المبحـث الأول : أسـس إقـرار حـق التقاضـي
يقوم الحق
في التقاضي على أساسين إثنين: أوّلهما ان الحق في التقاضي هو خير ضامن لإقامة
العدل بين الناس بما يمكن من تفادي العدالة الخاصة و يحقق السلم الإجتماعية
المنشودة (الفرع الأول). ثانيهما: أن القضاء اصبح من مقتضيات
سيادة الدولة مع ما يقتضيه ذلك من ضرورة إيجاد سلطة قضائية تتولى ضمان تطبيق
القانون و علويته (الفرع الثاني) .
الفــرع
الأول : الضــرورة الإجتماعيــة للقضــاء
إن
للقضاء دور هام في المجتمع بما أنه عاملا من عوامل استقراره وتطوره ، ذلك أن حق
التقاضي هو خير ضامن للعدل كأساس للعمران إذ يمكن من تفادي العدالة الخاصة (الفقرة
الأولى ) كما يلعب دورا هاما في المحافظة على السلم الإجتماعية ( الفقرة الثانية )
.
الفقـرة الأولى : تفـادي العـدالة الخـاصة
لم
تكن توجد في المجتمعات البدائية أية مؤسسة قانونية تحدد كيفية حل النزاع عند حصوله
، فالمبدأ هو العدالة الخاصة بحيث يعود
لكل شخص تضررت حقوقه وممتلكاته أن يستوفي حقه بنفسه .
ولتفادي هذا النظام
كانت الضرورة ملحة لإقرار حق التقاضي أمام مؤسسات قضائية للدولة بإعتبار ذلك خير
ضامن للعدل والمساواة بين جميع الناس ، بالنظر إلى الضمانات التي يتوفر عليها
والمبادئ الأخلاقية السامية التي يكرسها.
على أنه بالرغم من اقرار حق التقاضي في أغلب
الأنظمة القانونية وبالرغم من الإجماع الحاصل حول ضرورة الإلتجاء إلى القضاء
المنظم لحماية الحقوق أو استردادها
في صورة تعرضها للإعتداء ، فلا نجد في جل التشريعات من يقر قاعدة عامة تحجر صراحة
اللجوء إلى العدالة الخاصة ، وعلى العكس من ذلك هنالك من التشريعات من كرس إمكانية
اللجوء إلى العدالة الخاصة .
ففي التشريع الإسلامي
ولئن اتفق الفقهاء على منع اللجوء إلى العدالة الخاصة ، إلا أن ذلك ليس منعا مطلقا
، باعتبار أن هناك بعض الحالات التي يمكن اللجوء فيها للعدالة الخاصة ، إذ يجوز
تحصيل الأعيان المستحقة بغير قضاء ومثال ذلك : أن العين المغصوبة يمكن استردادها من الغاصب قهرا ، ومن الفقهاء
من عمم هذا الحكم على كل حالة يكون فيها للشخص عين عند آخر سواءا كانت تلك العين
مغصوبة أو مستحقة بأي سبب من أسباب الإستحقاق كالشراء أو الإرث أو الوصية ، فمن
وجد عين سلعته التي اشتراها أو ورثها ... فأخذها دون إذن من القاضي ، فلا شيء عليه
.
و
ذكر بعض الفقهاء الأحناف أن المستأجر لو غاب سنة ولم يرجع المفتاح إلى المؤجر
فيمكن لهذا الأخير أن يتخذ مفتاحا آخر ويفتح به العين المؤجرة ويسكن فيها أو
يؤجرها لمن يشاء، أما المتاع إن وجد فيضعه في ناحية معينة إلى حين حضور صاحبه ولا
يتوقف ذلك على إذن من القاضي.
وفي
هذا الإطار اتفق الفقهاء على أنه يمكن
للزوجة أن تحصل على نفقتها ونفقة أبناءها بدون إذن خاص من زوجها عند امتناعه من
القيام بواجبه في الإنفاق على العائلة ، واستدل الفقهاء على هذا الإتجاه بما قاله
الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءت امرأة تشتكيه من زوجها " ... خذي من
ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي إبنك ".
أما
بالنسبة للمشرع التونسي فأشار
ضمنيا إلى منع اللجوء إلى العدالة الخاصة ولم يكرس ذلك صراحة. فقد نص الفصل 555 من
مجلة الإلتزامات والعقود على " أن التعدي على الشخص لا يكون وجها في الإضرار
بغيره " ومعنى ذلك أن من تضررت ممتلكاته وحقوقه لا يمكن له بأي شكل من
الأشكال رد المضرة أو الإنتقام من المعتدي وإنما يمكنه اللجوء إلى القضاء لأخذ حقه
وهو الطريق الوحيد تقريبا لإسترداده الحقوق المسلوبة .
وقد
كرّست ذلك محكمة التعقيب في أحد قراراتها حين اعتبرت " وأن الشخص لا يقتض
لنفسه بنفسه ومن فعل ذلك فعليه غرم ما تسببت فيه من ضرر ".
إن
تحجير العدالة الخاصة لم يمنع بقاء بعض آثار هذا النظام في قانونا الحالي، إذ نظم
المشرع التونسي في مجلة الإلتزامات والعقود بعض تطبيقات العدالة الخاصة ومن أهمها
ما يسمى بالدفع بعدم التنفيذ ، حيث جاء بالفصل 247 م إ ع ما يلي " إذا كان
الإلتزام من الطرفين فلأحدهما أن يمتنع من إتمام ما عليه حتى يتمم الآخر ما يقابل
ذلك من العقد " وهو ما يجعل الدفع بعدم التنفيذ وسيلة ضغط وقتية تمكن أحد
المتعاقدين من أن يطلب إعفاءه نهائيا من التزامه تبعا لعدم وفاء المعاقد الآخر
بإلتزامه المقابل .
على
أن المشرع قيد الدفع بعدم التنفيذ عندما اشترط للإنتفاع بهذه الوسيلة الوقتية أن
لا يقتضي العقد أو العرف بتعجيل أحد الطرفين بما عليه ، فالدفع بعدم التنفيذ إذن
هو شكل من أشكال القضاء الخاص ولكنه مشروط ومقيد .
