الذخيرة القانونية

موقع يتعلق بالقانون التونسي

random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

لاختصاص المؤسس على فكرة حماية الطرف الضعيف في النّزاع : اختصاص مؤسّس على إقامة المدّعي بتونس

 الاختصاص المؤسس على فكرة حماية الطرف الضعيف في النّزاع : اختصاص مؤسّس على إقامة المدّعي بتونس


بحثا عن تحقيق الحماية الكافية للأشخاص الموجودين في وضعيات خصوصية، أسند المشرع التونسي للمحاكم الوطنية حالات اختصاص دولي جديدة تهدف إلى توفير الحماية القضائية لهؤلاء. لذلك مكنت مجلّة القانون الدولي الخاص ضمن فصلها السادس الطرف الضعيف أو ذوالحاجة الخصوصية من الالتجاء إلى المحاكم الوطنيّة لطلب تدخلّها في نزاعات دوليّة على أساس إقامة المدّعي بالإقليم الوطني. ذلك أنه لا يمكن بالنسبة لهذا الصنف من المتقاضين الانتقال إلى مكان إقامة المطلوب لتعهيد محاكم دولة بعيدة. الأمر الذي يجعل من الضروري التخلّي عن القاعدة الأساسية في مادة الاختصاص الدولي التي تتأسّس على مكان إقامة المطلوب.
وأخذا بهذه الاعتبارات أسند الفصل 6 من م.ق.د.خ المحاكم الوطنية الاختصاص للنّظر في دعاوى البنوّة (الفقرة الاولى) أو التعهد بإجراء لحماية قاصر(الفقرة الثانية) كلّما كان الشخص المعني بهذه الإجراءات متواجدا على الإقليم الوطني.
كما يمكن أن يتأسّس الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في مادة النفقة على فكرة إقامة الدّائن بالنفقة بالإقليم الوطني (الفقرة الثالثة).
ولقد اعتبر المشرّع في هذه الحالات أنّ عنصر إقامة المدّعي بالإقليم الوطني يكفي لإسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنيّة .
وقد تساعد السياسة الحمائية التي توخّاها المشرّع التونسي في تنظيم الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية على الدّعوة إلى الإقرار بإمكانية قبول القضاء الوطني باختصاصه في الحالات التي يتضح فيها أن رفضه له يؤدّي إلى إنكار العدالة (الفقرة الرابعة).

الفقرة الاولى : الدعاوى المتعلّقة بالنسب
مكّن المشرّع التونسي الطفل المقيم بالبلاد التونسيّة من رفع الدعاوى المتعلّقة بنسبه أمام المحاكم الوطنيّة. وقد جاء بالفصل 6 من م.ق.د.خ بأنّ "المحاكم التونسيّة تنظر في الدعاوى المتعلّقة بالبنوّة إذا كان القاصر موجودا بالبلاد التونسيّة". وحسب الفقرة الاولى من هذا الفصل يختصّ النّظام القضائي التّونسي بصفة عامّة في النّزاعات المتعلّقة بإثبات نسب القاصر المقيم بالبلاد التونسيّة.
وعلى هذا الأساس يمكن القول أن حالة الاختصاص في مادة إثبات نسب القاصر تستند إلى فكرة إقامة المدّعي بالإقليم الوطني رغم أن المشرّع لم يشر إلى ذلك صراحة . ولقد أقرّ الفقه[1] أن اختصاص المحاكم الوطنيّة في مادة إثبات نسب القاصر على معنى الفصل6/1 يتعلّق بالحالة التي يكون فيها الطفل القاصر مدّعيا وليس مدّعى عليه. أمّا في الحالة التي يأخذ فيها الطفل القاصر مركز المدّعى عليه فإنّه من المنطقي تأسيس الاختصاص الدّولي على فكرة إقامة المطلوب بالإقليم الوطني حسب أحكام القاعدة العامة الواردة بالفصل 3 م.ق.د.خ[2] . والأخذ بهذا التاويل يعطي للقاعدة الواردة بالفصل 6 بعدها الحقيقي المتمثل في إيجاد حلّ يتلاءم مع سياسة المشرّع التونسي الهادفة إلى تمكين الطفل القاصر من إثبات نسبه وايلاء مصلحته المرتبة الاولى في النّزاعات التي تتعلّق به.
