الذخيرة القانونية

موقع يتعلق بالقانون التونسي

random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الشرط التغريمي


المقدمة
صدرت مجلة الالتزامات والعقود التونسية بمقتضى الأمر المؤرخ في 15 ديسمبر 1906 ، ولئن نظمت التعويض عن الضرر في المسؤولية المدنية سواء منها العقدية أو التقصيرية إلا أن هذا التنظيم شابه بعض الغموض أحيانا والنقص أحيانا أخرى. وكمثال على هذا الأخير نجد غياب تنظيم الشرط الجزائي أو ما يعرف كذلك بالشرط التغريمي، وهذا ما أكدته محكمة التعقيب التونسية في قرارها عدد 42624 المؤرخ في 28/4/1994 إذ جاء فيه "إن الشرط التغريمي أو الجزائي لم يرد به نص خاص بمجلة الالتزامات والعقود التونسية، ولم يحدد المشرع طبيعته ولا تنظيمه إلا أن فقه القضاء أقر صراحة صحة ومبدأ ثبوته".
إلا أننا نجد أن اللائحة التمهيدية لمجلة الالتزامات والعقود نظمت الشرط الجزائي ضمن الباب المتعلق ببعض الوسائل لحصول الوفاء بالعقود وسمي بـ "شرط الوعيد" والوعيد هو التهديد بالشر. وقد جاء في الفصل 333 من هذه اللائحة أنه "يجوز للمتعاقدين أن يعينوا في العقد مقدار التعويض المستوجب عند عدم الوفاء بالعقد أو عند التأخير فيه". 
وفي المقابل نجد أن المجلة المدنية الفرنسية نظمته ضمن أحكامها، وقد عرفته في المادة 1229 بأنه "تعويض الدائن عن الأضرار التي لحقته من جراء عدم تنفيذ الالتزام الأصلي".