و نظم المشرع العديد من تطبيقات العدالة الخاصة في عدة مواضع أخرى ومنها الحق في الإضراب عند كل صعوبة تنشأ بين المؤجر والعملة متعلقة سواء " بالأجر أو بظروف العمل في المؤسسة ، فقد مكن المشرع العملة في هذه الصورة من اللجوء إلى الإضراب عن العمل حتى يستجيب المؤجر إلى شروطهم ، الامر الذي يجعل الإضراب شكل من أشكال العدالة الخاصة ، غير أن المشرع ضبط هذا الحق بعدة شروط من أهمها على الإطلاق ضرورة الإعلام المسبق بالإضراب الذي يجب أن يوجه قبل 10 أيام من وقوع الإضراب إلى الطرف الآخر ( المؤجر) وإلى المكتب الجهوي للتصالح ، أو إن تعذر ذلك إلى التفقدية الجهوية للشغل المختصة ترابيا وذلك بواسطة رسالة مضمونة الوصول ، يضاف إلى هذا الشرط أن الإضراب يجب أن تتم المصادقة عليه من طرف المنظمة النقابية المركزية للعمال أو منظمة المؤجرين المركزية .
إذن
ما يمكن قوله أن الإضراب هو نوع من أنواع القضاء الخاص الذي خوله المشرع
للعملة لتحقيق مطالبهم ، إلا أنه حق مقيد
بشروط يجب احترامها ، وإلا ترتب عن ذلك عقوبات جزائية جاء بها الفصل 388 (جديد )
من مجلة الشغل تصل حتى السجن والخطية ،
وإضافة
إلى ذلك أقر المشرع كذلك حق الحبس وقد عرفه بأنه " حوز الشيء الذي يملكه
المدين حتى يؤدي ما عليه للدائن " ، فحق الحبس بوصفه حقا عينيا أعطاه المشرع للدائن لضمان استخلاص الدين من مدينة دون الحاجة إلى اللجوء إلى
القضاء وهو ما يجعل منه شكل من أشكال العدالة الخاصة ، إلا أن حق الحبس في مجلة
الإلتزامات والعقود يمارس تحت إشراف القضاء حتى لا يتجاوز الأفراد الحدود التي
رسمها القانون لإستعمال حقهم من ذلك أن القانون اشترط الحصول على إذن قضائي عند بيع
الشيء المحبوس لخلاص الدين .
الفقرة الثانية : المحافظة على السّلـِم الإجتماعية
يعتبر منع اللجوء إلى العدالة الخاصة ، وإقامة قضاء تابع للدولة تتوفر فيه العديد من الضمانات ، خير ضامن لإقامة إقامة العدل والمساواة بين الناس وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تحقيق السلم الإجتماعية في المجتمع . فالعدل ليس كمثله شيء في توطيد سكينة الطمأنينة والشعور بالأمن
وللعدل في القضاء مقياس هو الآن محل اجماع الفقه ورجال القضاء وهو القانون ، وبهذا المقياس بصبح القضاء " عملية موازنة "بين مصلحتين متنافرتين هما : إيصال الحقوق إلى أصحابها وهو العدل المجسم أو الإنصاف من جهة ، وضمان الأمن والإستقرار في المجتمع بالمساواة بين الأفراد أمام القانون وهو العدل المجرد من جهة أخرى
إن
دور القضاء في حماية السلم الإجتماعية ليس قاصرا على الحالات التي يقوم فيها نزاع
بين شخصين أو أكثر ، وإنما أيضا حيث لا يقوم نزاع ، ذلك انه إذا كانت هنالك حالات
كثيرة يحترم فيها الفرد حقوق الغير ويقوم بوفاء ما عليه للغير اختيارا ، فإن الفضل
في أغلب الحالات يرجع إلى وجود جهاز قضائي ناجع وصارم وعادل ، وعلم الفرد انه إن
لم يحترم حقوق غيره فإن هناك سلطة قضائية كفيلة بإكراهه على ذلك ، من هنا كان وجود
القضاء وبالتالي حق التقاضي من العوامل المهمة في شيوع السلام بين الناس .
وإذا كان دور القضاء لا يخفي في إقامة العدل بين الناس بوصفه من أقدس الواجبات في الحفاظ على السلم الإجتماعية فإن أوجه تدخّل القضاء لإقامة العدل و الحفاظ على السلم الإجتماعية وافرة ومتعددة . فالقضاء يلعب دورا فعال في الميدان الإقتصادي من خلال أهميته في تطوير قطاع المعاملات ، فالقاضي هو الذي يتولى إكساب العقود مفهومها الصحيح وذلك بتفسيرها اعتمادا على طرق التفسير التي جاء بها القانون مع مراعاة البعد الإجتماعي والإقتصادي للعقد ضمانا لإستقرار المعاملات بما يرجع بالفائدة على الإقتصاد .
فبقدر
ما يكون اجتهاده موفقا في إكساء العقود مفهومها الصحيح وإعطاء النصوص القانونية
مفهومها القانوني السليم ، تبعا للمصلحة التي أنشئت من أجلها ، وبقدر سرعته
ونجاعته في فصل القضايا التي تمس بظاهرة التعامل ، بقدر ما يكون نمو المعاملات
جليا وتتسع بذلك رغبة الناس في المبادلات نتيجة ما احسوا به من طمأنينة في ظل قضاء
قادر على حماية أموالهم وممتلكاتهم .
أما
على المستوى الإجتماعي فإن القضاء يلعب دور هام في تحقيق العدالة الإجتماعية بين
الطبقات المنتجة عملة وأعرافا وذلك بتحقيق المعادلة بين عامل يجب أن يضمن شغله ،
وبين مؤجر يجب الحفاظ على مؤسسته من الإفلاس في صورة الحكم عليه بالغرامات التي
تثقل كاهله . إن النجاح في تحقيق هذه المعادلة هو الذي سيشجع الأعراف على فتح
مواطن الشغل والدفع بهم إلى دخول ميادين الإستثمار بعزيمة صادقة وثقة في المستقبل
من جهة وسيمكن من حفظ كرامة العامل بالحفاظ على شغله وإبعاد شبح البطالة عنه من
جهة أخرى .
وقضاء
موفق في هذا الإتجاه يكون خير مساهم في بعث الطمأنينة في النفوس وإعطاء دفع للحياة
الإقتصادية وإضفاء روح التعامل النزيه والبناء بين كافة فئات المجتمع وهو أمر كفيل
بتحقيق السلم الإجتماعية التي هي أساس استقرار المجتمع وتطوره.
الفـرع الثانـي
: سيـادة الدولـة
إن
من أهم مقومات سيادة الدولة الحديثة أن تتوفر فيها إلى جانب السلطة التنفيذية
والسلطة التشريعية ، سلطة قضائية ( الفقرة الأولى ) تضمن تطبيق القانون وتكرس
علويته (الفقرة الثانية ) .
