            الفصـ 462 ـل م ت ، كما يمكن إبطاله إذا كان الدائن الموفى له عالما بتوقف المدين عن دفع ديونه الفصـ 463 ـل م ت، وكذا " العمليات التي من شأنها تمييز دائن على آخر وخلاص ديون غير حالة " الصادرة عن مسير المؤسسة الخاضعة للمراقبة في إطار التسوية القضائية وبعد تاريخ التوقف عن الدفع [ الفصـ 32 ـل من قانون إنقاذ المؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية ].

[ ب ] – الأحكام القضائية

إذا كان الأصل أن مجال إعمال الدعوى البوليانية أو " دعوى الإبطال " يقتصر على الأعمال القانونية أي التصرفات ولا يتخطاها إلى الأعمال القضائية أي الأحكام حيث إن القاعدة تقتضي أن طرق البطلان لا تنسحب على الأحكام Voies de nullité n'ont lieu contre les jugements، فإن ذلك لا يعني أن هذه تبقى في مأمن من الطعن، ذلك أن الأحكام كالتصرفات من الممكن أن يجعلها المدين وسيلة للإضرار بدائنيه[185]، فهي وإن لم تكن من التصرفات الإرادية، فإن نظام المرفعات الذي يتسم بملكية أطراف الدعوى للنزاع المدني من الممكن أن يجد فيه المدين سيئ النية منفذا إلى تهريب شيء من مكاسبه فيوعز إلى شخص بالقيام عليه لدى المحكمة ويبدي أمامه دفاعا شكليا وواهنا، فيصدر الحكم ضدّه قاضيا بأحقية ذلك الخصم للمال المذكور بما يقتضي إخراجه من ذمة المدين[186].
فلامندوحة إذا من إتاحة الفرصة للدّائنين لدرء مثل هذا التواطؤ وما قد              يترتب على الحكم من نتائج مضرة بحقوقهم، والوسيلة المقررة لذلك هي الاعتراض      La tirece opposition[187] الذي لا يعدو كطرق الطعن في القسمة أن يكون في هذه الحال صورة محوّرة للدّعوى البوليانية ويقوم بديلا عنها[188] ويمتاز عنها في كونه لا يشترط أن يثبت الدائن لدى الاعتراض الغش والتواطؤ إنما يكفيه إقامة الدليل على تضرره من الحكم الذي اعترض عليه ولا يهم بعد ذلك أن يكون هذا الضرر قد نشأ عن غش المدين أو إهماله، وقد أقرّت الدائرة المدنية الثانية لمحكمة التعقيب الفرنسية في هذا الصدد حكما استئنافيا صححت فيه المحكمة من تلقاء نفسها التكييف القانوني الذي أسنده أحد الدائنين إلى طعنه ضد حكم قضائي أضرّ بحقوقه على أنه دعوى بوليانية معتبرة أنه اعتراض[189].
على أن الدائنين ليسوا مضطرّين إلى سلوك سبيل الاعتراض التي هي سبيل علاجية، فبدل اتخاذ موقف سلبي وانتظار نتيجة الدّعوى، لهم أن يسلكوا طريقا وقائيا هو طريق التداخل في الدعوى الذي يمكنهم من متابعة سير الدعوى المرفوعة على المدين ومراقبة سلوكه حيالها في أي طور من أطوارها[190].
ولئن كان وصف الأحكام ينسحب على الأعمال التي يتولاّها القضاء كجهاز إشراف مثل قرارات المصادقة على بعض الاتفاقات وتبتيت العقار المعقول والذي          " يصاغ في الشكل العادي للأحكام " [ الفصـ 427 ـل م م م ت ]، بما يجعلها قابلة للاعتراض ويخرجها من دائرة الطعن فيها بالدعوى البوليانية، فإن القضاء الفرنسي قبل الطعن بهذه الدّعوى ضد اتفاق طلاق وقسمة مشترك بين زوجين مصادق عليه من المحكمة[191]، كما قبل القضاء المصري الطعن في صلح تأيد بتصديق المحكمة[192].
غير أن هذا الحل غير وجيه ضرورة أن الاتفاقات المذكورة تكسى بالصبغة القضائية لمجرّد مصادقة المحكمة عليها، فلا تقبل تبعا لذلك الطعن إلا بالطرق الخاصة بالأحكام[193].
على أن هذه الحلول القضائية تدل بوجه عام على انحسار نطاق الاستثناءات من مناط الدعوى البوليانية سواء الواردة منها بمقتضى النص المنظم لأحكامها أو المقررة خارج مقتضياته، ذلك أن هذه الاستثناءات إنما هي في الحقيقة قيود أو أحكام بديلة عن الدعوى البوليانية ترمي مثلها إلى حماية الدائنين لم تمنع من إقرار إمكانية استخدام الدعوى المذكورة كدعوى تكميلية أو احتياطية إذ ما فتئ العمل القضائي يتوسّع في ميدان الدّعوى، ولعل مرد ذلك هو عمومية وظيفتها كأداة المحاربة الغش              وحماية للدائنين، فهل نجد لهذا التوسع امتدادا على مستوى النظام القانوني للطعن          بهذه الدعوى ؟     


مكّن المشرع بمقتضى أحكام الفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع، الدائنين من الطعن في تصرفات مدينهم التي تممها تغريرا وتدليسا لإضرارهم في حقوقهم، غير أن هذا النص جاء مقتضبا، فهو وإن أشار إلى الضرر وسوء النية كشروط للطعن في هذه التصرفات بالدعوى البوليانية، فإنه سكت خلافا لبعض التشاريع العربية المقارنة[194] عن تحديد مضمون هذه الشروط وقواعد إثباتها، والجزاء الذي ينال التصرف بموجب الطعن، إنما أشار المشرع في عنوان القسم الثاني المنضوية تحته أحكام                 الفصـ 306 ـل م ا ع إلى أن الجزاء هو الإبطال، غير أنه لم يوضح طبيعة هذا الإبطال ونتائجه القانونية.
ولذلك فإن الإحاطة بمختلف عناصر النظام القانوني للطعن بالدعوى البوليانية تقتضي عدم الوقوف عند النص المذكور باستكمال نطاقه اعتمادا على حلول فقه القضاء واستئناسا بالقانون المقارن دون الإخلال بالقواعد العامة للإلتزامات في القانون التونسي لاسيما وأن مختلف هذه المصادر تسهم في بلورة إرادة المشرع بالنظر إلى الغاية التي من أجلها أتاح للدائنين الطعن ألا وهي حماية ضمانهم العام ضدّ غش المدين.
فمن الحتمي أن يكون لاتجاه نطاق الدعوى نحو الاتساع اعتبارا للغاية من إقرارها كما أسلفنا انعكاس على مستوى شروط قابليتها بتوخي المرونة في الأخذ بها         [ الفصل الأول ] وكذلك، فإن خصوصية أهداف الدعوى البوليانية تتطلب إقرار نظام قانوني خاص فيما يتعلق بالجزاء المترتب على قبولها [ الفصل الثاني ].




الفصل الأول: شروط قابلية الدعوى

يحكم المعاملات المالية مبدأ أساسي هو حرية الشخص في التصرف في ممتلكاته ولو كان مدينا غير أنه إذا انحرف بهذه الحرية وقصد بتصرفاته الإضرار بدائنيه، حق لهم التدخل  بالطعن في تصرفاته فيها بالدعوى البوليانية.
ولمّا كان من شأن هذا التدخل أن يمسّ باستقرار المعاملات لاسيما وقد          يكون استفاد منها " الغير " حسن النية، فقد وضع المشرع بالفقرة الأولى من            الفصـ 306 ـل م ا ع للطعن شروطا من شأنها أن تضيّق من نطاق إعمال الطعن حماية لحقوق، ويتعلق الأمر بشرطين متلازمين لقبول الدعوى البوليانية، فليس للدائن أن يستفيد من هذه الدعوى ضد طرفي المعاملة إلا إذا صدرت عنها  " تغريرا وتدليسا " أي أن سوء نية [ المبحث الثاني ] على أن يثبت أولا أنه تضرر من ذلك التصرف         [ المبحث الأول ].

المبحث الأول: تضرر الدائن


إن تضرر الدائن من تصرف المدين شرط أساسي أشار إليه المشرع بالفقرة الأولى من الفصـ 306 ـل م ا ع، وترجع أهميته إلى ارتباطه بشرط المصلحة في القيام من وجهة قانون المرافعات والتي هي السبب المشروع الباعث على الطعن، فإذا انتفى الضرر انتفت الدعوى وكان تدخل الدائن في تصرفات مدينه غير مبرر لفقدان المصلحة التي هي مرتكز كلّ دعوى ومناطها تطبيقا للقاعدة العامة القاضية بأن          " لا دعوى حيث لا مصلحة "[195].
وللضرر في إطار أحكام الدعوى البوليانية مدلول خاص ومفهوم محدّد يختلف عن مفهومه في المسؤولية المدنية[196]، ذلك أنه يلحق الدائن بطريق غير مباشر أي عبر ذمة المدين المالية التي يعتريها من جراء تصرفه افتقار [ الفقرة الأولى ] يتسبب في إعسار هذا المدين أو يزيد فيه بما يقلل من حظوظ دائنه في استيفاء حقه [ الفقرة الثانية ].

الفقرة الأولى: تصرف مفقر للمدين


لكي يتحقق شرط الضرر، لا بد أن يتسبب التصرف الذي أبرمه المدين في افتقار ذمته المالية، ومفهوم الافتقار عرف على صعيد التطبيق القضائي توسّعا إذ لم تتردد المحاكم في تخطّي الميدان التقليدي للافتقار [ أ ] ليستوعب تصرفات لم تكن معدودة من ضمن التصرفات المفقرة [ ب ].

[ أ ] – صور الافتقار التقليدية


لم يسند المشرع إلى الافتقار الموجب للطعن بالدعوى البوليانية تعريفا قانونيا كما لا يمكن عد التصرفات التي تسبب افتقار المدين على وجه الحصر، على أنه بالرجوع إلى الفقه الفرنسي، نجد أغلب الشراح يعرفون التصرف المفقر تعريفا ضيقا باعتباره التصرف الذي يخرج من ذمة المدين أو يكون من شأنه أن يخرج منها مالا قابلا للتنفيذ عليه دون مقابل أو دون مقابل عادل يمكن للدائن أن يعتمد عليه في استيفاء حقه[197]، فلو شمل تصرف المدين حقا لا يجوز الحجز عليه، كما لو تنازل عن نفقة أو حق استعمال أو سكنى، فإن تصرّفه لا يقبل الطعن فيه من الدائن وإن أفقره، ولا يقبل التصرف مثل هذا الطعن أيضا إذا وقع على مال يقبل الحجز متى كان هذا المال مثقلا بحقوق تستغرقه لانتفاء المصلحة[198].
وأوضح صور الافتقار هو أن يتبرع المدين بحق عيني كما لو وهب الغير منقولا أو عقارا مملوكا له أو ردّ وصية، أو بحق شخصي، من ذلك إبراؤه مدينا له من دين له عليه، أو بعامة الحقوق العينية والشخصية للتركة الآلية له من موّرثه وذلك بتنازله عنها[199].
كما تفقر المعاوضات المدين إذا كان المقابل فيها غير عادل أي غير مكافئ لقيمة المال الذي خرج من ذمته لقاءه، سواء تعلق الأمر بعقود تبادلية ناقلة للملكية، من ذلك البيع بثمن بخس[200] وتقديم حصة عينية كمساهمة في شركة قدرت قيمتها بما فيه غبن فاحش للمدين[201] والصلح المجحف بحقوق المدين[202] وشراء العقار لقاء دفع ثمن باهظ يتعدى قيمة المثل[203]، أو بعقود ترد على المنفعة ولا تنقل الملكية كتسويغ العقار بمعيّن        لا يتناسب وقيمته الكرائية[204].
        وهذا التحديد للتصرف المفتقر الذي أملته التقاليد الرومانية يقصر الدعوى البوليانية على ما ينقص به المدين من حقوقه من تصرفات، أما التصرفات التي يزيد بموجبها المدين من التزاماته فلم تكن تعدّ من التصرفات المفقرة الموجبة للطعن[205]، غير أن من شأنها أن تؤدي كسابقتها إلى ذات النتيجة أي الإضرار بالدائنين فالإنقاص من الضمان العام خاصة وأن ذمةالمدين المكوّنة لضمانهم العام تشمل مجموع ما للمدين من الحقوق وما عليه من الالتزامات، فمن الممكن أن يثقلها بالاستدانة من أشخاص يتواطؤ معهم قصد الإضرار بالدائنين السابقين كأن يقترض مبلغا من المال أو يتعهد بالإتفاق على شخص لا تلزمه نفقته قانونا، ثم إن شرط الإضرار ورد بالفصـ 306 ـل م ا ع عاما يستغرق جميع تصرفات المدين المضرّة بدائنيه بما فيها تلك التي يزيد بموجبها في التزاماته كما لا يوجد نص قانوني يحظر الطعن في هذه التصرفات مثلما كان عليه الأمر في القانون المدني المصري القديم، وقد عدل المشرع المصري في القانون المدني الجديد عن هذا الحلّ فقرّر في المادة 237 صراحة جواز الطعن في التصرف إذا          كان " … قد أنقص حقوق المدين أو زاد في التزاماته … "[206].
        أما التصرفات التي لا يكون فيها المدين إلا مفرّطا في تنمية كسبه أو إثرائه فقد اعتبر الفقهاء أنها غير مفقرة فلا ينالها الطعن بالدعوى البوليانية إذ " لا وجه للقيام إذا امتنع … المدين مجرد امتناع من تنمية كسبه ذلك لأن الدائن لم يتوقع مثل هذا الأمر في الوقت الذي تعاقد فيه مع المدين "[207] أي لأن الاعتماد عنده كان على الموجود من أموال المدين حال تعاقده معه، إذ أقدم على التعامل معه استنادا إلى ذمته المالية الحاضرة لا ما سيدخلها مستقبلا من كسب، والأنموذج في هذا هو رفض المدين الهبة باعتباره تصرفا انفراديا لا ينقص من ذمته المالية لأن المال الموهوب لا ينتقل إليها إلا بقبوله الهبة، فلا يكون تصرفا مفقرا لأن المال الذي لم يقبله المدين لم يدخل في ذمته قط فليس للدائن الاعتماد عليه وقت نشوء حقه، مما يحول دون جواز الطعن فيه، وعلى فرض جوازه، فلا فائدة منه ضرورة أن الدائن لا يملك قبول الهبة نيابة عن المدين لكونه خيارا موكولا إلى المدين نظرا لاعتباره الشخصي Intuitus Presonae، فلا يستطع مباشرته نيابة عنه[208].
        ويلحق بالتصرفات التي يفرّط بها المدين في زيادة الكسب عدم تمسكه بمرور الزمن على الحوز المكسب للملكية، وكذلك التصرفات التي يرفض بموجبها الإنقاص من التزاماته كعدم تمسكه بمرور الزمن المسقط لمطالبة دائنه إياه بالوفاء بالالتزام، فلا ينالها الطعن مبدئيا، لكن في هذه الصور الخاصة أجاز المشرع استثناء                 بالفصـ 387 ـل م ا ع للغريم أن يتمسك بمرور الزمان ولو سلّم فيه المدين، فيكون أحرى تمكينه من الطعن في تنازل المدين عنه إذا كان احتياليا[209]، وكذلك يجوز الطعن في امتناع المدين عن إنقاص التزاماته برفضه إبراء صدر له من دائنه طبق أحكام الفصـ 350 ـل م ا ع.
        وهذه الأحكام القانونية تدلّ على عدم تماسك الرأي القائل على وجه الإطلاق بأن تفريط المدين في زيادة كسبه تصرف غير مفقر، فهو وإن أخرج صراحة في بعض التشاريع من مناط الطعن من ذلك المادة 278 من قانون الموجبات والعقود اللبناني التي اقتضت أن " … العقود التي لم يكن بها المديون إلا مهملا للكسب فلا تنالها دعوى الفسخ … "، فإنه يتجه اعتبار مثل هذه التصرّفات قابلة للطعن من حيث المبدأ خاصة وأن الفصـ 352 ـل من اللائحة الابتدائية نص: " يقبل القيام أيضا بإبطال ما يعقده المدين إذا كان ذلك لا ينقص شيئا من ماله وإنما فيه إهمال فرصة الزيادة فيه "، وهذا الحكم يتأسس على عمومية الضمان العام الذي يرد على مكاسب المدين أي شموله لموجودات ذمته المالية أي مجموع حقوقه والتزاماته التي نشأت والتي قد تنشأ والحالية منها والمستقبلة[210].
على أنه يجب أن تستثنى من مجال تطبيق هذا المبدإ الأعمال التي يرتبط فيها امتناع المدين من تنمية كسبه بخيار شخصي له كرفضه قبول هبة.