ويترتّب عن هذا التحليل أن الدعاوى المتعلّقة بالبنوّة المنصوص عليها في الفصل6/1 تهدف إلى إثبات نسب الطفل القاصر. لذلك يجب إقصاء الدعاوى الهادفة إلى إنكار نسب الطفل من مجال الاختصاص الدّولي المؤسّس على إقامة الطفل القاصر بالبلاد التونسيّة. ويرجع هذا الإقصاء إلى أن الدعاوى الهادفة إلى إنكار صلة النسب يحتلّ فيها الطفل غالبا موقع المدّعى عليه وهو ما يجعلها خاضعة لأحكام الفصل 3 م.ق.د.خ[3] . ويتضح من خلال ما تقدّم أن القاعدة التي تسند الاختصاص الدّولي للمحاكم الوطنيّة في صورة إقامة الطفل بالإقليم الوطني في مادة النّسب ترجع إلى إرادة المشرّع الواضحة في حماية الطفل القاصر من خلال السعي إلى توفير أكثر ما يمكن من الوسائل القانونية المساعدة على تحقيق هذه الغاية. ولقد دعّم المشرّع التّونسي هذه الحماية من خلال وضعه -على مستوى تنازع القوانين في مادة النّسب- لقاعدة تنازع تفاضليّة وذات محتوى مادي تفرض على القاضي الوطني المتعهّد بمسألة إثبات نسب القاصر مقارنة أحكام أربع قوانين مختلفة بهدف الوصول إلى تطبيق أحكام القانون الأفضل لإثبات البنوّة. وتتم هذه المقارنة حسب أحكام الفصل 52 م.ق.د.خ بين القانون الشّخصي للمطلوب أو قانون مقرّه والقانون الشخصي للطفل أو قانون مقرّه[4]. كما يجد هذا التوجه تكريسا على مستوى القانون الداخلي حيث عرف التشريع التّونسي تطوّرا هاما منذ صدور القانون عدد 75 لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 المتعلّق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين ومجهولي النّسب[5]. وقد سمح هذا القانون بإثبات بنوّة الطفل مجهول النسب باعتماد الإقرار أو بشهادة الشهود أو بواسطة التحليل الجيني ممّا يمكنّه من حمل لقب والده ومن التمتّع بالحضانة وبالولاية وبالنفقة[6]. لذلك فان إسناد الاختصاص القضائي الدّولي في الدعاوى المتعلّقة بإثبات نسب الطفل القاصر المقيم بالبلاد التونسيّة للمحاكم الوطنيّة يتنزّل في إطار البحث عن حمايته. ويتضح ذلك من خلال اختيار المشرّع لمعيار الترابط المتمثّل في إقامة القاصر بما يسمح له من الالتجاء إلى القاضي الأقرب لمكان إقامته دون أن يكون ملزما برفع دعواه أمام محكمة بعيدة [7]. ويمكن أن نجد تطبيقا ضمنيا لقاعدة الاختصاص المؤسسة إقامة الطفل القاصر بالبلاد التونسيّة في الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بتونس تحت عدد 29308 بتاريخ 10 ماي 1999. ويتعلّق النّزاع في هذه القضيّة بإثبات بنوّة طفل تجاه والده الحامل للجنسيّة الإيطالية بينما تحمل الأمّ الجنسيّة التونسيّة. ورغم أن المحكمة لم تثر الصبغة الدّوليّة للنّزاع المطروح أمامها كما لم تبيّن سند اختصاصها الدّولي في هذه الحالة فان تعهدها بالنّزاع صحيح نظرا لإقامة الطفل المطلوب إثبات نسبه بالبلاد التونسيّة زمن رفع الدّعوى. في المقابل يؤكّد إغفال المحكمة للصبغة الدّوليّة للنّزاع النّزعة التلقائية للقضاء التونسي في قبول اختصاصه في المادة الدّوليّة بالنّسبة لنزاعات الحالة المدنيّة وقانون العائلة خاصّة. كما أدّى إغفال المحكمة للصبغة الدّوليّة للنزاع إلى إهمالها لمسألة البحث عن القانون المنطبق من خلال إعمال قاعدة التنازع الوطنيّة الواردة بالفصل 52 م.ق.د.خ لذلك اتجهت المحكمة مباشرة إلى تطبيق القانون التونسي الدّاخلي. ويبرز هذا التّمشي التلقائي من خلال حيثيات المحكمة التي جاء فيها" حيث كانت الدّعوى تهدف إلى طلب الحكم بإلحاق نسب البنت (...) المولودة من أمها(...) بوالدها المدّعى عليه(...) الإيطالي الجنسيّة..." ثم تمر المحكمة مباشرة إلى تطبيق القانون التونسي بقولها "وحيث اقتضى القانون عدد 75 لسنة 1998 أنه للنيابة العموميّة أن تطلب من المحكمة المختصّة إسناد لقب الطفل الذي يثبت نسبه بالإقرار أو بشهادة الشهود أو بالتحليل الجيني...".