الفقرة الأولى : القضاء سلطة من سلطات
الدولة
مع
ظهور الشكل الحديث للدولة ، اتفقت جل الدساتير في العالم على ضرورة أن تتوفر في
الدولة 3 سلطات هي : السلطة التشريعية وتتولى مهمة سن القوانين ، السلطة التنفيذية
وتتولى وظيفة تنفيذ القوانين ، أما السلطة القضائية فمهمتها الفصل في جميع
المنازعات المعروضة عليها وذلك بتطبيق القانون . و سار الدستور التونسي على هذا
النهج إذ أفرد لكل سلطة باب خاص ومن بينها السلطة القضائية التي نظمها المشرع
بالباب الرابع من الفصل 64 إلى الفصل 67
منه.
إن
اعتبار السلطة القضائية من مقومات سيادة الدولة على اقليمها وسكانها تترتب عنه عدة نتائج :
أولا : أن الدولة يجب أن تحتكر الوظيفة
القضائية بحيث يرجع لها وحدها حق اصدار الأحكام عن طريق مؤسساتها القضائية التابعة
لها ، كما لها وحدها سلطة الإذن بتنفيذ تلك الأحكام عن طريق ما يسمى بالإكساء
بالصيغة التنفيذية ، كما تتولى تسمية القضاة وتكوينهم ودفع أجورهم ومرتباتهم ،
فالقضاء هو من مقتضيات سيادة الدولة وبالتالي يجب أن تتكفل به حماية لسيادتها .
ثانيا : توحيد القضاء :
تقتضي
سيادة الدولة أن يكون قضاء الدولة موحدا تابعا للدولة وليس مشتتا مثلما كان عليه
الأمر في ظل الحماية الفرنسية ، إذ كانت هناك محاكم فرنسية تنظر في النزاعات
الخاصة بالأجانب وهو أمر ينال من سيادة الدولة ، كما عمد المستعمر إلى إحداث محاكم
فرنسية استثنائية ، كل ذلك مع الإبقاء على الهيئات القضائية التونسية مما جعل
القضاء التونسي مزدوجا.
إنّ تعدد جهات القضاء وإخضاع كل طائفة من الأشخاص لمحكمة خاصة نتجت عنه عدّة آثار سلبية على النظام القضائي وهيبته لأنه عنوان على النفوذ الأجنبي في تونس . لهذه الاسباب ومنذ فجر الإستقلال، اتجهت محاولات الإصلاح نحو مكافحة تنوع القضاء بتنوع الأشخاص ، فصدر الأمر المؤرخ ي 3 أوت 1956 المعدل لبعض احكام مجلة المرافعات المدنية وقضى بسحب جوهر اختصاص المحاكم الشرعية ومنحه لمحاكم الحق العالم (محاكم النواحي والمحاكم الإبتدائية) التي أصبحت تنظر في جميع الدعاوى الشخصية والإرث وجميع الدعاوى الإستحقاقية، ثم في مرحلة ثانية وقع إلغاء المحاكم الشرعية وذلك بمقتضى الأمر المؤرخ في 26 سبتمبر 1956 . وعلى إثر صدور مجلة الأحوال الشخصية التي مثلت ثورة تقديمية على المستوى التشريعي باعتبار وأنها تولت تنظيم مواضيع الحالة الشخصية التي تتميز بتعلقها بالشعور الديني ، صدر الأمر المؤرخ في 27 سبتمبر 1957 وبمقتضاه أصبح قانون الأحوال الشخصية واجب التطبيق على كل التونسيين مهما كان معتقدهم دون تمييز بينهم ، وفي إطار توحيد القضاء وحصره في الهياكل القضائية التونسية صدر الأمر المؤرخ في 3 أوت 1956 ونص على إلغاء السلطة الحكمية التي كانت مسندة للعمال .
وهكذا
تم القضاء على تعددية الهياكل القضائية التونسية بدمجها في جهاز واحد وهو الجهاز
القضائي الوطني .
و
تم وضع حد لتيار فرنسة القضاء الوطني وإرجاعه إلى أصالته حتى لا يصدر أي هيكل من
هياكله إلا أحكاما منبثقة من ضمائر تونسية ومرتكزة على قوانين تونسية .
وتحقيقا
لهذه الغاية وقع إبرام الإتفاقية القضائية التونسية الفرنسية يوم 9 مارس 1957 وجاء بالفصل الأول منها
" إبتداءا من دخول الإتفاقية الحالية حيز العمل ، تلغي المحاكم الفرنسية
بالبلاد التونسية وتنتقل جميع اختصاصاتها التي كانت بها إلى المحاكم التونسية .وبذلك
تم توحيد القضاء التونسي وتونسته في مدة وجيزة وذلك بدءا بهياكله وصولا إلى
القائمين به من قضاة اعتبارا لأن توحيد القضاء هو توحيدا لسيادة الدولة وتجسيدا
لها .
وإذا
كان وجود سلطة قضائية وطنية موحدة من مظاهر سيادة الدولة فإن ضمان تطبيق القانون
يعتبر تكريسا لسيادتها .
الفقرة الثانيـة : ضمـان تطبيـق القانـون
إن
علوية القانون من مقتضيات سيادة الدولة الحديثة ، ولن يتسنى ضمان تلك العلوية إلا
بضمان تطبيق القانون .
والأصل
أن يتم احترام القواعد القانونية تلقائيا من قبل الأطراف من خلال النشاط اليومي
المعتاد لأفراد الجماعة البشرية المخاطبين به بحيث يحترم كل إنسان حقوق غيره ويمتنع من الإضرار بها ، وهو التطبيق التلقائي
للقانون .
لكن
من الممكن أن لا يتحقق هذا الخضوع التلقائي لمقتضيات القانون وموجباته نتيجة
لإعتبارات متباينة ، إما جهلا من الأفراد بالقانون وقواعده ، وإما لتعمد مخالفة
هذه القواعد وصولا لهدف معين ذلك أن الإنسان مدفوعا بفطرته وغريزته لا بد ساعيا إلى تحقيق مصالحه ولو أدى به
الأمر إلى الإضرار بالآخرين والنيل من حقوقهم ، الأمر الذي ينتقل فيه القانون من
حالته العادية إلى حالته المرضية attuazione patologica ، من هنا كان لا بد من سلطة تكفل للقانون احترامه وتعطيه فاعليته
والزاميته ، فكان القضاء هو تلك السلطة .
ويتجلى دور القضاء في تطبيق القانون عند نظره في
النزاعات والخصومات المعروضة عليه بقصد فضها وذلك بإصدار الأحكام فيها وفق مقتضيات
القانون ، والجدير ، بالملاحظة أن القضاء هو السلطة الوحيدة التي تعطي أحكامها قوة
تنفيذية تمكن من تنفيذها ولو بالقوة العامة وهو أمر يسمح بتحقيق تجسيم قول القانون على أرض الواقع وذلك من خلال التنفيذ
الجبري للأحكام ورد الحقوق إلى أصحابها في صورة تعذر التنفيذ الطوعي لتلك الأحكام.