[ ب ] – توسيع مفهوم الافتقار


عملت المحاكم الفرنسية على التوسع في تحديد التصرف المفقر حرصا على حماية الدائنين بواسطة آلية الطعن بالدعوى البوليانية بأن تجاوزت التحديد التقليدي الضيق للتصرف المفقر بالنظر إلى النقص في موجودات المدين والذي ينبني على معيار حسابي، لتعتمد معيارا وصفيا يتحدد به التصرف المفقر بالنظر إلى إسهامه في إضعاف حظوظ الدائنين في استيفاء حقوقهم.
هذا التوجه الذي أيده الفقهاء[211] يجد تبريره في أن اعتماد المعيار الحسابي يفضي إلى إخراج بعض العقود التبادلية المتوازنة التي يبرمها المدين بعوض عادل من متناول طعن الدائنين، هذه العقود التي يبدو أنها لا تنقص من ذمة المدين بما أن العوض فيها مساو لقيمة المال الذي خرج من ذمته بديلا عنه، وأنه سوف يحلّ محله ويعمرها من جديد فتعود إلى سالف توازنها، هي في واقع الأمر مضرّة بالدائنين ذلك أن العوض وإن كان عادلا فهو لا يرقى فعلا وفي كثير من الأحيان إلى درجة الضمان الذي كان يوفره المال الأصلي إذ يسهل على المدين سيئ النية إخفاؤه أو تبديده بقصد تنظيم حالة إعساره، ولذلك فإن تقدير الضرر الحاصل للدائنين ليس منوطا بما تحتويه ذمة المدين حسابيا من موجودات بقدر ما هو منوط بإمكانية تنفيذهم عليها، فإذا بات بمقدور المدين أن يعوق بتصرّفه التنفيذ بأن أحلّ محلّ أمواله التي يسهل على الدائنين التنفيذ عليها كالأعيان المنقولة والعقارية أموالا أخرى يمكن تبديدها وإخفاؤها كالمبالغ النقدية أو يعسر على الدائنين إدراكها أو تحويلها إلى مبالغ مالية كالحصص التي تسند أو تحال إلى المدين لقاء مساهمته العينية في شركة، اعتبر ذاك التصرّف مفقرا يقبل الطعن بالدعوى البوليانية.
ولقد دأبت محكمة التعقيب الفرنسية على إعمال هذا المعيار الوصفي في كثير من القضايا التي عرضت لها وتخصّ بيع العقارات[212] وبيع الأصل التجاري[213].
والمساهمة العينية بعقار لقاء حصة في شركة أشخاص[214]
ويتخلص موقف محكمة التعقيب الفرنسية في هذا الصدد في اعتبار الافتقار وشرط الضرر بالتبعية متحققين لمجرّد أن ينتج عن التفويت إخراج مال قابل للتنفيذ عليه من ذمة المدين وإبداله بمال آخر يسهل تبديده أو إخفاؤه مما يجعل مهمة الدائن في استيفاء حقه منه عسيرة ولا يهم بعد ذلك ما إذا كان ثمن التفويت يتناسب مع قيمة المال الذي فوّت فيه المدين، على أن موقف إحدى محاكم الاستئناف يعكس هذا الاتجاه القضائي بأكثر وضوحا إذ جاء في حيثيات أحد قراراتها: إن إحلال المدين حصصا في شركة محلّ حقوقه في عقار مشاع يضرّ بالدائنين لأن تلك الحصص لا تعادل العقار الطبيعي من حيث ضمان الوفاء بالديون[215].
ولقد انتقد السيد البشير زهرة لدى تعليقه على الحكم الاستئنافي عـ 70627 ـدد المحكمة لكونها فوّتت فرصة لتبني مفهوم موسّع للتصرف المفقر على غرار فقه القضاء الفرنسي حين لم تعتبر المدين معسرا حال أنه " باع عينا مملوكة له وأخفى الثمن أو بدده بحيث يتعذر على الدائن التنفيذ عليه "[216].
كما لقي الاتجاه القضائي الفرنسي مساندة الفقهاء في تونس وبعض الفقهاء المشارقة[217]، هذا ويبدو أن محكمة التعقيب التونسية قد سلكت نهجا مماثلا حين أكدّت في أحد قراراتها أن " الثمن لا ينظر إليه طالما أنه حتى وإن كان … مشابها أو أكثر من ذلك فإن ذلك لا يحول دون القيام بالدّعوى البوليانية إن توفرت أركانها "[218].
وهكذا يتضح أن الافتقار لا يتولّد ضرورة عن التبرعات أو المعاوضات غير المتعادلة، إنما يمكن أن ينشأ عن عقود تبادلية متوازنة، وإن لاعتماد هذا المفهوم الموسّع للتصرّف المفقر نتيجة حتمية هي توخي المرونة لدى فحص إعسار المدين كشرط لازم لقبول الطعن بالدعوى البوليانية.

الفقرة الثانية: إعسار المدين


قد يسبب التصرف افتقار المدين دون أن يحق للدائن الطعن فيه، إذ ما دامت أموال المدين تفي بديونه، فإنه بوسع الدائن اختيار مال آخر للمدين غير الذي تصرف فيه للتنفيذ عليه، لكن إذا أعسر المدين أو تفاقم إعساره بتصرفه، ساغ للدّائن الطعن.
والاعسار شرط جوهري في نظام الدّعوى البوليانية يتعين أولا تحديده [ أ ] قبل دراسة نظام إثباته [ ب ].

[ أ ] – تحديد الإعسار


لم ينصّ المشرع صراحة في الفصـ 306 ـل م ا ع، ولا القوانين المقارنة على شـرط الإعسـار، لكنـه يستخلص ضمنا من اشتراطه الإضرار بالدّائنين إذ لا يتأتى
الضرر بمفهومه المعتمد في نظام الدعوى البوليانية إلاّ من إعسار المدين.
وإذا سلّمنا مع الفقهاء[219] وفقه القضاء[220] بلزوم إعسار المدين كشرط في الطعن، فإنه يبقى أن نحدّد متى يصحّ أن نعتبر المدين في حالة إعسار.
فلئن تواتر ذكر عبارة " الإعسار Insolvabilité " والعبارات الأخرى ذات المدلول نفسه كالعدم والعجز عن الوفاء وعدم الملاء والتوقف عن دفع الديون وغيرها لا فقط في مجلة الالتزامات والعقود بل وفي نصوص قانونية أخرى[221]، فإن المشرع لم يعرّف الإعسار، على أنه يمكن تحديده انطلاقا من عبارة " إحاطة الدين بالمال " التي وردت بالفصـ 1014 ـل م ا ع، هذه العبارة المستمدة من الفقه الإسلامي تعني أن يكون مال المدين قدر ديونه الحالة والمؤجلة أي مساويا لها أو تكون هي أزيد منه، وهو التعريف الذي أخذ به المشرع الأردني في المادة 370 من القانون المدني[222].
أمّا محكمة التعقيب فقد عرّفت الإعسار بغاية الإيجاز، فقد اعتبرت في أحد قراراتها أنه يكون معسرا المدين الذي " تكون مكاسبه غير كافية لسداد ما عليه من ديون "[223].
ولعلّ التحديد الأكثر دقة والأحرى بالاعتماد لكونه ينسجم مع الشروط الواجب توفرها في الدين سند القيام بالدعوى البوليانية هو الذي أورده الفقيه السنهوري الذي عرّف الإعسار بأنه زيادة ديون المدين على حقوقه [ أو الخصوم Passif على الأصول Actif] سواء كانت ديونه مستحقة أو غير مستحقة ما دامت محققة الوجود، فلا يدخل في الحساب الديون المتنازع فيها إلى أن تخلو من النزاع ولا الديون المعلقة على شرط واقف إلى أن يتحقق الشرط، أما الديون المؤجلة أو المعلقة على شرط فاسخ وغير المقدرة فتحسب جميعا[224].
والإعسار بالتعريف المتقدم هو الإعسار الفعلي، وهو حالة واقعية للمدين تخضع لتقدير المحكمة لدى نظرها في الدعوى، فلا يشترط في الدعوى البوليانية حتى في القوانين التي نظمت إشهار الإعسار المدني كالقانون المصري أن يكون المدين في وضع الإعسار القانوني الذي يثبت بحكم يشهره ويفتح للدائنين إجراءات تتبع جماعية[225].
ويلزم أن يكون الإعسار نتيجة مباشرة للتصرف المطعون فيه، فإذا تسلّط الطعن على هبة مثلا، وكان المدين قد أعسر بأن وقعت منه عدة هبات، وجب تحديد الهبة التي بدأ منها حصول الضرر، فإن كانت الهبة المطعون فيها سابقة لها، لم تقبل الدعوى[226].
ويقدر الإعسار في وقت رفع الدعوى، فيجب أن يظل المدين معسرا إلى وقت رفعها ويستمرّ إعساره قائما إلى حين الحكم، فإن نقصت ديونه بتنازل بعض الدائنين عن حقوقهم أو زادت أمواله بتلقيه إرثا أو وصية أو عقد صفقة رابحة أو استعمل ما قبضه من فقد لقاء التفويت لاكتساب شيء يوازيه قيمة وثباتا كعنصر من عناصر الثروة يمكن حجزه  فتجاوز حالة الإعسار وأصبح قبل رفع الدعوى أو أثناء سيرها قادرا على الوفاء بحق الطاعن، رفضت الدعوى وليس للدائن الاستمرار فيها إذا استوفى حقه، ولذا جاز للمقوم ضده في غير الحالات التي يكون فيها إعسار المدين مشهورا[227] أن يدفع بتجريد المدين في أي طور من أطوار الدعوى وليس عليه أن يبين للدائن ما يمكن وضع اليد عليه من مكاسب المدين ولا تحمل عليه مصاريف ذلك، خلافا للدفع بالتجريد
في الكفالة[228].
وإذا كان الإعسار على النحو الحسابي المتقدم والذي يقرر بالمقارنة بين ديون المدين وأمواله وبشروطه السالف بيانها هو العنصر الذي تستجمع به الدعوى البوليانية أركانها في صورتها المثلى، فإن تجاوز المعيار الحسابي في تحديد التصرفات المفقرة في التطبيق القضائي أفضى إلى تجاوز شرط الإعسار في بعض الأحيان.
فلم تتردد المحاكم الفرنسية في قبول الطعن حال كون المدين بقي له من الأموال ما يفي بديونه، معتبرة أن تضرر الدائن المنوطة به مصلحته في القيام متحقق متى أعاق المدين بتصرفه الدائن عن تنفيذ حق خاص له على الشيء المتصرف فيه تنفيذا عينيا[229]، فتكون بذلك قد فكّت ارتباط ضرر الدائن بإعسار المدين، من ذلك أنها أجازت للموعود له بالبيع الذي له على الواعد حق شخصي هو إتمام البيع ونقل ملكية المبيع إليه أن يطعن في تفويت الواعد في الشيء المتواعد عليه إلى الغير عن سوء نية[230] وكذا الدائن المرتهن الذي له حق عيني تبعي إذا فوّت مدينه في العين المخصصة أو سوّغها للغير بما ينقص من قيمتها ويمس بحقه في الأفضلية[231].
ويبدو أن محكمة الاستئناف بتونس سايرت في حكمها عـ 23512 ـدد              [ ق.ت. 96، عـ 1 ـدد، ص 110 ] الحلّ الفرنسي حين قرّرت في صياغة مبدئية ودون إشارة إلى توفر شرط إعسار المدين من عدمه أن بيع العقار المرهون و" كل تفويت في العقار المرسم عليه قيد احتياطي مخالف للقانون ومضرّ بحقوق الدائن صاحب القيد الاحتياطي وقابل للإبطال على معنى الفصـ 306 ـل م ا ع ".
ولئن كان هذا الحلّ ينحصر في التفويت في العقار المسجل، فإنه نظرا لعمومية صياغته يشمل فيما يشمله كلّ الدائنين الذين لهم على عقار مدينهم قيد احتياطي سواء كان لهم وعد بالبيع أو قد نشروا قضية تتصّل بحقوق مرسمة على معنى الفصلين 365 و 366 م ح ع وهو ما قد يؤول إلى قبول الطعن من الدائن الذي دينه متنازع فيه.
وإذا كان بعض الفقهاء قد أيّد الاتجاه القضائي الفرنسي[232] فإنه ليس بمنأى عن النقد ضرورة أنه بإغفاله شرط الإعسار الذي هو سبب جوهري للضرر بمفهومه الخاص بالدعوى البوليانية، أفضى إلى توسيع نطاق تطبيقها توسيعا مفرطا فأضحى يستغرق وضعيات هي أصلا من مشمولات أحكام المسؤولية المدنية ذلك أن خرق المدين التزاما تعاقديا بالتواطؤ مع الغير من دون أن يؤدي ذلك إلى إعساره يتقرر جزاؤه بحكم في دعوى مسؤولية عقدية ضد المدين أو تقصيرية ضد                   معاقده أو دعوى إبطال تأسيسا على القاعدة القاضية ببطلان كلّ تصرف فيه                    غش Fraus Omnia Corrumpit، إذ ولئن كان في الطعن بالدعوى البوليانية جزاء لغش المدين فهو خاص بالصور التي يؤدي فيها تصرفه الاحتيالي إلى إعساره لأن هدف هذه الدعوى حماية الدائنين من إعسار المدين، ثم إن مثل تلك الحلول يتولّد عنها تفاضل بين الدائن العادي الذي يلزمه إثبات إعسار مدينه وبين الدائن ذي الحق الخاص أو الأفضلية على عين معينة لمدينه والذي يعفى من إثباته[233].