وتجدر الإشارة إلى أن الاعتبار المتعلّق بحماية الطفل في نزاعات النّسب، جعل عديد القوانين المقارنة تأخذ بحالة الاختصاص القضائي المؤسّس على رابطة إقامة الطفل بالإقليم.
 من ذلك القانون السويسري الذي أقرّ باختصاص محكمة مكان الإقامة الاعتيادية للطفل للنظر في الدعاوى المتعلّقة بإثبات نسبه أو بإنكاره[8]. كما يسند القانون الألماني الاختصاص في هذه المادة للمحاكم الألمانية إذا كان المدّعي مقيما بالتراب الألماني والمدّعى عليه يقيم بالخارج[9]. ويبرز هذا التوجّه في القانون المقارن المكانة التي أصبح يحتلّها مكان إقامة الطفل القاصر كرابطة في مادة الاختصاص الدّولي في النّزاعات المتعلقة بالبنوّة. وسيتدعّم هذا الدّور بالنسبة للاختصاص الدوّلي للمحاكم الوطنيّة في مادة الإجراءات المتعلّقة بحماية الطفل القاصر.

الفقرة الثانية : الإجراءات المتعلقة بحماية القاصر
أسند المشرّع التونسي الاختصاص الدّولي للمحاكم الوطنيّة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية القاصر الموجود بالبلاد التونسيّة [10]. ولقد دعت الحاجة الملحّة لحماية القاصر لإنشاء هذه الحالة الجديدة من الاختصاص الدّولي والتي لم يعرفها القانون التونسي قبل صدور مجلّة القانون الدولي الخاص. فيمكن إذن للقضاء الوطني أن يتدخّل لاتخاذ الإجراءات الحمائية الكفيلة بضمان سلامة الطفل القاصر الموجود بالبلاد التّونسيّة. ويتعلّق الأمر هنا باتخاذ الإجراءات الوقتيّة التي تفرضها حالة التأكّد[11]. لذلك يبدو  أنّ اختصاص المحاكم الوطنيّة للتعهّد بوضعيّة الطفل القاصر الموجود بالإقليم الوطني تتأسس على فكرة قرب المحاكم الوطنيّة من القاصر موضوع هذه الحماية ومن المحيط الذي يوجد به هذا الأخير[12].
لذلك لم يأخذ المشرّع التونسي بمعيار إقامة المطلوب ولا بمعيار الجنسيّة في مجال حماية القاصر بل اعتمد على المعيار الإقليمي المتمثل في مكان تواجد الطّفل القاصر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكان إقامة أو تواجد الطفل  هو  المعيار المعتمد في الحالة التي يكون فيها الطفل مدّعيا كما هو  الشأن بالنسبة للدعاوى المتعلّقة بالنسب لأنّه عادة ما يحتلّ القاصر أو وليّه وضعيّة المدّعي في المادة المتعلّقة بالإجراءات الهادفة إلى حمايته[13] . وعلى هذا الأساس، تختصّ المحاكم الوطنيّة لاتخاذ كلّ الإجراءات التي يكون موضوعها حماية القاصر أو رعاية مصالحه سواء تعلّق الأمر بإجراءات تمسّ شخص الطفل القاصر أو بإجراءات تهمّ أمواله.