إن
القوة التنفيذية لأحكام القضاء ، تجعل منه علاوة علىكونه سلطة قول الحق ، سلطة أمر
imperium ، تمكن من تنفيذ الأحكام
الصادرة منه ، وهو ما يعني وأن دور القضاء في ضمان تطبيق القانون يتجاوز المستوى
النظري المتمثل في التصريح بقول القانون في نزاع معين إلى مستوى التطبيق الواقعي و
الفعلي للقانون من خلال القوة التنفيذية للأحكام الصادرة عنه التي تسمح كما قلنا بتنفيذها
ولو بالقوة العامة بتمكين شخص الطالب من حقوقه ، وهي الغاية المثلى للقانون .
وعموما
فإن هذه الوظيفة التي يقوم بها القاضي موقوفة على وجود الطلب ، ذلك أن القاضي
المدني لا يعمل من تلقاء نفسه ، وإنما يجب أن يقع تعهيده بالنزاع حتى يتمكن من قول
كلمة القانون في النزاع .
فالحماية
القضائية للنظام القانوني إذن هي حماية مطلوبة وليست تلقائية ، إذ لا يتدخل القاضي
من تلقاء نفسه لفرض القانون إلا عند الإلتجاء إليه من أحد الاطراف أو من ممثل
النيابة العمومية إذ كانت " هنالك مصلحة شرعية تهم النظام العام " وهو ما يعرف بالحق في الدعوى le droit d’action ، فإذا اختار صاحب الحق اللجوء إلى القضاء لإسترداد حقه ، فإن القضاء يتدخل ويتعهد بالنزاع لقول
كلمة القانون، أما إذا اختار عدم القيام بالدعوى ، فلا يتعهد القضاء مبدئيا بالرغم
من وجود خرق واضح للقانون نتيجة الإعتداء على حق من الحقوق .
ولا
يتفق هذا الإتجاه الغالب مع رأي الفقيه الألماني Ihering الذي اعتبر في كتابه la lutte pour le droit أن الدعوى يجب استعمالها كلما وقع اعتداء على حق أي أن الدعوى
واجبا وليست حقا ، وهو رأي لا يستقيم لأنه يستند إلى معطيات مثالية غير قابلة
للتطبيق على أرض الواقع إذ أنه يفترض في الحكم القضائي أنه عادل بالضرورة وهو أمر
غير ثابت دائما ، كما انه يعتبر أن الدعوى تهدف إلى حماية مصلحة عامة في حين أن
الواقع يؤكد دائما أن الدعوى تحمي
مصلحة خاصة .
إن
تطبيق القانون ليس المقصود به التطبيق الحرفي للنصّ القانوني بالضرورة باعتبار وأن الواقع قد يفرز اشكالات سكت المشرع
عن إيجاد حلول لها وهي حالة غياب النص أو مسائل كان فيها النص القانوني موجودا
ولكنه غامض ، وهي حالة غموض النص ، فمثل هذه الوضعيات تفتح الباب واسعا أمام
اجتهاد القاضي عبر تأويل عبارة النص القانوني في صورة غموضه مع مراعاة " وضع
اللغة وعرف الإستعمال ومراد واضع القانون " أو بالإعتماد على " القياس أو قواعد القانون العمومية في صورة ما إذا تعذر
الحكم بنص صريح".
و
مهما يكن من الأمر فإن هذه الأسس الأهم التي يقوم عليها حق التقاضي هي التي جعلت
أغلب القوانين في العالم تكرّس هذا الحق مثلها في ذلك أغلب الإتفاقيات و المعاهدات
الدوليّة.
المبحث الثانـي
: تكريــس حــق التقاضـــي
بالنظر
الى الأسس الهامة التي يقوم عليها حق التقاضي و اهميته في حماية حقوق الإنسان
الأخرى سعت اغلب الإتفاقيات و المعاهدات الدولية الى تكريسه (الفرع الأول) مثلما
كرّسته مختلف القوانين الداخلية للدول (الفرع الثاني) .
الفـــرع الأول : علـــى المستـوى الدولــــي
يعتبر
حق التقاضي بوصفه حقا من حقوق الإنسان ، من الحقوق التي حازت على اهتمام المجموعة
الدولية منذ زمن طويل وهو ما نتج عنه تكريس ذلك الحق في عدة مواثيق وإعلانات
متعدّدة الأطراف (الفقرة الأولى ) بالإضافة إلى الإتفاقيات الثنائية والإقليمية
(الفقرة الثانية ) .
الفقـرة الأولــى : الإتفاقيـات متعـددة الأطـراف
إن
الحديث عن حق التقاضي يستوجب الرجوع إلى الإتفاقيات الأصلية التي أقرته وخاصة منها
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية واللذين
شكلا إطارا نصيا مكتوبا لحقوق الإنسان عامة والحق في التقاضي خاصة .
أولا : الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :
يعتبر
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المرجع الأساسي لجميع الحقوق ومنها الحق في التقاضي
، إذ جاء بالمادة الثانية منه " لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات
المذكورة في هذا الإعلان دون ميز من أي نوع " ومعنى ذلك أن الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان ضمن لكل شخص حق التمتع بالحقوق الواردة فيه وأهمها الحق في التقاضي
.
و
جاءت بقية المواد من الإعلان، تفسيرا لهذه القاعدة الواردة بالمادة الثانية ، إذ
نص الفصل 7 على أن " الناس جميعا سواء أمام القانون وهم يتساوون في حق التمتع
بحماية القانون دون تمييز كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك
هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز ".
وطالما
أنه لا يمكن الحديث عن المساواة أمام القانون ، بمعزل عن الحق في اللجوء إلى
القضاء ، فقد نصت المادة 8 على أنه " لكل إنسان حق اللجوء إلى المحاكم
الوطنية المختصة لإنصافه الفعلي من أية أعمال تنال من الحقوق الأساسية التي يكفلها
الدستور أو القانون " .و لقد أُعْتُبِرَتْ هذه المادة المصدر الأساسي للحق في
التقاضي لأنها تعرضت للحق في اللجوء إلى المحاكم صراحة .
وفي
هذا السياق أقر الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان ، جملة من المبادئ التي تحكم جهاز
القضاء ، إذ جاء بالمادة 10 : أن " لكل إنسان على قدم المساواة مع الآخرين
الحق في أن تنظر في قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظرا منصفا وعلنيا للفصل في حقوقه
والتزاماته " وركزت المادة 11 على أهمية حق الدفاع في ضمان محاكمة عادلة ،
ومبدأ استقلالية القضاء وحياد القاضي ، وكلها مبادئ أصبحت اليوم تحكم القضاء وحازت
على موافقة أغلب الأنظمة ومنها تونس .