[ ب ] – إثبات الإعسار

تطبيقا لقاعدة الفصـ 420 ـل م ا ع العامة التي تقضي بأن " إثبات الالتزام على القائم به "، يكون من واجب الدائن باعتباره القائم بالدعوى البوليانية والمدعي في الإثبات في الوقت نفسه أن يقيم الدليل على إعسار مدينه، فإذا ما نجح في ذلك، كان على المدين إذا ما أراد أن يتوقى آثار الدعوى أن يثبت أنه غير معسر، وذلك ما اقتضته أحكام الفصـ 421 ـل م ا ع.
بيد أن حمل عبء إثبات عسر المدين على الدائن قد يضعه في مواجهة صعوبات عملية إذ الأمر يتعلق بإثبات أمر سلبي هو عدم وجود مكاسب للمدين يمكن الرجوع عليها زيادة على إثبات مقدار دينه ليخلص إلى عجز المدين عن الوفاء بحقه، وإلى هذا المعنى أشارت محكمة التعقيب حين أوجبت في أحد قراراتها على الدائن " أن يثبت … كون المدين … ليس له كسب آخر "[234]، واعتبرت في قرار آخر أن " ثبوت عسر المدين شرط أساسي … وما دامت توجد له مكاسب فما على الدائن إلا الرجوع عليها ما دامت صفة الإعسار غير متوفرة في المدين "[235].
لكن الإثبات يصبح أمرا ميسورا إذا سبق مثلا للدائنين عقلة أموال المدين وبيعها ثم تبين عدم كفاية متحصل البيع للوفاء بديونه، أو محاولة التنفيذ على مكاسبه وختمت بمحضر تنفيذ ينص على استحالة الخلاص خاصة إذا سجل فيه على المدين المعقول عنه إقراره بعجزه عن الدفع، وهي أكثر الصور ورودا في التطبيقات القضائية للدعوى البوليانية، أو كان المدين تاجرا وحكم بتفليسه، وبات توقفه عن الدفع مشهورا، فما على الدائن القائم بالدعوى البوليانية في هذه الحال إلا الإدلاء للمحكمة ذات النظر بحكم التفليس، أما في غير هذه الحالات، فإنه بالرغم من أن إثبات الإعسار باعتباره وضعا ماديا يتم بكل الطرق[236] باعتبار أن الإعسار المعتمد في الدعوى البوليانية هو الإعسار الفعلي الذي لا يجب أن يثبت بحكم إلا أنه يبقى مع ذلك أمرا شائكا.
ولذلك ارتأى المشرع المصري أن يخفف من عبء الإثبات على الدائن وما يطرحه من صعوبات وتبعه في ذلك بعض القوانين المدنية العربية، فقد اقتضى أنه إذا ادعى الدائن إعسار المدين، فليس عليه إلا أن يثبت ما في ذمته من ديون، عند ذلك يقوم قرينة قانونية تجعل المدين محمولا على أنه معسر ما لم يسدد ما تخلد بذمته، فينقل إليه عبء الإثبات، لكن هذه القرينة لا تعدو أن تكون قرينة بسيطة يمكن للمدين دحضها بالحجة المعاكسة بأن يثبت أنه غير معسر ويكون ذلك بإثبات أن له مالا يساوي قيمة الديون أو يزيد عليها، فإن لم يستطع إثبات ذلك عدّ معسرا[237].
مثل هذه القرينة القانونية لا يتضمنها التشريع التونسي، ومع ذلك نجد المحاكم تتجه نحو التخفيف من عبء إثبات الإعسار حتى أن محكمة الاستئناف بالمنستير ذهبت إلى أن إثبات الدائن لما في ذمة المدين من ديون يرقى إلى درجة القرينة القانونية على إعسار المدين الذي يصبح محمولا بموجبها على أن يثبت أنه غير معسر وأن له من المكاسب ما يفي بخلاص الدائن، وإلا اعتبر معسرا[238]، ومن الواضح أن هذه المحكمة أوجدت من تلقاء نفسها قرينة قانونية على إعسار المدين على غرار بعض التشاريع العربية المقارنة، وهو موقف فيه الكثير من المرونة.
فإذا لم تكن هذه القرينة قد اكتست في القانون التونسي صبغة تشريعية فإن الإعسار ما دام قابلا للإثبات بكل الطرق باعتباره حالة واقعية فيمكن أن تبرز هذه القرينة في ثوب قضائي، فيمكن لقاضي الأصل أن يستدل باجتهاده المطلق عملا بأحكام الفصـ 479 ـل م ا ع على الإعسار بالأمور المعلومة لديه في الدعوى، ومن هذه القرائن القضائية عدم معارضة المدين على عسره المدعى به وثبوت مديونيته للدائن وعدم عرضه أملاكا أخرى للدائن للتنفيذ عليها إذا كان قد جاز قبل القيام بالدعوى على سند تنفيذي[239]، وإلى ذلك أشارت محكمة التعقيب في أحد قراراتها بقولها: " وحيث إن … شرط تسبب التصرف في إعسار المدين أو الزيادة في إعساره بما صيره عاجزا عن الوفاء يستوجب من رافع الدعوى أن يدعي هذا الأمر حتى يمكن للمدين أن يثبت أن له مالا يساوي قيمة الدين أو يزيد عليها "[240].
ومهما تكن سبيل الدائن إلى إثبات إعسار مدينه، فإن ثبوت الضرر وإن كان شرطا لازما للدعوى البوليانية، فإنه يبقى غير كاف إذ يشترط أن يتلازم مع سوء نية طرفي التصرّف.

المبحث الثاني: سوء نية طرفي التصرف

سوء النية هو شرط حاسم لقبول الدعوى البوليانية، وقد درج عليه فقه القضاء وفرّع عنه عدة قواعد استكمل بها النظام القانوني لهذه الدعوى، من ذلك أنه قرر بناء على مبدإ حرية إثبات سوء النية أن أسبقية حق الدائن عن التصرف المطعون فيه تثبت بكل الطرق كما أورد استنادا إلى هذا العنصر عدة استثناءات على مبدإ إقصاء بعض التصرفات من مناط الطعن، واعتبارا لأهمية هذا العنصر، فقد قرن بعض الفقهاء تسمية الدعوى البوليانية به فأسموها Fraude  Paulienne [241].
ونصّ المشرع على هذا الشرط صراحة في الفصـ 306 ـل م ا ع[242]، لكنه خالف في صياغته نظراءه فأطلق عليه " التغرير والتدليس " وهما عبارتان تعوزهما الدقة وتؤديان إلى الاشتباه بالعيب المفسد للرضاء Le dol الذي هو حسب الفصـ 56 ـل م ا ع خديعة أحد المتعاقدين للآخر لإيقاعه في غلط يحمله على التعاقد بينما سوء النية المشترط في الدعوى البوليانية لا يراد به خديعة أحد المتعاقدين إنما يوجد لدى طرفي التصرف ويستهدف الإضرار بالغير الذي هو الدائن، كما يتجه في هذا السياق استبعاد عبارة " التحيل " تحاشيا للخلط مع التحيل الجنائي L'escroquerie المعرّف                بالفصـ 291 ـل م ج، والذي تستخدم فيه وسائل غير مشروعة، ذلك أن وسيلة الإضرار في إطار الدعوى البوليانية هو تصرّف قانوني مشروع في ذاته، فيكون من الأنسب إذا اعتماد عبارة " الغش " التي يستعملها جلّ التشاريع والمؤلفات الفقهية العربية.
وإذا كان غش المدين شرطا ضروريا لقبول الطعن بالدعوى البوليانية [ الفقرة             الأولى ]، فإنه غير كاف إذ من الثابت فقها وقضاء وما اقتضاه بعض التشاريع أنه يجب أن يتلازم غش المدين مع تواطؤ ممن تصرف إليه [ الفقرة الثانية ].

الفقرة الأولى: غش المدين


يطرح تحديد مفهوم غش المدين صعوبة في ظل تذبذب فقه القضاء [ أ ] الذي يحول دون ضبطه مما يحتم تجاوز المعايير التي حاول من خلالها بعض الفقهاء تنظير الحلول القضائية التطبيقية [ ب ].