وبالرجوع إلى فقه القضاء المقارن، نجد أمثلة عن الإجراءات الوقتية أو التحفظيّة الضرورية لحماية القاصر أو أمواله الموجودة على إقليم الدولة التي قبلت محاكمها اختصاصها الدولي في هذه المادة. ومن هذه الوسائل يمكن أن نذكر :
- تعيين وليّ للطفل القاصر الأجنبي الموجود بفرنسا دون ولي قانوني[14].
- تعيين متصرّف وقتي في أموال القاصر الأجنبي بسبب غياب ولّيه أو بسبب رفضه القيام بواجباته بما يهدّد مصالح الطفل القاصر[15].
- اتخاذ الإجراءات التربويّة اللازمة لحماية الطفل الأجنبي المعرّض لخطر مادي أو معنوي خاصّة وأن لهذه الإجراءات صبغة وقتيّة[16].
وتجدر الإشارة إلى أنه لم يقع تكريس معيار إقامة الطفل كأساس للاختصاص القضائي إلا ّبعد تطور شهدته هذه المادّة والتي عرفت معايير أخرى للاختصاص القضائي، ففي مرحلة وقع اعتماد معيار جنسية القاصر لإسناد الاختصاص القضائي لاتخاذ الإجراءات الحمائية. ويرجع الأخذ بمعيار الجنسية إلى تعلّق مادّة حماية القاصر بحالته الشخصية. وتعتبر حماية القاصر من هذه الناحية مظهرا من مظاهر السيّادة التي تمارسها الدولة في مادّة الأحوال الشخصية[17].
وقد أدى في -مرحلة ثانية- تطور التشريعات المتعلقة بحماية الطفولة إلى تراجع معيار الجنسية ونشأة اعتبارات أخرى تتعلق بانتماء عديد الأحكام في قانون حماية الطفولة إلى القانون العام. كما يشير الفقه إلى ضرورة تدخل المشرع بواسطة قوانين البوليس ( أو القوانين ذات التطبيق المباشر أو الفوري) لحماية الطفل القاصر.
لذلك يرى جانب من الفقه[18] أنه يمكن تأسيس الاختصاص القضائي الدولي على وجود القوانين ذات التطبيق المباشر في مادّة حماية الطفل القاصر.
ويؤدي هذا التوجه إلى إخضاع الاختصاص القضائي إلى الاختصاص التشريعي أو القانون المنطبق. فتكون السلطات المختصة بحماية القاصر هي سلطات الدولة التي يكون قانونها منطبقا على أصل النزاع. ويبرّر هذا الحل بالعلاقة المتينة الرابطة بين قواعد الأصل والإجراءات في مادّة حماية القصّر.
ولقد وقع تكريس هذه الاعتبارات على المستوى الدولي في قرار BOLL الصادر عن محكمة العدل الدولية في 28 نوفمبر 1958 والذي مهّد لاعتماد معيار إقامة الطفل لحلّ مشاكل تنازع الاختصاص القضائي في مادّة حماية القصّر[19].
ويعبّر قرارBOLL تفوّق عن المعيار الإقليمي في إسناد الاختصاص القضائي لاتخاذ التدابير اللازمة لحماية الطفل القاصر أمام معيار الجنسية. ذلك أنّه من الوجيه أن يرجع الاختصاص في هذه المادّة إلى الدولة التي سيقع تنظيم إجراءات الحماية على إقليمها أي إلى محاكم الدولة التي يقيم أو يوجد بها الطفل[20].
 ويمتاز الاختصاص القضائي المؤسس على مكان إقامة الطفل القاصر بقدرته على تحقيق أهداف قاعدة الاختصاص. ذلك أن إسناد الاختصاص القضائي للمحاكم الوطنية لاتخاذ الإجراءات الحمائية تجاه الطفل القاصر، يمكّن من تجميع النزاع أمام محاكم الدولة التي تتركّز بها غالبية عناصر النزاع من الناحية الماديّة. ويمكّن تجميع النزاع بدوره من تحقيق الهدف العام المتمثّل في حسن تنظيم مرفق القضاء. كما يوفر هذا الاختصاص الحماية الكافية لمصالح الطفل إضافة إلى ضمان الفاعلية للإجراءات المتخذة من قبل القضاء الوطني باعتبار أنّه سيقع تنفيذها على الإقليم الوطني[21].