كل
ذلك جعل من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وثيقة هامة كرست الحق في التقاضي ومنحته
عديد الضمانات .
و لا شكّ أن المبادئ الواردة بالإعلان
العالمي لحقوق الإنسان تتماشى مع ما نصت عليه الفقرة (ج) من المادّة 55 من ميثاق الأمم
المتّحدة التي أشارت إلى أن هدف المنتظم الاممي هو أن يشيع في العالم إحترام حقوق
الإنسان و الحريات الأساسيّة للجميع بلا تمييز بسبب الجنس او اللغة او الدين و لا
تفريق بين الرجال و النساء، ومراعاة تلك
الحقوق و الحريات فعلا.
ثانيا : العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية
:
بعد
إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، اتجهت الأمم المتحدة إلى المهمة الأكثر
صعوبة وهي تحويل المبادئ التي وردت في ذلك الإعلان إلى مواد اتفاقية تقرر
التزامات قانونية من جانب كل دولة مصدقة
عليها ، وفي نهاية الأمر تقرر أن تكون هناك اتفاقيتان الأولى : تتناول الحقوق
الإقتصادية والإجتماعية ، والثانية الحقوق المدنية والسياسية ، ومعنى هذا أن العهد
الدولي للحقوق المدنية والسياسية جاء تفصيلا لمبادئ عامة وردت بالإعلان العالمي
لحقوق الإنسان ، ونتيجة لذلك لم يخلو العهد المذكور من الإهتمام الواضح بالحق في التقاضي كحق من
حقوق الإنسان ، وهو ما يمكن ملاحظته في المادة الثانية منه إذ جاء فيها "
تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد بأن تكفل توفر سبيل فعال للتظلم لأي شخص انتهكت
حقوقه أو حرياته المعترف بها في هذا العهد حتى ولو صدر الإنتهاك من أشخاص يتصرفون
بصفتهم الرسمية " .
هذه
المادة أقرت حق كل فرد انتهكت حقوقه في اللجوء إلى القضاء ، وهو المقصود بلفظ
" التظلم "، والجدير بالملاحظة أن العهد الدولي للحقوق المدنية
والسياسية حمّل التزاما لكل دولة صادقت على هذا العهد بضرورة " احترام الحقوق
المعترف بها ومن ضمنها الحق في اللجوء إلى القضاء لجميع الأفراد الموجودين في
اقليمها والداخلين في ولايتها دون أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة
أو الدين أو الرأي سياسيا كان أو غير سياسي أو غير ذلك من الأسباب .
وقد
جاءت المادة التاسعة من العهد المذكور مندرجة في هذا المنطق التقريري لحماية الحق
في اللجوء إلى القضاء ، إذ نصت على أن " لكل شخص حرم من حريته بالتوقيف أم
الإعتقال من حق الرجوع إلى المحكمة ... " وهذه المادة وإن كانت تتعلق بالقضاء
الجزائي ، فإن أهميتها بالنسبة لنطاق موضوعنا هي أنها كرست الحق في اللجوء إلى
القضاء . وأضافت المادة 14 أن " الناس جميعا سواء " أمام القضاء ومن حق
كل فرد لدى الفصل في أية تهمة توجه إليه أو في حقوقه وإلتزاماته في أي دعوى مدنية
أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة ، مستقلة .. ، حيادية ومنشأة
طبق القانون " وواصلت المادة 14 إقرارها لحق التقاضي من خلال اعترافها بالحق
في الطعن " وفق القانون إلى محكمة أعلى ".
ثالثا: إعلان
الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري يعتبر إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري من أهم الوثائق
العالمية التي كرست الحق في التقاضي باعتباره حقا من حقوق الإنسان التي لا محيد
عنها ،و قد جاء في ديباجة هذا الإعلان إحالة على ميثاق الأمم المتحدة وكذلك
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان اللذين أقرا المساواة بين جميع الناس في التمتع
بالحقوق و منها الحق في التقاضي ، ذلك أن الجميع "سواء أمام القانون ، لهم
دون أي تمييز حق متساو في حمايته .... "
و
نص الإعلان المذكور في المادة 7 أن " لكل إنسان الحق في المساواة أمام
القانون و في العدالة المتساوية في ظل القانون و لكل إنسان يتعرض في حقوقه و حرياته الأساسية لأي تمييز بسبب العرق أو
اللون أو الأصل الإثني ، حق التظلّم من ذلك إلى المحاكم الوطنية المستقلة المختصة
إلتماسا للإنصاف و الحماية الفعليين"
فهذه المادة كرست الحق في اللجوء إلى القضاء وهو ما يبرز أهمية هذا الإعلان.
و
تجدر الإشارة إلى أن هذه الاتفاقية اقتصرت على إقرار الحماية من طرف القضاء الوطني
ضد كل أشكال التمييز في حين أثير أثناء الأعمال التحضيرية الخاصة بهذه الاتفاقية
إمكانية توسيع الحماية القضائية حتى تصبح حماية دولية لكن وقع العدول عن هذا الرأي
بسبب معارضة العديد من الأطراف ذلك أن إقرار مثل هذه الحماية الدولية من شأنه
المساس من استقلالية و سيادة الدول ".
رابعا : الإتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري: من الوثائق العالمية التي كرست الحق في التقاضي نجد الاتفاقيات الدولبة للقضاء على
جميع أشكال التمييز العنصري ، فبعد أن ذكَّرت هذه الاتفاقية ، بأن ميثاق الأمم
المتحدة يقوم علي مبدأي الكرامة و التساوي الأصيلين في جميع البشر وبعد ان تبنّت
ما جاء بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان من أن البشر يولدون جميعا أحرارا و متساوين في الكرامة و الحقوق و أن لكل
إنسان حق التمتع بجميع الحقوق و
الحريات المقررة فيه دون أي تمييز ، و لا سيما بسبب العرق أو اللون أو الأصل
القومي ، اعتبرت هذه الاتفاقية في المادة
5 منها أن " الدول الاطراف ملزمة (...) بضمان حق كل إنسان دون تمييز
بسبب العرق أو اللون أو الأصل القومي أو الاثني في المساواة أمام القانون" .
و طالما
أنه لا يمكن الحديث عن المساواة أمام القانون دون الحديث عن الحق في التقاضي أقرت
المادة الخامسة المذكورة "مبدأ المساواة أمام المحاكم و جميع الهيئات الأخرى التي تتولى إقامة
العدل.