[ أ ] – تذبذب المفهوم

إذا كان المشرع المصري عني بتعريف غش المدين بما يكفي القضاء مؤونة البحث عنه ويسهّل عليه تطبيق أحكام الدعوى البوليانية، فإن غياب تحديد قانوني للغش             بالفصـ 306 ـل م ا ع فرض على فقه القضاء الاجتهاد لضبط هذا المفهوم، فكانت الحلول في هذا الشأن مترددة بين اتجاهين: اتجاه ذاتي يعرّف فيه الغش بأنه تعمد الإضرار بالدائنين، واتجاه موضوعي يتكوّن الغش من وجهة نظره من مجرد علم المدين بنتائج تصرّفه الضارة بالدائنين.
فإذا كانت محكمة التعقيب قد تبنّت التعريف الأول في قرارها المؤرخ في أول مارس 1949 [ ق . ت. 60 عـ 9 و 10 ـدد ص 38 ] الذي جاء فيه: " يكون صنيع المدين مشتملا على التغرير والتدليس الباعثين لفكرة الإضرار بالدائنين المستفاد منها نية الإذاية الجناحية في المادة المدنية "، فإن الصعوبات التي يطرحها إثبات الغش بهذا المدلول على الدائنين باعتباره عنصرا نفسيا مما يقلل من فرص نجاح الدعوى دفعت محكمة التعقيب إلى تبني التعريف الموضوعي لغش المدين في قرارها المؤرخ في 8 جانفي 1970 [ ق . ت. 70، ص 553 ] الذي ورد به " … الإضرار بحقوق الدائن وهو حرمانه مما يكفل له استخلاص دينه والتغرير أي سوء النية وهو علم المدين بذلك "، غير أن هذا الحل لم يعمّر طويلا  إذ عاد فقه القضاء ليستقر على اشتراط تعمّد المدين الإضرار بالدائنين[243].
ومثل هذا التذبذب نلمسه أيضا في فقه القضاء الفرنسي نظرا لسكوت المادة 1167 م م ف عن تعريف الغش، ذلك أن محكمة التعقيب تشترط في بعض قراراتها نية الإضرار[244] بينما تكتفي في قرارات أخرى بإثبات علم المدين حين تصرّفه بعسره وبالضرر الذي يسببه لدائنيه[245].
وقد اعتبر بعض الفقهاء هذين المفهومين متكاملين غير مشافرين في محاولة للتوفيق بينهما بعلة أن لكل منهما ميدان تطبيق خاصا به، فإذا كان الغش بمعنى تعمد الإضرار مشترطا في المعاوضات، فإن مجرد العلم بالضرر كاف لقيام الغش في التبرعات[246]، بل ذهب فريق آخر من الفقهاء إلى القول بعدم لزوم الغش أصلا في التبرعات[247]، وهو رأي ينافي صريح النص الذي اشترط فيه المشرع الغش على وجه الإطلاق ولم يفرق في ذلك بين ذلك النوعين من التصرفات.
ويبدو هذا التقسيم وجيها إذ يبرّر بضرورة تضييق نطاق قبول الطعن في المعاوضات بحصره في الحالات التي يثبت فيها تعمد المدين الإضرار بدائنيه، والتوسع في المقابل في قبول الطعن في التبرعات بالاكتفاء لقيام ركن الغش بثبوت مجرد علم المدين بإضراره بدائنيه خصوصا وأن التبرعات الصادرة عن المدين ينظر إليها باحتراز شديد من الفقهاء وحتى من المشرع الذي حظر بمقتضى الفصـ 552 ـل             م ا ع  على المدين المعسر أن يتبرع.
غير أن هذا التقسيم لا ينسجم في واقع الأمر مع الحلول القضائية والتي يتضح بتتبعها أن المحاكم تحدّد مفهوم الغش بمعزل عن طبيعة التصرف المخدوش فيه[248]، فنجدها تشترط لقبول طعن ضد تبرع نية الإضرار بالدائنين[249] فيما تكتفي لقبول الطعن في معاوضة بثبوت مجرد علم المدين بالضرر الناتج عنها للدائن[250].
وإذا كان المشرع المصري لم يقتنع بهذه الانتقادات وحسم الأمر بأن صاغ المادة 238 من القانون المدني بناء على التفرقة بين المعاوضات والتبرعات فاكتفى في الأولى لقيام ركن الغش بمجرد علم المدين حين تصرفه بأنه معسر متبنيا بذلك مفهوما موضوعيا ولم يشترط في الثانية الغش مطلقا، فإن أحكام هذه المادة تنبني على مفهوم واحد للغش هو المفهوم الموضوعي، مما يجعل هذه التفرقة تبقى غير ذات جدوى على الأقل بالنسبة إلى الأنظمة التي لم يعرّف فيها المشرع الغش ضرورة أن القضاء ينطلق في كلتا الحالتين من مفهوم واحد للغش ذلك أن إقدام المدين على التصرف مع علمه بنتائجه الضارة بالدائنين يعني ارتضاءه هذه النتائج، وهو إذا لم يقصد نية الإضرار فإنه على الأقل لا يجد حرجا في ذلك، فالفرق بين القبول بالضرر للدائنين وبين إرادة إحداثه فرق في الدرجة لا غير، خاصة وأن العلم بالضرر هو في ذاته قرينة يستدل بها من بين أخرى على تعمد الإضرار، فالمشكل حينئذ لا يتصل بمفهوم مزدوج للغش بقدر ما يهم وجود مستويين لإثباته بحسب الأحوال[251]، فما هو المعيار الذي يتحدّد به المستوى المطلوب لإثبات الغش ؟

[ ب ] – المعايير البديلة


لما كان الأصل الاستقامة وسلامة النية حتى يثبت خلافه تطبيقا لأحكام                    الفصـ 558 ـل م ا ع فإن على الدائن الطاعن أن يقيم الدليل على الغش الذي يدعيه في جانب المدين، وبما أن الغش واقعة مادية، فإنه يثبت بجميع الوسائل والطرق، وتقرير توفر شرط الغش أو تخلفه من المسائل الموضوعية التي يستقل بتقديرها قاضي الأصل ولا رقابة لمحكمة التعقيب عليه في ذلك.
فالمعيار في تحديد المستوى المطلوب إثباته في الغش هو معيار وقائعي محض ولا جدوى من وضعه قيد مفهوم أو قالب نظري محدد، فيكون تضييق المحاكم في إثبات الغش ومرونتها فيه مرتبطا بظروف كل قضية تعرض لها، وهو ما أشارت إليه محكمة التعقيب حين قررّت أن الغش " يمكن استنتاجه من القرائن وظروف الأحوال "[252].
معنى ذلك أن الغش يستخلص من القرائن القضائية الدالة عليه، وقد أفرز التطبيق القضائي عدّة نماذج من هذه القرائن من ذلك الثمن البخس في المعاوضات، وارتباط المدين بمعاقده بروابط أسرية[253] والعجلة في إتمام التصرف، هذا ويعدّ تاريخ إبرام التصرّف عنصرا هاما في إثبات الغش وتقديره، كأن يتزامن مع فترة يخضع خلالها المدين لإجراءات مراجعة جبائية يخشى أن تفضي إلى تسليط توظيف إجباري وخطايا عليه، أو يبرم المدين التفويت قبيل ضرب عقلة على مكاسبه، أو قبل افتتاح إجراءات جماعية ضده.
فلو اتفق أن اشترطت المحكمة إثبات نية الإضرار، فإن الأمر يتعلق بتصرفات عادية تبدو خالية من شبهة الغش، فيكون الغش فيها خفيا ومستبعدا فيتعين استظهاره بعدة قرائن متظافرة على وجود هذه النية لدى المدين حين إبرامها، من ذلك العقود التبادلية ذات العوص العادل، وبعض التصرفات المستثناة في الأصل من الطعن كالوفاء والتصرفات السابقة عن وجود حق الدائن من حيث المبدأ[254].
أما إذا اكتفت المحكمة بإثبات مجرد علم المدين بالضرر الذي من الممكن أن يسببه للدائن بتصرفه، فإن الأمر يتعلق في الواقع بتصرفات غير معتادة يسهل استنتاج نية الإضرار فيها، كتبرع المدين حال عسره، وبيعه مالا مملوكا له بثمن بخس أو إجارته بمعين دون قيمته الكرائية أو معاوضته شيئا بآخر دونه قيمة دون تسلّم الفارق للتعديل، فهذه التصرّفات يعمد إليها المدين فيفقر نفسه مما يقيم الدليل بوضوح على نيّته الإضرار بدائنيه فلا تلزم المحكمة الدائن سوى بإثبات علم المدين بالضرر الحاصل له[255].
فالمعيار الذي يتحدّد به الإثبات المطلوب من الدائن هو طبيعة تصرّف المدين أهو من قبيل التصرفات المعتادة التي يستبعد فيه الغش أم من قبيل التصرفات غير العادية التي تبدو فيها نية الإضرار واضحة.
وهذه التفرقة التي نجدها أيضا في الفقه الإسلامي تعكس حرص القضاء على منع الدائن من التدخل في تصرفات مدينه والإخلال باستقرارها بما فيه ضرر للغير الحاصلة لهم حقوق بحسن نية من تلك التصرّفات، والتضييق من قبول الطعن فيها بالتشديد في إثباتها متى كانت هذه التصرفات عادية ولا تظهر فيها شبهة سوء النية، كما أنها تستغرق مختلف الحلول القضائية في خصوص عنصر الغش لاسيما وأن المشرع نفسه يفرّق على صعيد نظام إبطال تصرفات المدين المفلس خلال فترة الريبة بين التصرّفات غير العادية والتي يكون إبطالها وجوبيا ثبت فيها غش المدين أم لم يثبت، وبين التصرّفات العادية كالوفاء لدائن دينه مستحق الأداء والتي يتوقف إبطالها على إثبات الغش[256].
والجدير بالملاحظة أن توسّع المحاكم في إثبات الغش يترافق في كثير من الأحيان مع توسعها في شرط الضرر نظرا لتلازمهما، من ذلك أن محكمة الاستئناف بتونس في حكمها عـ 23512 ـدد [ ق.ت 96، عـ 1 ـدد، ص 110 ] الذي عالجت فيه طعنا في تصرّف غير عادي برزت فيه نية المدين الإضرار تمثل في بيعه الغير عقارا مرهونا للدائن بثمن بخس، لم تشر ولو عرضا إلى ثبوت الغش فضلا عن عدم تعرّضها لشرط الإعسار.

الفقرة الثانية: تواطؤ المتصرف إليه

المراد بالمتصرف إليه هو كل من تلقى من المدين حقا سواء بعقد أو أي تصرف قانوني آخر لأن الطعن لا ينحصر في العقود كما تقدم وسواء مباشرة أو بطريق غير مباشر أي إذا كان خلفا خاصا للمتصرف إليه الأول.
ويجمع الفقهاء على أن التفرقة بين المعاوضات والتبرعات ترجع إلى القانون الروماني وهي أساسية وذات نتائج هامة على صعيد نظام إثبات التواطؤ، فإذا كان هذا الإثبات لازما في المعاوضات [ أ ]، فإن التواطؤ مفترض في التبرعات [ ب ].

[ أ ] – التواطؤ مشترط في المعاوضات


إذا كان مبدأ اشتراط التواطؤ لدى المتصرف إليه لقبول الطعن في المعاوضات منصوصا عليه صراحة في بعض التشاريع العربية المقارنة[257]، فإنه ثابت في فقه القضاء التونسي والفرنسي في ظل غياب تنصيص صريح عليه بالفصـ 306 ـل م ا ع[258]  والمادة 1167 م م ف.
وإذا كان التواطؤ يثبت بكلّ الطرق ولقضاة الأصل السلطة المطلقة في تقديره باعتباره مسألة موضوعية، فإن محتوى هذا الإثبات تراوح في فقه القضاء بين نية الإضرار أي الاتفاق مع المدين على الإضرار وبين مجرّد العلم بالضرر الناشئ للدائنين عن التصرف، فبعد أن استقر موقف محكمة التعقيب على اشتراط إثبات نية لدى المتصرف إليه للإضرار بالدائنين[259]، حاولت تيسير مهمة الدائن في إثبات التواطؤ معتبرة في قرارها عـ 1542 ـدد المؤرخ في 21 فيفري 1978 [ ن 78، ج 1، ص 50 ] مثلا أن " نية التواطؤ يمكن استنتاجها من القرائن التي تقوم في الدعوى كأن يتصرّف المدين لزوجه كما في قضية الحال "، وبديهي أن تصرف المدين إلى زوجته باعتبارها أدرى من غيرها بأحوال زوجها المالية يفترض فيه أنها على بيّنة من عسره ومن الضرر الذي سيحدثه التصرف للدائنين بما يفيد أن المحكمة تتبنى الاتجاه الموضوعي في تحديد التواطؤ[260] وهو ما يتفق مع الموقف السائد في فقه القضاء الفرنسي[261] والحلّ الذي أقرّه المشرع المصري صراحة بالمادة 238 من القانون المدني[262].
وهذا التحديد للتواطؤ صائب لأنه متى علم المتصرف إليه بعسر المدين وأقدم رغم ذلك على القبول بتصرفه وتلقي الحق منه بعوض غير عادل مثلا مما يزيد في افتقار المدين وعسره ويضر بدائنيه ولم يجد حرجا في تغليب مصلحته على حقوقهم، كان تواطؤه واضحا، وساغ حرمانه من المال الذي اكتسبه على حساب الدائن.
واشتراط التواطؤ في المعاوضات يجد تبريره في أن الغرض من الدعوى البوليانية صيانة حقوق الدائنين من دون الإخلال بحقوق الغير التي اكتسبوها من المدين عن حسن نية، وهذا الغير جدير بالحماية بالأخص في المعاوضات لأنه يدفع فيها مقابلا، فيجب درء الخسارة التي قد يتجشمها من جراء أخذ المال منه بموجب الطعن خاصة وأن رجوعه على المدين لن يفيده في شيء نظرا لعسره، فيكون أدق بالحماية من الدائن الذي يجب أن يتحمل إهماله وعدم مطالبة المدين بتأمين خاص، لكن ترجح المفاضلة لصالح الدائن متى أقام الدليل على أن التصرّف إليه سيئ النية أي متواطئ مع المدين على الإضرار بحقوقه[263].
أما إذا فوت المتصرف إليه في المال الذي تلقاه من المدين إلى الغير أو رتب عليه حقوقا لفائدته، فإنه من الثابت فقها وقضاء وما اقتضاه جلّ التشاريع العربية المقارنة أنه يمكن للدائن مقاضاة الخلف الثاني باعتبار أن الدعوى تنصرف إليه ايضا، ولا يخلو مآل الدعوى ضده من أمرين: فإذا أثبت الدائن التواطؤ في جانب الأول جاز له مقاضاة الخلف الثاني على أن يثبت التواطؤ في جانبه إذا تلقى الحق معاوضة أي أن يكون حين تلقاه على علم بغش المدين وتواطؤ من تصرّف إليه، أما إذا تلقاه تبرعا فلا يستلزم قبول الطعن ضده إثبات سوء نيته، وأما إذا لم يتمكن الدائن من إثبات التواطؤ في جانب المتصرف إليه المباشر، فليس له دعوى ضدّ الخلف الثاني بالتبعية سواء تلقى الحق بعوض أو تبرعا[264]، فلا يمكن للدائن تعقب المال الذي خرج من ذمة المدين وإذا كان التصرف بيع عقار وثبت تواطؤ المشتري لكن شفيعا أخذخ، فليس على الدائن أن يثبت تواطؤه وهو أمر عسير لأنه ليس خلفا للمتشري إنما يتلقى العقار مباشرة من المدين البائع فيحلّ محل المشتري، فإذا ثبت تواطؤ هذا، وجب اعتبار الشفيع خاضعا لنتائج الدعوى ضده ولو لم يثبت سوء نيته.[265].