لذلك عرف الاختصاص القضائي المؤسس على مكان إقامة أو تواجد الطفل في مادّة حماية القصر تكريسا موسّعا في القانون المقارن. فمن جهة اعتمدت اتفاقية "لاهاي" الصادرة في 5 أكتوبر 1961، والمتعلقة بالاختصاص القضائي والقانون المنطبق في مجال حماية القصر، معيار الإقامة الاعتيادية للطفل في إسناد الاختصاص القضائي[22].
كما اعتمدت اتفاقية "لاهاي" الجديدة نفس معيار الترابط لإسناد الاختصاص القضائي مقصية بذلك معيار الجنسية في مادة حماية الطفولة[23].
وتأسيسا على ذلك وأخذا بعين الاعتبار لمصلحة الطفل الفضلى أسند المشرع التونسي الاختصاص للمحاكم الوطنية لاتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية الطفل المقيم أو الموجود بالبلاد التونسية مكتفيا بهذا المعيار. ولقد خرج القانون التونسي بالنسبة لهذه الإجراءات عن المعيار الاعتيادي في إسناد الاختصاص القضائي والمتمثل في إقامة المدّعى عليه بالإقليم الوطني.
ويجب أن نضيف إلى الشرط المتعلّق بتواجد الطفل محل الحماية على الإقليم الوطني شرطا ثانيا يتمثل في ضرورة أن يكون الإجراء واجب التنفيذ بالبلاد التونسية. ويرجع ذلك إلى الصبغة الإقليمية للإجراءات الحمائية والوقتية المتعلقة بحماية القاصر والتي ستنفذ وجوبا بالبلاد التونسية. على أنه يكفي تواجد الطفل القاصر بالإقليم الوطني ليقع السّماح بتعهيد المحاكم الوطنية في صورة وجود خطر محدق بالطفل محل الحماية.
وتجدر هنا إلى أن الفصل 6 في فقرته الاولى اكتفى باشتراط تواجد الطفل على الإقليم الوطني للإقرار باختصاص المحاكم الوطنية في كل الحالات التي تقتضي فيها مصلحة الطفل تدخل القضاء. ويسمح هذا التحليل للفصل 6 في فقرته الاولى من توسيع اختصاص المحاكم الوطنية ليشمل حماية الطفل الموجود بصفة وقتية على الإقليم الوطني تأسيسا على فكرة التأكّد. فلا يمكن أن يبقى الطفل القاصر دون حماية كما أن حالة التأكد تبرّر بصفة كافية اختصاص القضاء الوطني كلّما كان مؤهّلا للتدخّل[24].
وفي هذا الإطار اعتبر فقه القضاء الفرنسي أن هذه الحالات المتأكدّة والداعية لتدخّل القضاء لحماية الطفل القاصر تنضوي تحت طائلة الإجراءات الوقتية والتحفظيّة بما يجعلها راجعة بالنظر إلى القضاء الوطني[25].
كما كرّس فقه القضاء التونسي هذا التوجه قبل صدور مجلة القانون الدولي الخاص ;في غياب قاعدة اختصاص خاصة بإجراءات حماية القصّر. فقد أقرّت المحكمة الابتدائية بتونس في قرارها الصادر في 19 ماي 1980 باختصاصها للنظر في طلب الأب إسناد حضانة ابنه الطبيعي والمقيم ببلجيكا مع والدته والذي كان موجودا بصفة مؤقتة على التراب التونسي زمن تقديم الدعوى[26].
ويتدعّم توجه المشرّع الحمائي تجاه الطفل القاصر الموجود بالبلاد التونسية من خلال إخضاعه الوسائل الوقتيّة لأحكام القانون التونسي بغض النظر عن كل تنازع للقوانين وعن القانون المنطبق على أصل النزاع. وجاء في هذا الإطار بالفصل 41 م.ق.د.خ في فقرته الثانية أن: "الوسائل الوقتية أو المتأكدّة تتّخذ على مقتضى القانون التونسي إذا كان القاصر أو المحجور عليه موجودا بالبلاد التونسية عند اتخاذها".
وتمثل هذه القاعدة تكريسا لمصلحة الطفل التي اقتضت في صورة الحال اقتران اختصاص القضاء الوطني باتخاذ الوسائل الوقتية الكفيلة بتوفير هذه الحماية، باختصاص القانون التونسي لتنظيم هذه الإجراءات.