و أضافت المادّة 6 من الإتفاقية على أن "تكفل الدول
الأطراف لكلّ إنسان داخل في ولايتها حق الرجوع الى المحاكم الوطنية و غيرها من
مؤسسات الدولة المختصّة لحمايته ورفع الحيف عنه على نحو فعّال يصّد أي عمل من
أعمال التمييز العنصري يكون إنتهاكا لما له من حقوق الإنسان و الحريات الأساسية و
يتنافى مع هذه الإتفاقية، و كذلك حق الرجوع الى المحاكم المذكورة إلتماسا لتعويض
عادل مناسب او ترضية عادلة مناسبة عن أي ضرر لحقه كنتيجة لهذا التمييز".
إن تكريس
الحق في اللجوء الى القضاء من طرف هذه الإتفاقيّة، يعكس أهمية الحق في التقاضي
بإعتباره سبيل فعّال لرفع الظّلم و الحيف الناتج عن الممارسات العنصرية.
و أهمية حق التقاضي في حماية الإنسان من التمييز العنصري
هي التي تبرّر إعتبار إقرار التقاضي من الإلتزامات المحمولة على الدولة الطرف في
الإتفاقيّة.
الفـقرة الثانـية : الإتفاقيـات الإقليمـية والثنائيـة
أولا: الإتفاقيات الإقليمية:
تشمل
الإتفاقيات الإقليمية المواثيق العامة التي ينحصر تطبيقها في إقليم معين وعادة في
ظل منظمة دولية إقليمية ومن بين الإتفاقيات الإقليمية نذكر:
* الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان:
التي نصت بالمادة السادسة منها على أن " لكل شخص الحق في أن يجد محكمة مستقلة
وغير متحيزة وذلك للفصل في دعواه بطريقة عادلة وعلنية ، وخلال مدة معقولة ، وهذه
المحكمة تفصل المنازعات الخاصة بالحقوق والإلتزامات المدنية أو في صحة كل اتهام
جنائي " ففي هذه المادة أقرت الإتفاقية حق التقاضي كحق من حقوق الإنسان مع
الضمانات الواجب توافرها لضمان محاكمة عادلة ومنصفة وتتمثل هذه الضمانات في
استقلالية القضاء ، علنية الجلسات ، فصل المنازعات " في مدّة معقولة
"...
وقد
اعتبرت اللجنة الأوروبية أن المقصود " بالمدة المعقولة " أمر متغير ولا
يخضع لقواعد ثابتة ويتوقف على حرص القائم بالدعوى في تتبع دعواه وبحسب اختلاف
موضوع الدعوى " .
*
الإتفاقية الأمريكية الخاصة بحقوق الإنسان وكرّست
حق التقاضي بالمادة 25 منها وجاء فيها أنه " لكل شخص الحق في التقاضي وذلك
بصورة مبسطة وسريعة " أمام أجهزة
قضائية مختصة لحمايته من جميع الأفعال التي من شأنها المساس بحقوقه الأساسية التي
يكفلها الدستور" وأضافت هذه المادة
أن " الدول الممضية على هذه الإتفاقية تتعهد بأن تتولى الأجهزة القضائية
التابعة لها الفصل في جميع المنازعات المرفوعة أمامها وأن تتولى السلطة المختصة
تنفيذ جميع الأحكام الصادرة عن الأجهزة القضائية " ، الأمر الذي جعل حق
التقاضي باعتباره حقا من حقوق الإنسان يرتقي إلى مستوى الإلتزام المحمول على كاهل
الدولة بموجب هذه الإتفاقية .
*
إتفاقية التعاون القانوني و القضائي بين دول إتحاد المغرب العربي وجاء بالفصل 9 من القسم الثاني منها تحت عنوان " ضمان حق التقاضي" ان
مواطني كل طرف متعاقد يتمتّعوا بحق التقاضي أمام الهيئات القضائية ببلدان الأطراف
الأخرى للمطالبة بحقوقهم و الدفاع عنها" و اضاف الفصل 11 أنه "يتمتّع
مواطنوا الأطراف المتعاقدة ببلد كلّ منها بالحق في الحصول على المساعدة القضائية
أُسْوَةً بمواطنيه وفقا للتشريع النافذ فيه...".
*
إتفاقية الرّياض العربية للتعاون القضائي و مكّنت هذه الإتفاقية مواطنوا الأطراف المتعاقدة داخل حدود كل منها بحق التقاضي
أمام الهيئات القضائية للمطالبة بحقوقهم و الدفاع عنها، كما يتمتّع مواطنوا
الأطراف المتعاقدة داخل حدود كل منها
بالحق في الحصول على المساعدة القضائية. و من شأن ذلك ان يساعد على تذليل العقابات
الماديّة التي تحول دون اللجوء الى المحاكم ، و هو ما يشكل ضمان من ضمانات الحق في
التقاضي.
ثانيا : الإتفاقيات الثنائية :
إن المقصود بالإتفاقيات الثنائية أساسا هي تلك
الإتفاقيات المبرمة بين دولتين وأهمها اتفاقيات التعاون القضائي التي أقرت أغلبها
الحق في التقاضي بصفة صريحة وهي على سبيل الذكر لا الحصر :
*
اتفاقية التعاون القضائي بين تونس وفرنسا وقد نصت في الفصل الأول منها على أنه " لمواطني كل من الطرفين المتعاقدين
كامل الحرية وجميع التسهيلات للترافع أمام المحاكم الإدارية و غيرها من
المحاكم المنتصبة بتراب الدولة الأخرى
وذلك بغية المطالبة بما لهم من حقوق ومصالح والدفاع عنها " . كما تعرضت هذه
الإتفاقية بفصلها الرابع إلى الحق في التمتع بالإعانة العدلية بوصفه من أهم ضمانات
الحق في التقاضي .
* اتفاقية التعاون القضائي بين تونس وألمانيا
وجاء بالفصل الأول منها الوارد تحت باب " حرية التقاضي أمام المحاكم "
أنه " في المادة المدنية والتجارية يكون لرعايا كل من الدولتين المتعاقدتين
كامل الحرية في التقاضي أمام محاكم الدولة الأخرى كما يسوغ لهم الترافع لدى محاكم
الدولة المشار إليها حسب نفس الشروط المفروضة من حيث الأصل والشكل على الرعايا،
وتمكينهم من الإستعانة بمحام أو بغيره من الوكلاء يختارونه بكامل الحرية " .
كما اعترفت هذه الاتفاقية للذوات المعنوية بالحق في التقاضي ، وللفقراء من
الدولتين بحق التمتع بالإعانة العدلية إذا كانوا في حاجة لذلك .
* اتفاقية التعاون القضائي بين تونس وإيطاليا
واعتبرت في فصلها الأول أن " الرعايا من الدولتين لهم كامل الحرية وجميع
التسهيلات أمام المحاكم ، كما يسوغ لهم الترافع لديها حسب نفس الشروط المفروضة
للتقاضي من حيث الأصل والشكل على الرعايا أنفسهم" ..