[ ب ] – التواطؤ مفترض في التبرعات

إذا كان التواطؤ مشترطا في جانب المتصرف إليه كي يقبل الطعن في المعاوضات حتى يمكن حماية الغير حسن النية من تبعات الطعن، فإن هذا التواطؤ يصبح مفترضا كلّما تلقى هذا الغير من المدين حقا على وجه التبرع ضرورة أن الاعتبارات الحمائية المذكورة لا يلتفت إليها لأنه إذا تعلقت الدعوى بمعاوضة جرت المفاظلة بين دائن يسعى إلى درء الضرر وبين متصرف إليه يناضل لتفادي خسارة، في حين أنها إذا تعلقت بتبرع كانت المفاضلة بين دائن متضرر يعمل على رفع الضرر الناشئ له من التصرف وبين متبرّع له يسعى إلى المحافظة على كسبه، فيكون الأول هو الأحرى بالحماية لأن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، فلا يعتد في ذلك بحسن نية المتبرع له فلا يمكنه مثلا مجابهة الدائن القائم باكتساب العقار بالتقادم قصير المدّة اعتمادا على حسن نيته، ويجوز حينئذ أخذ المال منه الوفاء بحق الدائن ولا يكون قد فاته في هذه الصورة إلا فرصة تنمية كسبه[266].
ونجد تقريرا لهذا المبدإ في فقه القضاء وتحديدا في القرار التعقيبي المؤرخ في          8 جانفي 1970 [ ق.ت، 70، ص 553 ] الذي ورد به ما نصه: " إذا كان هذان الشرطان        [ الإضرار والتغرير ] كافيين في التبرعات لانتفاء المضرة عن المنتفع بالعقد التبرعي، فإن المبادئ القانونية العامة توجب توفر شرط سوء النية عند معاقد المدين إذا كان العقد بعوض ". وكذلك في قضاء محكمة التعقيب الفرنسية[267].
ولما كان نظام الإثبات في دعوى الطعن منوطا بطبيعة التصرّف المطعون فيه، فإنه يتوجب على قضاة الأصل تصحيح التكييف القانوني للتصرف خصوصا وأنه توجد حالات يعسر فيها تحديد ما إذا كانت تهم تبرعا أو معاوضة فمن الممكن أن يعمد المدين مثلا إلى إبرام هبة مستترة في عقد قسمة[268] أو إبرام عقد بيع بثمن بخس، ففي كلتا هاتين الحالتين يجب اعتبار التصرّف تبرّعا وإعفاء الدائن بناء على ذلك من إثبات سوء نية المعاقد.
وكما هو الشأن في المعاوضات، إذا فوّت المتبرع له الأول إلى خلف ثان في المال الذي تلقاه، جاز رفع الدعوى ضدّ هذا الخلف وتقبل الدعوى دون لزوم إثبات التواطؤ في جانبه إذا كان قد تلقى الحق تبرّعا أيضا، أما إذا تلقاه بعوض، فإنه ينظر هل أنه متواطئ أم لا، ومعنى التواطؤ في هذه الصورة هو علم الخلف الثاني بأن المدين قد تصرّف غشا، ولا يهم إذ كان المتصرف إليه متواطئا أم لا باعتبار أنه تلقى الحق تبرعا من المدين، وقد اعتبر المشرع المصري في المادة 238 من القانون المدني تواطؤ الخلف الثاني متحققا إذا علم بأن المدين كان وقت تصرّفه إلى الخلف الأول معسرا.
ومهما يكن محتوى شرطي الضرر في جانب الدائن وسوء النية في جانب طرفي التصرف وطرق إثباتهما، فإن الطعن لا يكون له أي مفعول قانوني إلاّ بتحققهما معا.

 

الفصل الثاني: آثار قبول الدعوى


ينشأ عن تصرف المدين الاحتيالي وضع غير طبيعي يتمثل في اختلال التوازن بين حقوق الدائن من جهة وبين مصالح المتصرف إليه من جهة أخرى، فإذا كان هذا قد اكتسب من المدين مالا عمرت به ذمته، فإن الدائن حصل له من التصرّف ضرر إذ يجد مدينه قد أعسر وأضحى عاجزا عن الوفاء له بحقه.
ولما كان الهدف من الدعوى البوليانية حماية الدائنين من تصرفات مدينهم الاحتيالية الضارة بحقوقهم، فإن قبول الطعن يترتب عليه بالتبعية انحلال التصرف المطعون فيه ووضع حدّ للاحتلال الذي أحدثه بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه قبل وقوعه، أي أن لهذا الانحلال مفعولا رجعيا يتمثل في إزالة الضرر عن الدائن الطاعن بتجريد المتصرّف إليه من المال موضوع التصرف تمهيدا للتنفيذ عليه بقدر ما يفي بحقوقه.
فإذا كان المفعول الرجعي هو إحدى خاصيات الجزاء الذي ينال التصرف المطعون فيه، فإن الكشف عن بقية خاصياته وضبط نظامه القانوني منوطان بتحديد طبيعته القانونية [ المبحث الأول ] وتحليل كيفية تطبيقه [ المبحث الثاني ].

المبحث الأول: تحديد الجزاء المنطبق


يثير تحديد الطبيعة القانونية للجزاء المنطبق على التصرف المطعون فيه صعوبة في القانون التونسي في ظل سكوت المشرع بالفصـ 306 ـل م ا ع عن تحديده، أمّا عبارة " الإبطال " الواردة بعنوان القسم الثاني المندرج تحته الفصل المذكور فتحيل على البطلان النسبي غير أن الصياغة الفرنسية للعنوان تتضمن عبارة               " Révocation " التي يعرّبها أحد الفقهاء بلفظة " الانحلال "[269]، لكنه لم يتعمقوا في تحليل طبيعته القانونية.
إلا أنه بتحليل أهداف الدعوى البوليانية ونظامها القانوني تحليلا معمقا يتضح أن الجزاء البطلان غير ملائم ويتعين استبعاده [ الفقرة الأولى ] لإقرار عدم النفاذ جزاء للتصرف المطعون فيه [ الفقرة الثانية ].

الفقرة الأولى: استبعاد البطلان


لئن وجدت نظريتا البطلان المطلق [ أ ] والبطلان النسبي [ ب ] صدى عند بعض الفقهاء وفي بعض التطبيقات القضائية، فإن عدة حجج قانونية تنهض دليلا على عدم وجاهتهما.

[ أ ] – البطلان المطلق

يقضي بعض محاكم الموضوع في فرنسا في الدعوى البوليانية بالبطلان إلا أن محكمة التعقيب غالبا ما تنقض أحكامها تأسيسا على عدم ملاءمة الجزاء[270]، أمّا في تونس، فنجد محكمة التعقيب أقرّت البطلان المطلق جزاء للتصرف المطعون فيه بالدعوى البوليانية وهو ما يفهم من قرارها المؤرخ في 11 ماي 1978 [ ن 78، ج 1، ص 254 ] الذي اعتبرت فيه أن " التفويت المقصود منه الإضرار بحقوق الدائنين          باطل "، دون أن تؤسس قضاءها على أي سبب قانوني من أسباب البطلان، وإنما على قصد الإضرار بالدائنين[271].
ويذهب بعض الشراح ممن أيدوا هذا الطرح[272] إلى تبرير البطلان المطلق كجزاء للدّعوى البوليانية بأنها تؤدي كدعاوي البطلان إلى محو رجعي لآثار التصرف المطعون فيه كتعويض عيني للدّائن المتضرر باعتبار بطلان التصرّف مصدر الضرر أنسب طريقة لجبر ذلك الضرر، متأثرين في ذلك على ما يبدو بفكرة البطلان التي كانت راسخة في أحكام الدعوى البوليانية في القانون الروماني.

على أن هذه المحاولة لتبرير إعمال البطلان كجزاء يترتب على الطعن بالدعوى البوليانية ليست بمنأى عن النقد إذ يؤخذ عليها تجاهلها للاختلافات البيّنة بين آثار البطلان وبين نتائج الدعوى البوليانية، فإذا كان الأول يسري على                      الكافة Rega omnes أي يمحو آثار التصرف تماما بين طرفيه وتجاه الغير، فإن الجزاء في الدعوى البوليانية يتقرر في حدود ما هو لازم لحماية الدائن الطاعن[273] فهو نسبي إذ تلغى بموجبه آثار التصرف إزاءه مع بقائه قائما بين طرفيه، وهو جزئي لما يستتبعه هذا البقاء من وجوب عودة ما يزيد على قيمة حق الدائن إلى المتصرّف إليه ومن إمكانية رجوع هذا على المدين بالجزء الذي أوفى به للدائن الطاعن، ثم إن نجاح الدعوى في مواجهة الخلف الثاني منوط بتوفر شرط سوء النية في جانبه حال أن الأمر لو تعلق ببطلان، لكانت الدعوى ضد المتصرف إليه الأول كافية ليمتد أثر الحكم فيها إلى الخلف الثاني ما دام تقرّر في مواجهة الأول حيث إن ما بني على باطل فهو باطل وليس للأول أن يدلي إلى الثاني بأكثر مما يملك من الحقوق[274].
وقد أجمل الأستاذ المالقي هذا الفرق بين الدعويين بقوله " … الدعوى البوليانية … ليست دعوى إبطال حقيقي إذ لو كانت لها هذه الصفة لفسخ العقد … ولتعذر أيضا على المشتري الثاني حسن النية الفوز بمشتراه إلا إذا كان هو أيضا سيئ النية "[275].
وإذا لم يكن جزاء البطلان لا يتلاءم من حيث الآثار مع نتائج الدعوى البوليانية، فإنه يختلف عنها أيضا من حيث الأسباب، فقد اقتضى الفصـ 325 ـل م ا ع أن الالتزام يبطل من أصله متى خلا من ركن من أركانه أو حكم القانون ببطلانه في صورة معينة، بما يجعل جزاء البطلان يتقرر لإخلال بأحد أركان صحة التصرف منذ نشأته المنصوص عليها بالفصل الثاني من م ا ع، خلافا لسبب الدعوى البوليانية الذي هو الغش والإضرار بالدائنين بواسطة تصرّف يفترض أن يكون قد حاز جميع أركان صحته.
ولئن أمكن لمحكمة التعقيب الفرنسية الأخذ في أحد قراراتها[276] بالبطلان جزاء لتصرف طعن فيه بالدعوى البوليانية تأسيسا على عدم مشروعية السبب الباعث على إبرامه وهو الإضرار بالدائنين، أو اعتبار هذا الجزاء مقررا بحكم القانون في بعض تطبيقات الدعوى[277]، فإن ذلك لا ينهض حجة على الأخذ به ضرورة أنه يفضي إلى نتائج قانونية منافية للأحكام المنظمة للدعوى البوليانية ونتائج عملية من شأنها إفشال أهدافها، إذ القيام بدعوى البطلان مخول لكل من له مصلحة بمن فيهم أطراف التصرّف، حال أن الدعوى البوليانية هي من خصائص الدائنين لكونها تستهدف حماية ضمانهم العام.
فلو اعتبرناها دعوى بطلان لأمكن لطرفي التصرّف الإفلات من تتبع الدائنين وذلك بنقض التصرّف المبرم فيما بينهما بواسطة قيام أحدهما ببطلانه.
هذا، وإن إدراج الدعوى البوليانية ضمن دعاوى البطلان يعني وضع ركن إضافي لتكوين التصرفات القانونية وصحتها هو عدم الغش والإضرار بالغير زيادة على أركان الفصل الثاني من م ا ع وصور البطلان الخاصة الأخرى المنصوص عليها قانونا.