وقد تتعلّق هذه الوسائل الوقتيّة بحضانة الطفل أو بنفقته كما يمكن أن تشمل الإجراءات الحمائيّة الهادفة إلى إنقاذ الأطفال الموجودين في وضعيات تهدّد سلامتهم وحرمتهم البدنيّة أو النفسيّة. لذلك يمكن أن يلتجئ القاضي الوطني إلى اتخاذ هذه الوسائل الوقتية أثناء المرحلة الصلحية في قضايا الطلاق أو في غير ذلك من الحالات التي تستوجب تدخّله. وعلى هذا الأساس أجازت مجلّة حماية الطفل في فصلها67 لقاضي الأسرة التعهّد بوضعية الطفل المهدّد واتخاذ القرارات اللازمة لحمايته كتمتيعه بالنفقة. "كما أفرز العمل القضائي تطبيقا بمقتضاه يبتّ قاضي الأسرة في غير نطاق دعاوى أصليّة بصفة وقتيّة في مسألة الحضانة وكان أن اعتمد في ذلك مبدأ مصلحة المحضون"[27].
وعلى هذا الأساس اتخذ قاضي الأسرة بالمحكمة الابتدائية بتونس قرارا وقتيا يلزم الوالد بتسليم الابنين لوالدتهما وذلك في إطار زواج مختلط بين تونسي وبلجيكية . وجاء بهذا القرار أنه "حيث ثبت أن غياب الأمّ على طفليها جعل هذين الأخيرين في حالة نفسيّة مترديّة وقد أثبت الاختبار الطبّي أن الطفلين أصبحا مهددين نفسانيا (...) وحيث أن تواصل هذه الحالة يزيد لا محالة في تدهور حالة الطفلين النفسية ممّا يؤثّر على حياتهما وتوازنهما وتكوين شخصيتهما وحيث يتعيّن وضع حد لأزمة الثقة بين الوالدين حفاظا على تربية الابنين وانتشالهما من الحالة النفسية التي يعيشانها..."[28].
ويتأسس هذا التوجه على ضرورة الحصول على حماية قانونية فورية بالنسبة للطفل القاصر. ويفترض توفير هذه الحماية إسناد الاختصاص للمحاكم الوطنية لاتخاذ الوسائل الحمائية العادية منها أو الوقتية الاستعجالية بالنسبة للطفل القاصر الموجود بالبلاد التونسية مع السّماح للقاضي الوطني بتطبيق قانونه دون المرور بمرحلة البحث عن القانون المنطبق عبر أعمال قاعدة التنازع. وهو ما يتماشى مع الطبيعة الحمائية والمتأكدّة لهذه الإجراءات .
 وتشمل هذه التدابير الهادفة لحماية الطفل القاصر كل ما يتعلق بالولاية عليه وحماية أمواله الموجودة بالبلاد التونسية وذلك بتعيين مقدّم عليها أو وضعها تحت يد متصرّف قضائي. كما يمكن أن تشمل إسناد الحضانة بصفة وقتية أو النفقة لصالح الطفل المعني بالحماية. وتدخل في إطار الإجراءات الحمائية والراجعة بالنظر للمحاكم الوطنية كل التدابير التي نصّت عليها مجلّة حماية الطفل والتي تهدف إلى حماية الطفل المهدّد والموجود على الإقليم الوطني كلّما ثبت وجود ما يهدّد صحّته أو سلامته البدنية أو المعنوية . لذلك أقرّت مجلة حماية الطفل عديد الآليات التي يمكن للقضاء الوطني اعتمادها ضمانا لحماية الطفل الموجود بالإقليم الوطني. وعهدت مجلة حماية الطفل إلى قاضي الأسرة بالاختصاص لاتخاذ التدابير اللازمة سواء كانت وقتية كالإذن بإبعاد الطفل عن عائلته ووضعه تحت نظام الكفالة[29] أو تدابير أصلية "كإبقاء الطفل بعائـلته وتكليف مندوب حماية الطفولة بمتابعته أو إخضاع الطفل للمراقبة الطبية أو النفسانية أو وضع الطفل تحت نظام الكفالة أو لدى عائـلة استقبال أو مؤسسة اجتماعية أو تربوية مختصة, أو الإذن بوضع الطفل بمركز للتكوين أو التعليم"[30].