*
إتفاقية التعاون القضائي بين تونس و بلجيكيا و جاء بالفصل الأول منها على أن لمواطني كل من الدولتين كامل الحريّة للتقاضي لدى
المحاكم العدلية و الإدارية المنتصبة بتراب الدولة الأخرى للمطالبة بما لهم من
حقوق و الدفاع عنها" و تسهيلا للتقاضي و ضمانا للمساواة بين الجميع في
ممارسته، نصّ الفصل 5 من هذه الإتفاقية على أنه لمواطني كل من الدولتين حق التمتّع
بالإعانة العدليّة عند التقاضي لدى المحاكم العدليّة او الإدارية تماما كمواطني
البلاد أنفسهم و ذلك طبقا لقانون الدّولة المطلوب فيها الإعانة".
*
إتفاقية التعاون القضائي بين تونس و النمسا و أقرت في فصلها الأول أنه "لمواطني الدولتين المتعاقدين في المادّة المدنية
و التجارية كامل الحريّة و جميع التسهيلات للترافع لدى المحاكم للمطالبة بما لهم
من الحقوق و الدّفاع عنها، كما يتمتع مواطنوا كل من الدولتين المتعاقدتين امام
محاكم الدولة المتعاقدة الأخرى بالإعانة العدليّة مجانا بالشروط التي يتمتّع بما
فيها مواطنوها.
*
إتفاقية التعاون القضائي بين تونس و روسيا و
جاء بالفصل الأول منها "أنه يتمتّع" مواطني كل من الطرفين المتعاقدين على تراب الطرف المتعاقد الآخر
بالمعاملة ذاتها التي يتمتّع بها مواطنوه أنفسهم فيما يخص الحماية القانونية و القضائية لأشخاصهم و ممتلكاتهم، و في
هذا الإطار نصّت المادة الثانية على أن يتمتع مواطنو كل من الطرفين المتعاقدين
بكامل الحريّة بحق اللجوء الى القضاء و
الى سائر هيئات الطرف الأخر المختصة بالنظر في القضايا المدنية بما فيها التجارية
و العائلية و الأحوال الشخصية.
إن تعدّد إتفاقيات التعاون القضائي بين
الدول في مجال القضاء يبرز أهميّة حق التقاضي كحق من حقوق الإنسان،إذ تسعى الدول
عبر هذه الإتفاقيات إلى حماية مواطنيهاالموجودين في دول أخرى عبرتمكينهم من حق
التقاضي مثلهم مثل مواطني تلك الدول الذين يتمتّعون بهذا الحق بموجب القانون
الداخلي .
الفــرع الثانـي : علــى المستـوى الداخلــي
في
إطار حرص المشرع التونسي على حماية حقوق الإنسان وخاصة الحق في التقاضي ، كّرس
القانون التونسي هذا الحق في عدة نصوص تشريعية (الفقرة الأولى ) وذلك مثله مثل
عديد القوانين المقارنة الاخرى (الفقرة الثانية ) .
الفقـرة الأولـى : فـي القانـون التونسـي
قبل
دستور 1959 ، كانت لتونس تجربة دستورية سابقة في ظل دستور 26 أفريل 1861 الذي
احتوى اهم المبادئ المضمنة في ميثاق عهد الامان الصادر عن الباي في 10 سبتمبر 1857
، وقد جاء في المادة الأولى من ميثاق عهد الأمان ما يلي : " تأكيد الأمان
لسائر رعيتنا وسكان ايالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم
المكرمة وأموالهم المحرمة وأعراضهم المحرمة إلا بحق يوجبه نظر المجلس بالمشورة
ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن أو الإذن بإعادة النظر
" في حين نصت المادة الثالثة " على التسوية بين المسلم وغيره من سكان
الإيالة في استحقاق الإنصاف لأنه استحقاقه لذلك بوصف الإنسانية لا بغيره من
الأوصاف والعدل في الأرض هو الميزان المستوي يؤخذ به للمحق من المبطل وللضعيف من القوي
" .
و تطبيقا لهذا المبدأ عدّد دستور 1861 المذكور الأجهزة القضائية
المختصة، غير أن هذه الأجهزة لم يكتَـبْ لها الدوام إذ سرعان ما وقع حذفها بعد
تعطيل العمل بالدستور في أفريل 1864 .
أما
بالنسبة لدستور 59 فبالرغم من عدم التنصيص صراحة على حق التقاضي، فإن المتأمل في بعض
أحكامه يقف على التكريس الضمني لحق التقاضي، من ذلك ما جاء بتوطئة الدستور من أن
النظام الجمهوري كفيل بحسن ضمان حقوق الإنسان والعدالة بين المواطنين كما جاء
بالفصل 12 منه أن " كل متهم يعد بريئا إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة
تكفل له فيها كل الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه" ، وضمن الدستور التونسي
بالفصل 65 استقلالية السلطة القضائية بقوله " أن القضاة مستقلون ولا سلطان
عليهم في قضائهم لغير القانون ".
و
جاء بالفصل 6 من الدستور التونسي الذي يُعَدُّ أعلى نص في المنظومة التشريعية
التونسية ما يلي : " كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام
القانون ."
وفي
نفس سياق الفصل السادس من الدستور جاء الفصل 19 م م م ت صريحا وواضحا في تكريس حق
اللجوء للقضاء وجاء فيه : " حق القيام لدى المحاكم يكون لكل شخص له صفة
وأهلية و مصلحة تخولان حق القيام بطلب ماله من حق ... " هذا الفصل له أهمية
متميزة حيث اقر حق اللجوء للقضاء لكل شخص دون ميز أو استثناء عدى الشروط المتعلقة
بالأهلية والصفة والمصلحة ، ويعني ذلك أن الشخص الطبيعي والمعنوي على حد السواء
لهما الحق في اللجوء للقضاء حسب صيغ القانون وشروطه . و في هذا تأصيل واضح وجلي لحق اللجوء للقضاء وما إيراده
في مجلة المرافعات المدنية والتجارية التي تعد أحد أهم الأطر الإجرائية لممارسة
الحقوق والمطالبة بها لدى القضاء في باب الأحكام العامة إلا دليل على الإهتمام
الواضح الذي أولاه المشرع لحق اللجوء للقضاء وسعيه إلى تجسيده على مستوى النصوص
التشريعية .