كما نصت عليه المادة 364 من القانون المدني الأردني والتي جاء فيها أنه "1. يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدما قيمة الضمان بالنص عليها في العقد أو في اتفاق لاحق مع مراعاة أحكام القانون."
كما نصت عليه المادة 223 من القانون المدني المصري التي جاء فيها أنه "يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدما قيمة التعويض بالنص بالعقد أو اتفاق لاحق ويراعى في هذه الحالة المواد من 215 إلى 220".
إلا أن غياب تنظيم الشرط الجزائي في القانون المدني التونسي لم يغن ِ عن تطبيقه في الحياة العملية، وقد جاء في القرار التعقيبي المدني عدد 5820 بتاريخ 20 جوان/يونيه 1968 أن "الشرط التغريمي لم يرد به نص خاص في القانون وإنما يعود في حقيقته إلى التزام بتعويض الضرر بمبلغ معين يتفق عليه المتعاقدون وبهذه الصفة تنسحب عليه القواعد العامة للالتزامات والعقود" .
كما أكدت الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب ذلك بقولها أنه "جرى عمل المتعاقدين في نطاق حرية الاتفاقات أن يضبطوا علاقاتهم فيما يتوقعونه من ضرر عند عدم الوفاء بالالتزام أو تأخير الوفاء به ويعينوا له مقدارا ماليا مسبقا يتفقون عليه صراحة بالعقد وأن مثل هذا الشرط يسمى شرطا تغريميا لم ينص عليه القانون صراحة ففي هذه الصورة ينظر إليه على أساس القواعد العامة المتعلقة بالالتزامات" .
وقد عرفه الاستاذ محمد المالقي بأنه "عبارة عن مبلغ من المال يتفق عليه المتعاقدان حين التعاقد كشرط لزومي لتعويض الخسارة المتوقعة من عدم الوفاء أو من تأخيره" . 
كما عرفه مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية بأنه " 1. اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه من شُرِط له عن الضرر الذي يلحقه إذا لم يُنَفِّذ الطرف الآخر ما التزم به، أو تأخّر في تنفيذه... 3. يجوز أن يكون الشرط الجزائي مقترناً بالعقد الأصلي، كما يجوز أن يكون في اتفاق لاحقٍ قبل حدوث الضرر." 
ويختلف الشرط الجزائي عن الغرامة التهديدية التي تعرف بأنها "عبارة عن وسيلة ضغط يتخذها القاضي في بعض الصور لإرغام المحكوم له عن كل يوم تقاعس فيه المدين عن الوفاء .
كما يختلف الشرط الجزائي عن الصلح، وقد عرف هذا الأخير الفصل 1458 من مجلة الالتزامات والعقود بأنه "عقد وضع لرفع النزاع وقطع الخصومة ويكون ذلك بتنازل كل من المتصالحين عن شيء من مطالبة أو بتسليم شيء من المال أو الحق"، كما عرفته المادة 647 من القانون المدني الأردني بأنه "عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة بين المتصالحين بالتراضي".
ومما سبق بيانه يتضح أن الشرط الجزائي أو التغريمي هو عبارة عن تعويض الخسارة المنجرة لأحد أطراف العقد نتيجة خطأ الطرف الآخر.
ويدخل الشرط الجزائي تحت مضمون الحديث النبوي: ((المسلمون على شروطهم)) ، وأيّد ابن القيم العمل به بما رواه البخاري في صحيحه في باب ما يجوز من الاشتراط من حديث ابن سيرين أن القاضي شُريح قال: ((من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه)) .
وأيد الأخذ به قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في الدورة الخامسة بتاريخ 5-22/8/1394 بالطائف، ومضمونه إقرار التعويض عن الخسارة الواقعة والربح الفائت بقولها: ((ما فات من منفعة أو الحق من مضرة)).
ولكن ولئن كان يتضح من هذا التعريف الطبيعة التعويضية للشرط الجزائي فقد اختلف الفقهاء حول هذه الطبيعة (المبحث الأول)؛ كما اختلفت القوانين والفقهاء حول مدى إمكانية تدخل القضاء في الشرط الجزائي (المبحث الثاني).
المبحث الأول: الطبيعة القانونية للشرط الجزائي
اختلف الفقهاء في تحديد الطبيعة القانونية للشرط الجزائي؛ فهناك من اعتبره عقوبة خاصة (أولا)، وهنالك من اعتبره تعويضا (ثانيا) في حين آثر البعض إعطاءه طبيعة مركبة (ثالثا). 
أولا. الشرط الجزائي عقوبة خاصة: 
إن مفهوم العقوبة الخاصة قديم قدم الإنسانية، ولقد كان مرتبطا بفكرة الثأر والقصاص، كما كان مكرسا في أغلب القوانين القديمة كالقانون الروماني، حيث كان الشرط التغريمي عقوبة خاصة، هدفه ضمان تنفيذ الالتزامات التي لم يكن آنذاك يعترف لها هذا القانون بالقوة الإلزامية .
وما يمكن ملاحظته أنه عندما نطالع مؤلفات جيل المؤسسين للفقه المصري في مجال القانون المدني ومن تتلمذ على يدهم من أجيال لاحقة، فلا يساورنا أي شك في أن للمسؤولية المدنية (عقدية أم تقصيرية) وظيفة أساسية أو غاية أساسية، بل قد تكون وحيدة، هي تعويض المضرور بقدر ما أصابه من ضرر من جراء فعل المسؤول، أما عقاب المسؤول عمَّ اقترفت يداه بهدف ردعه وردع غيره في المستقبل عن العودة لمثل هذا السلوك، فهي الوظيفة التي تضطلع بها المسؤولية الجنائية دون غيرها، ومن ثم فليس للمسؤولية المدنية وظيفة عقابية أو رادعة .