[ ب ] – البطلان النسبي

 توحي عبارة " الإبطال " الواردة بعنوان القسم الثاني المدرجة تحته أحكام             الفصـ 306 ـل م ا ع والتي دأب فقه القضاء على استعمالها في معظم تطبيقات الدعوى البوليانية[278] بأن الجزاء المعتمد تشريعا وقضاء في هذه الدعوى هو البطلان النسبي، ومما يؤيد هذا الاعتقاد استخدام محكمة التعقيب[279] وبعض الفقهاء[280] عبارة " الفسخ " لنفس الغرض، ذلك أن المشرع ذاته يقصد بالفسخ البطلان النسبي[281]، هذا فضلا عن تشابه الدعوى البوليانية ودعوى الإبطال في بعض الآثار كما هو واضح من الفصـ 336 ـل م ا ع الذي يقتضي أن البطلان النسبي لا يسري في حق الغير ممن اكتسبوا حقوقهم بغير تدليس قبل تقريره مثلما هو الحال بالنسبة إلى الخلف الثاني في الدعوى البوليانية حيث لا تنصرف إليه نتائجها إذا لم يثبت سوء نيته.
على أن هذه المؤشرات غير كافية لوصف الدعوى البوليانية بكونها دعوى بطلان نسبي، ذلك أن هذا التحليل لا يستقيم من عدة وجوه أوّلها أن عبارة " الإبطال " الواردة بالعنوان المذكور لا تقوم سندا للأخذ بالبطلان النسبي كجزاء في الدعوى البوليانية ضرورة أن العناوين تخلو من القوة الملزمة التي للقواعد القانونية المضمنة بالفصول إذ جعلت لتبويب الأحكام لا غير، ثم إن المشرع جعل البطلان النسبي جزاء على عدم مراعاة القواعد التي وضعها لحماية المتعاقدين في حالات الرضاء المعيب والأهلية الناقصة، فيكون بصفته هذه وقفا على من شرع لمصلحته منهما خلافا للدعوى البوليانية التي يقوم بها الدائن الذي ليس طرفا في التصرف المطعون فيه تأسيسا على الغش والضرر خاصة وأن المشرع لم يذكر صورة الفصـ 306 ـل م ا ع  من بين حالات البطلان النسبي التي أوردها بالفصـ 330 ـل م ا ع، كما أن القول بأن الدعوى البوليانية تستهدف البطلان النسبي يفضي إلى تخويل الدائن القائم إمضاء التصرف المطعون فيه على معنى الفصلين 337 و 338 م ا ع للنزول عن دعوى الطعن بيد أن هذا التصرّف أحادي الجانب من خصائص المتعاقد المتضرّر الذي مكنه المشرع من طلب الإبطال، كما يفضي إلى سحب أحكام تقادم دعوى البطلان النسبي بمرور الزمن على دعوى الطعن خصوصا فيما يتعلق بالمدة، وهي نتيجة غير مقبولة لأن المدة المنصوص عليها بالفصـ 330 ـل م ا ع لا يترتب على انقضائها سقوط دعوى البطلان النسبي إلا فيما بين المتعاقدين، حال أن الأمر في الدعوى البوليانية            يتعلق بالدائن الذي هو أجنبي تماما عن دائرة التصرف وفي غياب تنصيص              بالفصـ 306 ـل م ا ع على مدة خاصة بسقوط الدعوى البوليانية، فإن المدة العامة المنصوص عليها بالفصـ 402 ـل م ا ع وهي خمسة عشر عاما هي التي تنطبق وهو ما يوافق ما كان يقتضيه الفصـ 355 ـل من اللائحة الابتدائية الذي نصه:                 " القيام بطلب الإبطال يسقط بمضي عام من تاريخ ثبوت عسر المديون بحكم، فإن لم يصدر حكم في ثبوت عسره، فإن القيام بالطلب المذكور يسقط على كل حال بعد مضي خمسة عشر عاما من تاريخ عقد التفويت … "، مع الإشارة إلى أنه إذا كان الدائن مرتهنا، فلا يسقط حقه في القيام بالدعوى البوليانية بمرور الزمان عملا بأحكام                  الفصـ 390 ـل م ا ع، وإذا كان هذا الحل تشريعيا كما هو الشأن في جل القوانين المدنية العربية[282]، فهو قضائي في فرنسا حيث استنتجته المحاكم من استبعاد وصف الدعوى البوليانية بدعوى بطلان نسبي، فأقرت سقوطها بمضي المدة العامة لتقادم الدعاوي التي هي ثلاثون عاما طبق أحكام المادة 2262 م م ف[283].
فإذا لم يكن الجزاء المترتب على الطعن بالدعوى البوليانية البطلان المطلق ولا البطلان النسبي، ففيم يتمثل ؟ 

الفقرة الثانية: إقرار عدم النفاذ


إن جزاء عدم النفاذ كأثر يترتب على الطعن بالدعوى البوليانية أضحى اليوم محل إقرار أغلب الفقهاء استنادا إلى عدة تبريرات [ أ ]، وهو أيضا الحلّ الذي أخذ به
القضاء وبعض التشاريع المقارنة صراحة [ ب ].

[ أ ] – التبريرات

يرى شراح القانون في فكرة عدم النفاذ Inopposabilité الوسيلة المثلى لتفسير مختلف خصائص الدعوى البوليانية وتعليل الآثار التي تنتجها.
فبهذه الفكرة يمكن فهم إسناد الدعوى إلى الدائن الذي هو غير بالنسبة إلى التصرف،  إذ ليس له أن يحتج ببطلانه بطلانا نسبيا لأن ذلك خاص بالمتعاقدين دون سواهما[284]، كما أن البطلان المطلق لا يفيده في شيء كما أسلفنا لأن فيه إجحافا بحقوق من تعاقد مع المدين أو خلفه خاصة إذا كان حسن النية.
فبفكرة عدم النفاذ يمكن فهم إلغاء أثر التصرف في مواجهة الدائن مع بقائه قائما ومنتجا لجميع آثاره بين الأطراف، وبها يمكن أيضا تبرير قصر هذا الإلغاء على ما هو ضروري للوفاء بحق الدائن كما أن ذات الفكرة تفسر رجوع المتصرف إليه على المدين بما وفاه للدائن أو بقيمة ما انتزعه الدائن من يده بموجب قبول الطعن[285].
والفكرة المحورية التي تؤسس لإقرار جزاء عدم النفاذ هي الغش ومؤداها أن المدين نزع بغشه  عن تصرفه النفاذ في حق دائنيه بما يتيح لهم الطعن فيها وإلغاء آثارها تجاههم، ذلك أن الغش بوجه عام يفسد كل أمر Fraus omnia corrumpit، ويستوجب أن يجازى كل من يصدر منه وهو المدين في صورة الحال بعكس ما يقصد، وهو ما يفسر رفع الضرر الذي قصد إلحاقه بالدائن وذلك بتمكين الدائن من استيفاء حقه مع إبقاء المدين ملتزما بموجبه تجاه من تصرف إليه والذي يمكنه الرجوع عليه[286] إذ لو كان الجزاء البطلان لأمكن للمدين التفصي من تبعات غشه بموجب زوال آثار التصرف ولتحمل المتصرف إليه نتائج الدعوى بمفرده حال أن المدين هو المصدر الأول للغش.
ثم إن المشرع التونسي يعرف جزاء عدم النفاذ وإن لم يفرده بباب خاص في مجلة الالتزامات والعقود على غرار البطلان، إذ نجده قد أورده في نصوص متفرقة وبصيغ مختلفة مثل " لا يحتج به على الغير "[287] أو " لا يعارض به "[288] أو " لا يمضي في حق الغير "[289].
ولئن لم يعتمد المشرع مصطلح " عدم النفاذ " في هذه التطبيقات، فإنه من الممكن استعماله خصوصا وأن الفقهاء يستخدمونه على نطاق واسع[290] زيادة على وروده في بعض الأحكام القضائية، كما أنه ورد صراحة في جل القوانين العربية المقارنة.
وبتتبع مختلف النصوص المذكورة، يتبين أن جزاء عدم النفاذ مرتب فيها على التخلف عن القيام بموجبات الإشهار كشكلية التسجيل والترسيم، أو خلو المحررات غير الرسمية من تاريخ ثابت أو الصورية، ويذكر أن الفصـ 370 ـل م ح ع يقتضي أن الترلاسيمات الحاصلة بعد القيد الاحتياطي لا يعارض بها المستفيد من القيد اعتبارا لأن هذا القيد ينزع قرينة حسن النية عن أصحاب الترلاسيمات اللاحقة لكونه إنذارا لهم بوجود حقوق للغير على العقار المسجل لم يثبت بعد نهائيا بحيث يمكن إبطال تلك الترلاسيمات تبعا لثبوت تلك الحقوق بصورة قطعية.
وواضح من مختلف هذه التطبيقات أن عدم النفاذ هو جزاء لتصرفات من شأنها أن تضرّ بالغير وتنطوي على غش محتمل كما في إبقاء الحقوق مستترة بعدم الإشهار أو غش ثابت كما في الصورية أو انعدام قرينة حسن النية كما في إدراج ترلاسيمات رغم وجود قيد احتياطي، وهي ذات الفلسفة التي يقوم عليها جزاء عدم النفاذ في الدعوى البوليانية.

[ ب ] – الحلول


لقد اقرّ فقه القضاء منذ البداية عدم النفاذ كجزاء للتصرف المطعون فيه بالدعوى البوليانية.
فقد تضمن القرار التعقيبي عـ 6357 ـدد [ ق.ت 60، عـ 9 و 10 ـدد،         ص 38 ]، هذا الإقرار في صياغة مبدئية لكنه كان ضمنيا إذ أن ما يلاحظ في هذا القرار أن محكمة التعقيب عند تدقيقها في عناصر الجزاء وآثاره توّصلت إلى الاعتراف بعدم النفاذ رغم أنها تشير صراحة إلى جزاء البطلان النسبي، فقد جاء في حيثيات هذا القرار أن " الإبطال نسبي وفائدته تكون مقصورة على المشروع في جانبهم وهم الدائنون وليس للمدين بحال أن يتمسك بذلك الإبطال ولا أن يستفيد منه أصلا … وتصرّفه يعتبر باتا في جانبه … إذ بذلك الإبطال يرجع المبيع للغريم للتحصيل على عقلته وبيعه والخلاص من ثمنه دون البائع حتى إنه لو فضل من الثمن شيء فهو إنما يرجع للمشتري دون البائع الذي انفكت علاقته عن المبيع بصفة لا رجوع فيها حتى إن المشتري لو خلص الدائنين لسقط حقهم في دعوى الطعن والإبطال وذلك لأنه يكون قد أزال بذلك الضرر الذي ارتكزت عليه تلك الدعوى ".
وإذا كان هذا الحلّ الضمني قد لقي تأييدا من الفقهاء[291]، فإن بعض محاكم الموضوع أقرّ جزاء عدم النفاذ صراحة وبوضوح، فقد ورد في حكم استئنافي أن:             " … هذا الطعن لا يكون في نطاق دعوى البطلان لسبب بديهي لأن الدائن يعدّ غيرا بالنسبة لذلك العقد، والغير لا يجوز له أن يحتج بالبطلان الذي يبقى مقتصرا على طرفي العقد فقط، لكن بوسع هذا الغير " الدائن " شل حركة هذا العقد في مواجهته وذلك بجعله غير نافذ المفعول تجاهه طالما قد استحال عليه أمر إدراكه في صحته ووجوده عن طريق دعوى البطلان، وحيث تفريعا على ذلك فإنه يتجه التصريح بعدم نفاذ عقد البيع المطعون فيه إزاء الدائنة … "[292].
ويعدّ هذا الموقف تطوّرا هامّا ونقلة نوعية في التطبيق القضائي في تحديد الجزاء المترتب على الدعوى البوليانية بوضوح يقطع مع التردد وعدم الدقة الذين اتسمت بهما عدة أحكام وقرارات قضائية بسبب اقتضاب النص.
وإذا كان هذا الإقرار قضائيا في تونس وفي فرنسا أيضا حيث استقر فقه القضاء عليه[293] فإنه يجد في أكثر الدول العربية مصدره في نصوص قطعية وواضحة كفت الشراح والقضاء مؤونة الاجتهاد في البحث عن طبيعة الجزاء[294]، غير أن التشريع اللبناني يكتنفه بعض الغموض في هذا الصدد إذ نصت المادة 278 من قانون الموجبات والعقود أن الدعوى هي دعوى فسخ كما جاء بها أنه " لا يستفيد من نتائج هذه الدعوى إلا الشخص أو الأشخاص الذين أقاموها وذلك على قدر ما يجب لصيانة حقوقهم أما فيما زاد عنها فيبقى العقد ويستمر على إنتاج جميع مفاعيله "، ويعتبر شراح هذا القانون أن الدعوى بالنظر إلى تحليل نتائجها الخاصة هي " دعوى إعلان عدم سريان تصرف المدين على دائنه "، وقياسا أيضا على الاعتراض على الأحكام الذي هو تطبيق خاص لهذه الدعوى يجعل الحكم عديم الحجية تجاه المعترض دفعا للضرر الذي قد ينشأ له عنه[295].

 

المبحث الثاني: تطبيق الجزاء


إذا سلمنا بأن الجزاء المترتب على الدعوى البوليانية هو عدم نفاذ التصرف المطعــون فيه إزاء الدائن المتضرر، فإنه من الحتمي أن نخلص بعد ذلك إلى النتائج
العملية لهذا الجزاء [ الفقرة الأولى ] قبل التعرض إلى خصوصية هامة تنبثق عن الطبيعة الخاصة للجزاء المذكور وهي استئثار الدائن القائم بالدعوى بالنتائج المترتبة عليها [ الفقرة الثانية ].

الفقرة الأولى: نتائج عدم نفاذ التصرف


إن التصريح بعدم نفاذ تصرف المدين يترتب عليه مبدئيا رد العين التي كانت محلا له إلى ضمان الدائن القائم تمهيدا للتنفيذ عليها [ أ ] دون أن يمنع ذلك من الحكم له في بعض الأحوال بالتعويض [ ب ].