وجاء
الفصل 342 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية مانحا حق اللجوء للقضاء لكل فرد
للمطالبة بحق ما أو معارضة الغير في منازعته لأحد حقوقه وجاء فيه : " للمدين
المعقول عنه أن يقوم على الدائن العاقل بقضية في رفع العقلة . " ونشير في هذا
الصدد أن النصوص الواردة بمجلة المرافعات
التي خولت حق الطعن بالطرق العادية أو الغير العادية في الأحكام والقرارات
القضائية تدل بصفة صريحة على أن حق اللجوء للقضاء مكرس بصفة تكاد تكون مطلقة في
التشريع التونسي ويحظى باهتمام بالغ . ونذكر على سبيل المثال هنا الفصول :
224 و225 والفصول 199 و200 المتعلقة
بحق مؤاخذة الحكام والتظلم القضائي ضدهم. والفصول 175 إلى198 المتعلقة بالتعقيب
المخوّل لكل متقاض صدر ضده حكم أو لفائدته وينازع في صحة ما قضى به ذلك الحكم .
كذلك الحق المخول في الإعتراض على الأحكام واللجوء للقضاء للطعن فيها الوارد
بالفصول من 168 إلى 174 م م م ت.
والفصول
المتعلقة بالتماس إعادة النظر والإستئناف وطلب التصحيح والتفسير .
كلها
نصوص خولت اللجوء للقضاء طلبا في حماية القانون لحق معين .
وبالعودة
إلى مجلة الإلتزامات والعقود نجد المشرع أقر صلبها حق اللجوء للقضاء بصفة جلية ،
ومنها الفصل 90 م إ ع الذي جاء فيه : " يسوغ القيام بالخسارة والمطالبة لدى
المحاكم الجنائية وإزالة ما أحدث ... " وكذلك الفصل 177 م ا ع وجاء فيه
" عدم الوفاء بالعقد أو المماطلة فيه يوجبان القيام بالخسارة ولو لم يتعمد
المدين ذلك " .
والفصل
306 م أ ع وجاء فيه : " كان لهم عرض نازلتهم علىالحاكم ... "
وكذلك
الفصل 385 م أ ع : " حق مرور الزمان لا يقوم بنفسه في سقوط المطالبة بل يقوم
من له مصلحة فيه . وليس للحاكم أن يستند إليه من نفسه حتى يقوم به الخصم " .
وبالرجوع
كذلك إلى مجلة الشغل نلاحظ أن المشرع أورد فيها نصوصا تقر صراحة الحق في اللجوء
للقضاء للمطالبة بالحقوق لفائدة العمال . ومن بينها الفصل 214 "... يمكن لهذا الاخير في جميع الحالات
رفع الدعوى أمام دائرة الشغل التي تم بدائرتها التعاقد " .
و
الفصل 219 م ش الذي جاء فيه " للمطلوب المحكوم عليه مع التنفيذ الوقتي أن
يقوم استعجاليا لدى رئيس المحكمة الاستئنافية ...... "
وجاءت
مجلة الإجراءات الجزائية متماشية مع هذا النسق التشريعي لإقرار حق اللجوء للقضاء
عند حصول مساس بحقوق مكرسة ومحمية قانونا ، حيث نصّت بفصلها الثاني على ما يلي
" .... يمكن إثارة الدعوى المذكورة من طرف المتضرر حسب القواعد المبينة بهذا
القانون"
والفصل
7 إ ج الذي جاء فيه : " الدعوى المدنية من حق كل من لحقه شخصيا ضرر نشأ
مباشرة عن الجريمة ، ويمكن القيام بها في آن واحد مع الدعوى العمومية ... "
والفصل
45 م. إ ج وجاء فيه: "إذا صدرقرار بالحفظ إثر قيام بالحق الشخصي جاز للمتهم
أن يطلب تعويض الضرر الحاصل له جراء إثارة الدعوى" .
إن
هذه النصوص وغيرها تقوم دليلا على تكريس القانون التونسي للحق في اللجوء إلى
القضاء كلما وجد موجب لذلك بمناسبة المساس
بحق أو مصادرته أو الإخلال ببعض الضمانات أو الحقوق الإجرائية التي منحها القانون
للشخص .
الفقـرة الثانيـة : فـي القانـون المقـارن
من
أهمّ القوانين التي كرست حق التقاضي نجد القانون المصري ، إذ أبرزت الدساتير
المصرية المتتابعة مبدأ المساواة وكفالة حق التقاضي وإستقلال السلطة القضائية،
وخاصة دستور مصر الحالي الصادر في 11 سبتمبر 1971 ، إذ ذكرت المادة 64 منه
أن" سيادة القانون أساس الحكم في الدولة "، وقررت المادة 65 أن الدولة
تخضع للقانون وأن استقلال القضاء وحصانته ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات.
وأكدت المادة 68 أن " التقاضي حق مضمون ومكفول للناس كافة .. ولكل مواطن حق
الإلتجاء إلى قاضييه الطبيعي وتكفل الدولة تقريب جهات القضاء من المواطنين
المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا..."
ويعتبر
هذا النص تتويجا لمرحلة هامة من التطور الذي لحق مبدأ المساواة أمام القضاء وكفالة
حق التقاضي.
وأضافت
المادة 165 ان السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها
ودرجاتها وتصدر احكامها وفق القانون " ، ونصّت المادّة 166 " على ان
القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ".
واعتبرت
المادّة 169 من الدستور المصري أن " جلسات المحاكم علنية إلاّ إذا قرّرت
المحكمة جعلها سريّة مراعاة للنظام العام و الآداب و في جميع الأحوال يكون النطق
بالحكم في جلسة علنية " و كل ذلك يبرز حرص المشرّع المصري على تكريس حق
التقاضي باعتباره حق من حقوق الإنسان، و بالنظر الى أن هذا الحق يفقد معناه دون
ضمانات تكفله ، أقرّ الدستور المصري عدّة مبادئ كفيلة بضمانه مثل مبدأ المساواة
واستقلالية القضاء و علنيّة الجلسات وحق الدفاع و سرعة الفصل في القضايا...
أمّا
القانون الفرنسي فكرّس حق التقاضي بدستور
1964 وإن كان ذلك ضمنيا ، وتجدر الإشارة إلى أن الفصل 11 من مشروع الدستور المذكور
كان ينص صراحة على الحق في اللجوء إلى القضاء إذ جاء فيه " la
loi assure à tous les hommes le droit ce se faire rendre justice " .
وقد
اعتبر المجلس الدستوري في فرنسا " أن الأجانب يتمتعون بحق الإلتجاء إلى
القضاء للدفاع عن الحقوق والحريات العامة كما هو الشأن بالنسبة للمواطنين المقيمين
على التراب الفرنسي وهو ما سمح بتجاوز التكريس الضمني لحق التقاضي في الدستور .
و سواء كان التكريس صريحا أو ضمنيا فإن حق التقاضيمكفول و مضمون بجملة من الضمانات الهامة.
إرسال تعليق