أما في المدرسة الانجلوسكسونية، الخاضعة لنظام القانون العام، فالأمر على خلاف ذلك حيث احتفظت المسؤولية المدنية، إلى جانب وطيفتها التعويضية، بوظيفة عقابية رادعة، وذلك من خلال النظام المسمى بنظام ةالتعويض العقابي أو الرادع، والذي يستهدف كما هو واضح من اسمه – عقاب المسؤول وردعه وردع غيره في المستقبل عن العودة لما ارتكبه في المستقبل .
وقد وضع الفقهاء عدة معايير لتحديد مفهوم العقوبة الخاصة وتمييزها عن التعويض، ومن بين هذه المعايير نجد:
- المعيار الموضوعي: لا يكون هنالك تعويض بل عقوبة خاصة إذا كان المبلغ الواجب على المسؤول دفعه للمتضرر يفوق قيمة الأضرار الواقعة فعلا، وذلك على اعتبار أن مبلغ التعويض عادة ما يكون مساويا للأضرار الفعلية التي لحقت الدائن نتيجة عدم تنفيذ المدين لالتزامه أو تأخره في ذلك.
- المعيار الذاتي: الخطأ هو قوام العقوبة الخاصة؛ فعلى قدر خطأ المدين تتم "معاقبته". أما في التعويض فإن معيار تحديد مبلغ التعويض يكون نسبة الضرر الذي لحق بالدائن من خسارة وربح فائت.
- هدف العقوبة: عادة ما يكون الهدف من العقوبة هو ردع المدين وردع غيره، أما الهدف من التعويض فهو جبر الأضرار التي لحقت بالطرف المقابل.
ومن الفقهاء الذين اعتبروا الشرط الجزائي ذو طبيعية عقابية نجد الفقيه مازو Mazeaud الذي اعتبره عقوبة خاصة اتفاقية نظرا لكونه يحتوي على جميع الخصائص المميزة لهذه العقوبة، إذ يرى أن للشرط الجزائي وظيفة تهديدية شأنه شأن العقوبة الخاصة، وتتمثل هذه الوظيفة تهديد المدين وتحذيره مغبة عدم التنفيذ أو التأخير فيه، كما أنه يهدف إلى معاقبة الطرف المخطئ.
لكن وقع نقد هذا الرأي ونجد من ذلك الأستاذ محمد إبراهيم الدسوقي الذي اعتبر أن الشرط الجزائي يهدف أساسا إلى جبر الأضرار المترتبة عن عدم التنفيذ أو التأخير فيه، في حين هدف العقوبة الخاصة يتمثل في معاقبة المدين عن تصرفه غير الشرعي .
ثانيا. الشرط الجزائي تعويض
التعويض أو العوض هو "البذل، وعضت فلانا أعطيته بدل ما ذهب منه" ، وقد عرفته المادة 416 من مجلة الأحكام العدلية العثمانية بأنه "إعطاء مثل الشيء إذا كان من المثليات وقينته إذا كان من القيميات" فهو بالتالي ما يلتزم به المسؤول مدنيا قبل من أصابه الضرر .
وقد اعتبر العديد من الفقهاء الشرط الجزائي تقديرا مسبقا وجزافيا يتفق عليه المتعاقدان كتعويض عن الأضرار المحتملة من عدم التنفيذ أو التأخير فيه.
ثالثا. الطبيعة المزدوجة أو المركبة للشرط الجزائي
يقصد بالطبيعة المركبة أو المزدوجة أنه من الممكن أن يكون الشرط الجزائي تعويضا وعقوبة خاصة في نفس الوقت؛ وقد اعتبر بعض الفقهاء أن للشرط الجزائي هدفان؛ أولهما تهديد المدين وتحذيره مغبة الإخلال بالتزامه، وثانيهما تعويض الدائن عن الأضرار المحتملة من عدم التنفيذ أو التأخير فيه، وبناء على ذلك اعتبروا أن هذا الشرط "عقوبة تعويضية".
ويعتبر الفقيه كاربونييه أن للشرط الجزائي طبيعة مزدوجة بناء على مقداره؛ فإذا كان المبلغ المتفق عليه أقل قيمة من الاضرار المترتبة عن عدم التنفيذ أو التأخير فيه، يعد هذا الشرط بمثابة الإعفاء من قيمة الأضرار المترتبة عن عدم التنفيذ أو التأخير فيه، يعد هذا الشرط بمثابة الإعفاء الجزئي من المسؤولية، أما إذا كان متساويا مع قيمة هذه الأضرار يعد تعويضا في حين إذا فاق المبلغ المتفق عليه نسبة الأضرار يمكن تكييفه كعقوبة خاصة . 
ولقد تبنت عديد القوانين الطبيعة المزدوجة للشرط التغريمي نجد من ذلك القانون الايطالي و القانون الإسباني وكذلك القانون الألماني.
ما يستنتج من ما تقدم بسطه أن بناء الإلزام بالتعويض على اعتبارات تتصل بسلوك وحالة محدث الضرر الذهنية والنفسية يفترض اتجاه نظام القانوني إلى الدجزاء والزجر، أما بناء الإلزام بالتعويض على ما يمثله الضرر الحادث من تعدي على حق الغير فيفرض في المقابل اتجاه النظام القانوني إلى كفالة العوض الجابر للضرر، لذا فإن ترجيح إحدى هاتين الطائفتين من الاعتبارات على الطائفة الأخرى يتوقف على معرفة المقتضى الغائي الذي ينبغي أن تتجه النظم إلى تجسيده في أطر سيادتها الاجتماعية .

عن الكاتب

الذخيرة القانونية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الذخيرة القانونية