[ أ ] – مبدأ الرد


الرد أو الترجيع هو إعادة العين التي دخلت ذمة المتصرف إليه بموجب التفويت إلى ضمان الدائن بصورة اعتبارية لا فعلية أي أن تلك العين تعتبر بصفة مجردة وبمفعول رجعي كما لو لم يرد عليها التصرف وبهذا الاعتبار يمكن للدائن استيفاء حقه من العين وهي بين يدي المتصرف إليه وتجرده منها كليا أو جزئيا عند الاقتضاء بحسب مبلغ الدين بالنظر إلى قيمتها وقد تبنى بعض الفقهاء والدارسين رأيا مغايرا مؤداه أن العين التي خرجت من كسب المدين تعود بموجب عدم النفاذ إلى ذمته أي الضمان العام لجميع الدائنين[296] وهو ما يترتب عليه تمكين الدائنين الذين لم يتداخلوا في الدعوى من محاصصة الدائن القائم عند التنفيذ.
وهكذا، فإنه إذا كان التصرف بيعا مثلا عادت العين المبيعة ضمان الدائن          القائم مثلما أشارت إليه محكمة التعقيب في القرار عـ 6357 ـدد [ ق . ت 60،            عـ 9 و 10 ـدد، ص 38 ]  حين اعتبرت أن " … الإبطال يرجع المبيع للغريم للتحصيل على عقلته وبيعه والخلاص من ثمنه دون البائع "، أما إذا كان التصرف إنشاء لحق عيني على عقار المدين لفائدة معاقده كترتيب رهن أو حق ارتفاق عليه، أو كان بيعا ثم رتب المشتري حقا عينيا على مشتراه لفائدة شخص آخر، عاد العقار إلى ضمان الدائن ويستوفي منه دينه كما لو كان خاليا ومحررا من ذلك الحق[297]، وإذا كان إبراء اعتبر الدين كما لو بقي متخلدا بذمة من صدر الإبراء لفائدته وجاز للدائن التنفيذ على محله.
وإذا تعلق التفويت بعقار مسجل وسبق ترسيمه سواء كان ناقلا للملكية كالبيع والهبة أو منشئا لحق عيني كالرهن أو حق الارتفاق على العقار، فإن الرّد الناتج عن عدم النفاذ من الممكن أن يتجسد في التشطيب على الترسيم، وهو جزاء مدني تبعي يلحق بحكم عدم النفاذ باعتباره نتيجة لإلغاء سند الترسيم كلاّ أو بعضا، أمّا إذا قيدت الدعوى البوليانية الرامية إلى الحكم بعدم نفاذ ذلك التصرف قيدا احتياطيا برسم الملكية على معنى الفصـ 365 ـل أولا من م ح ع، فإن الحكم بعدم النفاذ يترتب عليه التشطيب الآلي على القيد لانتفاء موجبه، شريطة أن يكون الحكم قد أحرز على قوة ما اتصل به القضاء طبق أحكام الفصـ 373 ـل أولا من م ح ع.
هذا وليس متعينا أن يكون الرد كليا، إذ يمكن أن يكون جزئيا متى أمكن تجزئة محل التصرف، وكان عدم النفاذ في جزء منه يكفي للوفاء بحق الدائن، فيقضى به في حدود مبلغ الدين سند الدعوى[298] أما إذا كان التصرف المطعون فيه غير منقسم كان الرد كليا، ولكن الباقي بعد استيفاء الدائن حقه من المتحصل من العقلة على العين وبيعها صبرة واحدة يعود إلى المتصرف إليه لا المدين[299].
ويؤخذ من ذلك أن للمتصرف إليه إذا أراد تفادي الرد أن يؤثر الاحتفاظ بالعين ويدفع ثمنها إلى الدائن في حدود مبلغ دينه إن لم يكن قد دفعه إلى المدين أو يوفي للدائن بحقه، وليس للدائن أن يرفض هذا الوفاء ويتمسك بالرد[300]، وقد تضمن القرار التعقيبي عـ 6357 ـدد [ ق.ت 60 عـ 9 و 10 ـدد، ص 38 ]  هذا الحلّ إذ قررت المحكمة فيه " … لو خلص [ المعاقد ] الدائنين لسقط حقهم في دعوى الطعن … وذلك لأنه يكون قد أزال بذلك الضرر الذي ارتكزت عليه الدعوى "، وكذلك يمكن للمدين نفسه أن يوفي بالدين إذا تجاوز إعساره، وينتفي في كلتا الحالتين الضرر عن الدائن ومصلحته في القيام، فلا يقضى له بعدم النفاذ.

[ ب ] – إمكانية التعويض

div>
ليست الدعوى البوليانية دعوى مسؤولية مدنية ضرورة أن مفهوم الضرر الذي ترتكز عليه يختلف عن مفهومه في المسؤولية التقصيرية أو العقدية، كما أنها لا تتأسس على الخطإ أو المخاطر أو الضمان بل على الغش، وعلى فرض أن للخطإ مفهوما موسّعا يستغرق سوء النية، فإن هذا الركن لا يتوفر حتما في كل صور الدعوى البوليانية من ذلك أنها تقبل ضدّ من كان حسن النية إذا كان متبرعا له من دون أن يلزم الدائن إثبات خطإ في جانبه، ثم إن هذه الدعوى لا تفضي إلى الحكم بغرم الضرر على الأقل بصفة أصلية ومباشرة[301].
والمراد بالتعويض هنا هو تغريم المتسبب في الضرر على أساس قواعد المسؤولية وكذلك إحلال التعويض بقيمة مالية محلّ التنفيذ العيني.
معنى ذلك أن الردّ تنطبق عليه القواعد العامة، فهو مبدئيا عيني أي أن محله هو ذات العين المتصرف فيها، ويكون قيميا استثناء إذا تعذر الرد العيني بأن تلفت العين أو تعيّبت أو فوّت فيها المتصرّف إليه الأول إلى خلف ثان حسن النية لا تقبل دعوى الطعن ضده فيلزم توجيه الطعن ضد الأول، فيختلف محل الرد بحسب ما إذا كان المتصرف إليه حسن النية أو سيئها.
ولما كان الرد نتيجة لقبول الدعوى البوليانية، فإنه لا يتصور أن تقبل الدعوى ضد متصرف إليه حسن النية إلا إذا كان متبرعا له، فلا يعتد بحسن نيته في قبول الدعوى لكن يعتد به في تنفيذ الرد، فعليه حينئذ أن يرد قيمة المال الذي تلف أو تعيب بفعله أو تفريطه ولا يلزمه أن يرد من الغلة إلا ما كان في قبضته وقت القيام عليه[302] وأن يرّد الثمن الذي قبضه إن فوّت في العين إلى خلف ثان حسن النية لا تقبل ضده الدعوى[303]، وعليه مصروف الحفظ والاستغلال.
وأما إذا كان سيئ النية، فعليه رد قيمة المال مع الغلة والزوائد والأرباح التي قبضها أو من الممكن أن يكون قبضها من يوم توصّله به ولو كان قد تلف بقوة قاهرة[304]، أما إذا فوّت فيه إلى شخص حسن النية ولا يقبل ضدّه الطعن، لزمه ردّ الثمن الذي قبضه منه مع الفارق في القيمة عند الاقتضاء إذا كان الثمن دونها خاصة إذا كان مبلغ الدين يستغرق القيمة الحقيقية للمال، ويقدر المال بحسب قيمته وقت توصله به تطبيقا لأحكام الفصـ 43 ـل م ح ع الذي اقتضى " … وعليه أداء قيمته في تاريخ اتصاله به، فإن كان من المثليات ردّ بمقداره "، وله أن يطلب في المقابل طرح المصاريف التي بذلها لحفظ العين أو استغلالها طبق أحكام الفصـ 42 ـل م ح ع.
وأقر القضاء الفرنسي الردّ بالقيمة في غير صورة التلف أو التعيب، وذلك في حلل تعلق الطعن بتبرع بمبالغ نقدية بددها المتبرع له في شراء عقار، فقد قبل نظرية الحلول العيني ومكّن الدائن من طلب تسليط الردّ على العقار للتنفيذ عليه[305].
ولما كان الردّ بموجب عدم النفاذ مقصورا على ما هو ضروري للوفاء بحق الدائن، فإنه قد يكون غير كاف لجبر الضرر الحاصل له بصورة كلية، فله أن يطلب زيادة على ذلك الحكم بإلزام المدين أو المتصرف إليه سيئ النية بالتعويض له على أساس الأحكام العامة للمسؤولية المدنية التقصيرية، وعليه في هذه الحال إثبات الخطإ ونشوء ضرر عنه لم يتم جبره بعدم النفاذ المحكوم به في دعوى الطعن[306] ومن أمثلة ذلك أن يثبت الدائن أن المدين حرمه بتصرفه من التنفيذ في الوقت المناسب أو اضطره إلى رفع الدعوى والتأخر في استيفاء حقه بما سبب له ضررا إضافيا[307].

الفقرة الثانية: استئثار الدائن القائم بنتائج الدعوى


المبدأ أن أثر الأحكام نسبي، فلا ينصرف الحكم بعدم النفاذ كغيره من الأحكام القضائية إلا إلى الدائن القائم بالدعوى، فلا يستفيد منه غيره من الدائنين إذ يظل التصرف المطعون نافذا في حقهم [ أ ] كما أن عدم النفاذ يصرّح به تجاه الدائن القائم دون أن ينحلّ التصرف بموجبه أو تنقضي آثاره فيما بين طرفيه، فيظلّ قائما بينهما منتجا لجميع آثاره القانونية [ ب ].


[ أ ] – عدم انصراف الحكم إلى بقية الدائنين

المراد بالدائنين هم دائنو المدين غير من رفع الدعوى البوليانية طعنا في تصرّفه ما لم يكونوا قد انضموا إليه بالتداخل فيها، وكذلك دائنو المتصرّف إليه المقوم ضده فيقتصر أثر الدعوى على الدائن الذي رفعها دون غيره من الدائنين بحيث يكون له وحده حق التنفيذ على المال الذي كان محلا للتصرف المحكوم بعدم نفاذه، وهذا المبدأ الذي جاء صريحا في التشريع اللبناني حيث قضت المادة 278 من قانون الموجبات والعقود بأن " لا يستفيد من نتائج هذه الدعوى إلا الشخص أو الأشخاص الذين أقاموها"، وتبناه الفقه[308] والقضاء[309] في كل من تونس وفرنسا يستند إلى عدة تبريرات أولها أن الدعوى البوليانية إجراء فردي وشخصي يمارسه الدائن باسمه الخاص وفي حق نفسه لا نيابة عن بقية الدائنين ويطلب بموجبه جبر ضرر لحق به شخصيا من غش كان هو المستهدف به مثلما يتضح من صريح الفصـ 306 ـل م ا ح والمادة 1167 م م ف، وبدليل أنه لو استوفى حقه لما أمكنه المضي في دعواه زيادة على أن الدائنين ليسوا متضامنين فيما بينهم مبدئيا وهو ما لا تقتضيه طبيعة الدعوى البوليانية عملا بأحكام الفصـ 163 ـل م ا ع ولا ينوب بعضهم بعضا إلا بموجب الاتفاق أو القانون ولا تكون النيابة فيما بينهم مفترضة، وثانيها أن القول بانصراف أثر الدعوى إلى جميع الدائنين ينافي مبدأ نسبية حجية الحكم المقضى به.
كما يبرّر الأثر الفردي للدعوى بأن استيفاء الحقوق هو نتيجة التسابق بين الدائنين، فهم يملكون لتحقيق ذلك القيام بالدعوى أو بالتداخل فيها متى رفعها أحدهم حتى لدى الطور الاستئنافي[310]، فمن لم يحرص منهم على تحصيل حقوقه بأي من هذه الطرق فليس له أن يطلب الانتفاع بنتائجها وإن كان بيده سند تنفيذي أو مرسم خاصة وأن السماح لهؤلاء بمحاصصة الدائن القائم بالدعوى قد يؤدي إلى حرمانه من تحصيل حقه إذا كان من بينهم من له التقدم عليه ولم يبق له شيء، والحال أنه كان أحرص منهم، وهو ما يتنافى مع قواعد العدالة ويفقد الدعوى جدواها العملية مما يثني الدائنين عن استعمالها.
على أن هذه التبريرات لم تقنع المشرع المصري الذي أقرّ أن الدائنين الذين يستوفون شروط الدعوى البوليانية خصوصا الضرر وأسبقية الدين عن التصرف المطعون فيه يستفيدون من نتائج الدعوى التي يرفعها أحدهم وإن لم يتداخلوا فيها، وتبعه في ذلك كثير من مشرعي الدول العربية[311]، وهذا الحل الذي اتخذ بعد جدل حادّ على مستوى الأعمال التحضيرية[312] استلهمه المشرع المصري من أحكام المادة 1044 من القانون المدني البرتغالي التي قضت بأن يكون ردّ ما وقع التصرف فيه إلى ذمة المدين لمنفعة الدائنين، والمادة 113 من القانون المدني البرازيلي التي اقتضت أن الدائنين يتحاصصون فيما بينهم الفائدة المتحصلة من الدعوى، وأعاد به إلى الدعوى البوليانية بعض سماتها التي كانت لها في القانون الروماني، كما أنه لقي تأييدا من بعض الفقهاء في تونس[313]  ولئن كان هذا الحلّ أكثر اعتدالا من الرأي القائل باستفادة جميع الدائنين من الدعوى البوليانية بمن فيهم من لم يتداخل فيها وكان حقه لاحقا للتصرف المطعون فيه، والرأي القائل بأن الجزاء في هذه الدعوى البطلان الذي يسري على الكافة  [ الوسيط، ج 2، ص 1063 ]، فإن الأثر الفردي والنسبي للدعوى يبقى هو المبدأ في القانون التونسي اعتبارا للتبريرات السابق ذكرها.
على أنه يصبح للدعوى البوليانية في القانون التونسي والفرنسي أثر جماعي في مطلق الأحوال بالنسبة إلى من تداخل فيها من الدائنين أثناء سيرها، وكذلك بالنسبة إلى جماعة الدائنين إذا حكم بعدم نفاذ تصرّف للمدين المفلس سواء بموجب دعوى أمين الفلسة أو أحد الدائنين بمفرده، وسواء نشأت حقوق الدائنين قبل التصرّف المطعون فيه أم بعده ولو رفعت الدعوى قبل افتتاح الإجراءات الجماعية للتفليس تأسيسا على مبدأ عدم تجزئة الإجراءات والمساواة بين الدائنين[314]، ولا ينطبق هذا الحل فيما لو تعلق الأمر بتسوية قضائية لمؤسسة تمر بصعوبات اقتصادية نظرا لاضمحلال جماعة الدائنين في إطار هذا الإجراء كما تقدم[315].
ومن جهة أخرى، يستأثر الدائن القائم بنتائج الدعوى دون دائني المتصرف إليه، فلا يتعرض مبدئيا لمزاحمتهم في المال الذي استردّه بموجبها وليس لهم أن يطالبوا ببقاء هذا المال في ذمة مدينهم الذي هو ضمانهم العام، على أنه يفرّق بحسب ما إذا كان لهم ضمان خاص أو كانوا دائنين عاديين.
فإذا كان لهم حق عيني خاص على المال محلّ التصرف المطعون فيه كامتياز أو رهن عوملوا كما يعامل الخلف الثاني، فيعارض الدائن القائم بذلك الحق إذا اكتسبوه بعوض وعن حسن نية فليس له في هذه الحال إلا استيفاء حقه من ذلك العوض كما ذكر آنفا إلا إذا كانوا على علم بالضرر الحاصل له أو كان أسند إليهم على وجه التبرع[316]. أما
إذا كانوا دائنين عاديين، فإن حصول الدائن على حكم بعدم النفاذ يجنيه مزاحمتهم في المال الذي يسترده إلى ضمانه[317].
وقد حمل هذا المركز القانوني الخاص للدائن الحائز على حكم بعدم النفاذ في علاقته ببقية الدائنين بعض الفقهاء[318] على القول بأنه متمتع بامتياز، وهو ما يتعين تصحيحه من وجهتين أولاهما أن الامتياز مصدره القانون وأن المشرع حصره في الحقوق الوارد ذكرها في الفصلين 199 و 200 م ح ع ونصوص خاصة أخرى وليس من بينها حق الدائن المتحصل على حكم بعدم النفاذ بموجب الدعوى البوليانية، كما أن الامتياز يمنح استنادا إلى موضوع الدين ومنذ نشوئه حال أن ما يقال إنه " امتياز " للدائن القائم بدعوى الطعن يترتب على نتيجة الدعوى بعد الحكم فيها. ولذلك فالأصح أن يقال إن هذا الدائن يستأثر بنتائج الدعوى جزاء له على حرصه ومبادرته إلى إثارتها دون بقية الدائنين ولئن كانت الدعوى لا ترقى إلى درجة الامتياز أو الرهن لأن الدائن القائم لا يستوفي حقه من العين التي تصرف فيها المدين إلا إذا أثبت الغش والإعسار، أما الدائن المرتهن أو الممتاز فهو يتتبع العين وينفذ عليها في يد خلف المدين ولو كان حسن النية، إلا أنها تستجيب على الأقل لمفهوم الضمان إذ تؤدي إلى تعزيز حظوظ الدائن في استخلاص دينه وتحميه من غش مدينه وإعساره.

[ ب ] – بقاء التصرف فاعلا بين طرفيه

خلافا للبطلان الذي ينتج مفعوله تجاه الكافة، لا يلغي جزاء عدم النفاذ آثار التصرف المطعون فيه إلاّ حيال الدائن القائم، أما فيما بين الطرفين وكل من يحل محلهما من خلف عام وخاص فإنه يبقى قائما وفاعلا[319]، ويترتب على ذلك أنه لو كان التصرف بيعا، كما هو الحال الأكثر شيوعا في التطبيق، لبقي المدين البائع ومعاقده المشتري ملتزمين بما ينشأ عنه من التزامات فتنتقل بموجبه الملكية إلى المشتري وعليه دفع الثمن مخصوما منه الجزء الذي أداه إلى الدائن عند الاقتضاء إن لم يسبق له دفعه إلى المبالغ ويتعيّن على البائع التسليم والضمان، أما لو قام الدائن بالتنفيذ على العين المبيعة، فإن ما يتبقى من ثمنها بعد البيع لا يعود للمدين إنما للمشتري، وهو ما أكدته محكمة التعقيب حين قضت في القرار عـ 6357 ـدد [ ق.ت 60، عـ 9 و 10 ـدد، ص 38 ] بأن " عقد البيع المطعون فيه بالدعوى … يبقى عاملا فيما بين المتعاقدين، والمشتري لم تخرج من يده ملكية المبيع بدليل … استحقاقه لما بقي من الثمن بعد خلاص القائمين ".
وعليه، فإنه إذا صرحت المحكمة بعدم نفاذ العقد، وبادر الدائن القائم إلى التنفيذ على المبيع وتجريد المشتري منه كلّيا أو جزئيا، أو احتفظ به هذا وأوفى للدائن بحقه من ماله الخاص بما يسبب له ضررا جاز للمشتري الرجوع على البائع المدين بطرق مختلفة.
فيمكن للمشتري الرجوع على البائع بضمان الاستحقاق، ولا يمكن للبائع التفصّي من التزامه هذا المتأتي له من العقد ضرورة أن المشرع أجاز للمشتري القيام عليه بضمان الاستحقاق ولو علم السبب المقتضي للاستحقاق أو الحقوق المترتبة على المبيع، وذلك بمقتضى الفصـ 643 ـل م ا ع، وهذا يتطابق مع صورة المشتري في إطار الدعوى البوليانية باعتبار أنها لا تقبل ولا ترتب نتائجها ضده إلا إذا كان متواطئا أي عالما بالضرر الذي سيحصل لحقوق الدائنين من جرّاء العقد.
وليس من الممكن له القيام بدعوى ضمان الاستحقاق إذا كان التصرّف تبرّعا، إذ لا يجوز الرجوع بهذه الدعوى على الواهب إلا إذا اشترط في عقد الهبة صراحة عملا بأحكام الفصـ 207 ـل م ا ش.
كما يجوز للمشتري أو المعاوض الذي جرّد ممّا في حوزته استنادا إلى حكم عدم النفاذ أن يطلب فسخ البيع أو المعاوضة من أجل عدم التنفيذ واسترداد الثمن الذي دفعه أو الشيء الذي سلمه إلى المدين لأنه لم يف له  بالتزامه بالتسليم وذلك تطبيقا لمقتضيات الفصـ 273 ـل وما يليه من م ا ع[320].
وزيادة على دعويي العقد هاتين واللتين يقوم بهما المعاقد ضد المدين بوصفه طرفا معاوضا أو بائعا، يمكن للمتصرّف إليه بوجه عام لا في عقود العوض فحسب، القيام بدعوى الإثراء بلا سبب ضد المدين وكذلك الحلول فانونا محل الدائن في كل الحقوق والدعاوى التي له على المدين على معنى الفصـ 226 ـل م ا ع بناء على أنه وفى عنه بالحق الذي عليه للدائن القائم من ماله الخاص دون موجب قانوني أو اتفاقي وذلك تأسيسا على الأحكام العامة الواردة بالفصـ 71 ـل م ا ع.
على أن دعاوي الرجوع هذه تبدو عقيمة من الناحية العملية على تنوّعها والخيار بينها[321] ضرورة أنها تقام ضد مدين قد ثبت إعساره، على أن الخلف الثاني الذي تقام ضده الدعوى البوليانية ويحكم فيها بعدم النفاذ أوفر حظا من المعاقد المباشر للمدين         إذ يجوز له في هذه الصورة الرجوع على معاقده بالضمان وهو الذي يستبعد أن          يكون في حالة إعسار، وكذلك على المدين بموجب الحلول القانوني محل الدائن            أو الإثراء بلا سبب. 


    
نخلص في خاتمة هذا البحث إلى مفارقة مؤداها أن الدعوى البوليانية بين اقتضاب النص المنظم لأحكامها وبين  تنامي دورها في التطبيق بما أفضى إلى فقه قضاء غزير جاء بحلول مستحدثة أضحت أحوج من ذي قبل إلى مزيد توضيح معالم نظامها القانوني في وقت لا تجد فيه عدة آليات قانونية  أخرى رواجا على المستوى العلمي بالرغم من أن المشرع عني بتفصيل أحكامها مثل الدعوى المنحرفة التي خصّها بأحكام مستفيضة أكثر من أحكام الدعوى البوليانية امتدت على ثلاثة فصول. ومردّ ذلك  وجود بدائل قانونية عن الدعوى المنحرفة توفر للدائنين ضمانات أكثر وسرعة أكبر مثل العقلة التوقيفية في مقابل حفاظ الدعوى البوليانية على خصوصياتها ونجاعة دورها الحمائي.
        وتبرز أهمية الدعوى البوليانية من خلال توسّع مجال تطبيقها واستقلاليتها من حيث شروطها والجزاء المترتب عليها مثلما تمّ بسطه على امتداد هذا البحث. وأبرز سمات هذه الدعوى التي ساعدت على الإبقاء على جدواها العملية هو طبيعة وظيفته كأداة لمحاربة الغش، هذا العنصر الذي لا يمكن بحال من الأحوال أن يغيب عن علاقات تتجسّد فيها مصالح متضاربة مثل علاقة الدائن بالمدين.
        ولئن مكنت هذه الدراسة من الوقوف على عدة جوانب من الموضوع بقيت مثار خلاف لكونها تركت لاجتهاد القضاء والجدل النظري بين الفقهاء نظرا لاقتضاب النص، مع محاولة الإجابة على ما تطرحه من إشكالات باستقراء الحلول في القانون التونسي والأنظمة المقارنة وترجيح ما كان منها أكثر تلاؤما مع النص وتوجهات المشرع العامة في مادة الالتزامات،  فإن جدواها على المستوى التطبيقي ليست على نفس القدر من الأهمية لأنها أولا ثمرة مجهود بشري شخصي يمكن أن يرد عليه الخطأ، ثم لأن الأهمية النظرية مقصورة على الباحثين. ولذلك فإن هذه الدراسة لا تمثل مرجعا كافيا أو حاسما بالنسبة إلى القضاء لخلوّها من الصبغة الالزامية.
ولذلك فإن توفير حماية أنجع للدائنين من الناحية العملية مع الموازنة بين الحقوق التي لهم على مدينهم وبين الحقوق التي يتلقاها الغير من هذا المدين عن حسن نية وذلك في ظل فقه قضاء موحد ومتجانس يضمن حدا أدنى من الاستقرار منوط بتجاوز النقائص التي يشكو منها  المصدر الأول لنظام الدعوى البوليانية في القانون التونسي وهو نصّ الفقرة الأولى من الفصـ 306 م ا ع ـل وذلك بوضع نظام قانوني بديل ومتكامل يغطي مختلف المسائل التي تطرحها هذه الدعوى من حيث شروطها وآثارها ونطاقها، بما يمكّن القاضي من أداة قانونية فاعلة لتحقيق الأهداف الحمائية لهذه الآلية باعتبار أن التشريع يبقى بوجه عام  منطلقا ومرجعا للقضاء لحماية الحقوق.
        فلا مناص حينئذ من الخروج  في خاتمة هذا البحث بمقترحات  على ضوء النقائص التي برزت من خلاله وتتلخص هذه المقترحات  في مجملها في الدعوة إلى تعديل ذلك النص من الوجهتين الشكلية والأصلية بالاستلهام من الحلول القانونية والقضائية التي سبق استعراضها.
        أما من حيث الشكل، فيتجه تدقيق صياغة النص تفاديا للالتباس الذي من الممكن أن ينشأ عن بعض العبارات الواردة فيه، من ذلك تصويب عبارة " الإبطال"              بعبارة " عدم النفاذ "، وعبارة " التغرير والتدليس " بعبارة " الغش والتواطؤ"، وكذلك عبارة " العقود" بعبارة " التصرفات ".
        أما من حيث الأصل، فيحسن تفصيل شروط الدعوى وأهمّها الشروط المتصلة بالدين سند الطعن، وذلك باشتراط أسبقيته على التصرّف المطعون فيه صراحة من حيث وجوده لا استحقاقه تأسّيا بما كان يقتضيه الفصل 353 من اللائحة الابتدائية وما استقرّ عليه فقه القضاء، مع اشتراط ثبوته زمن الدعوى لا قبل التصرف المطعون فيه. وكذلك شرط الإعسار الذي يتجه إدراجه كعنصر جوهري من عناصر الضرر اللاحق للدائن مع تبني مفهومه الموسّع الذي وقع التعرض إليه ضمن هذا البحث وتوخي المرونة في نظام إثباته بوضع قرينة قانونية لتخفيف عبء الإثبات عن الدّائن على غرار القانون المدني المصري. فضلا عن اعتماد التفرقة بين المعاوضات والتبرعات  في خصوص إثبات الغش والتواطؤ باشتراطهما في الأولى التخلّي عنهما في الثانية بما يجعل أحكام الدعوى البوليانية في انسجام مع أحكام الفصـ 552 م ا ع ـل.
        أما في خصوص مجال تطبيق الدعوى، فيتجه التعرّض صراحة إلى استثناء الوفاء من الطعن مع اعتبار الوفاء بدين لم يحل أجله من المعاوضات القابلة للطعن شريطة إثبات الغش والتواطؤ.
        هذا ويتجه أيضا التنصيص صراحة على مدة تقادم خاصة متوسطة لسقوط القيام بالدعوى البوليانية ضمانا لاستقرار المعاملات من جهة ولحقوق الدائن من جهة أخرى، ويتجه أن يدرج الحكم الخاص بالتقادم ضمن الأحكام الخاصة بمرور الزمن الواردة بالفصول من 384 إلى 413 م ا ع وأن يجعل منطلق عدّ أجل السّقوط تاريخ إبرام التصرّف المطعون فيه أو علم الدائن به مثلما عليه الأمر في جل التشاريع العربية المقارنة.
        أما فيما يتعلق بالجزاء، فيكون من الأجدى التنصيص صراحة على عدم  النفاذ مع الإبقاء على أثره النسبي حتى يتسنّى الحفاظ على الجدوى العملية من الدعوى البوليانية في حماية الدائنين، وذلك بتشجيعهم على الحرص كل من جهته على تحصيل حقوقهم وتماشيا مع الطّابع الشخصي والفردي للدعوى ولتمييزها عن إجراءات التفليس الجماعية. ولمزيد إبراز هذا الطابع الفردي، لعله يكون من الأفضل إبدال                 عبارة " يجوز للدائنين " بعبارة " يجوز لكلّ دائن " تفاديا للالتباس.      
                 



عن الكاتب

الذخيرة القانونية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الذخيرة القانونية