ويتضح من خلال ما تقدّم أن المشرع سعى إلى حماية الطفل باعتباره طرفا ضعيفا من خلال اعتماد مكان تواجد الطفل بالإقليم الوطني كمعيار لإسناد الاختصاص القضائي للمحاكم الوطنية لاتخاذ الوسائل الكفيلة بحمايته والتي نصّت عليها الأحكام الآمرة للقانون الداخلي في هذه المادّة.
وأدّى بحث المشرّع عن حماية الدائن بالنفقة إلى اتباع نفس الطريقة على مستوى الاختصاص القضائي الدولي.

الفقرة الثالثة : نزاعات النفقة
أخذا بخصوصية مؤسسة النفقة التي تتداخل فيها الاعتبارات الماسّة بقانون العائلة مع الاعتبارات المالية[31] تبنّى المشرّع التونسي حلاّ جديدا على مستوى الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية. حيث أقر بحالة اختصاص متميزة في مادة النفقة يمكن بمقتضاها للدائـن بالنفقة أن يرفع دعواه أمام المحاكم التونسية إذا كان مقيما بالإقليم الوطني. وفي هذا الاطار نص الفصل 6 م.ق.د.خ في فقرته الثانية أنه " تنظر المحاكم التونسية: (...) في دعاوى النفقة إذا كان الدائـن مقيما بالبلاد التونسية."
ويتضح من خلال النص المذكور أن سند الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في مطالب النفقة يتأسس على معيار إقامة الدائـن بالنفقة بقطع النظر عن مكان إقامة المطلوب. كذلك الشأن بالنسبة لجنسية أطراف النزاع التي لا تأثير لها على اختصاص المحاكم الوطنية.
ويتمتع بهذا السند كل شخص يعتبر دائنا بالنفقة من وجهة نظر القانون التونسي الذي يطبقه القاضي الوطني عند قيامه بعملية التكييف الضرورية للتثبت من مدى خضوع النزاع لاختصاصه الدولي. ذلك أن القاضي الوطني يطبق أحكام قانونه على كل المسائل الإجرائية التي تعترضه عند البت في النزاع.
وتأسيسا على ذلك يعتبر دائـنا بالنفقة كل شخص منتفع بحق الإنفاق عليه. ويحدد القانون التونسي مصادر نشأة الحق في النفقة في ثلاثة أسباب هي" الزوجية والقرابة والالتزام"[32].
وتجدر الإشارة إلى أن عديد التشريعات المقارنة كرست نفس الحل في مجال الاختصاص الدولي. فينص القانون الألماني مثلا على إمكانية رفع الدعوى في مادّة النفقة عموما ، أمام المحاكم الألمانية إذا كان للمدّعي مقرا بألمانيا وذلك في حالة غياب مقر المطلوب بها[33].
أما في القانون الفرنسي فقد أدّى نقل فقه القضاء لأحكام الفصل 46 من المجلة الجديدة للإجراءات المدنية على مستوى الاختصاص الدولي إلى الاعتراف للدائن بالنفقة بالخيار بين رفع دعواه أمام محكمة مقر المطلوب أو المحكمة التي يوجد بها مقرّه الخاص. وإذا كان المعيار المعتمد في إسناد الاختصاص للمحاكم الوطنيّة هو  مكان إقامة الدائن بالنفقة لأنه الطرف الضعيف والمستحقّ للحماية فإنّ ذلك يعني أن الدائن بالنفقة يحتل في هذا الحالة مركز المدّعي في النزاع. أما في الصورة التي يكون فيها المنتفع بحقّ النفقة مدّعى عليه فيكفي الرجوع إلى أحكام الفصل 3 من م.ق.د.خ للاعتراف للمحاكم الوطنيّة بالاختصاص الدولي نظرا لإقامة المطلوب بالبلاد التونسية[34].
ويتماشى إسناد الاختصاص الدولي في مادّة النفقة على أساس إقامة المدّعي بالبلاد التونسية مع الحل المعمول به على المستوى الداخلي في مجال تحديد الاختصاص الترابي. حيث يتيح الفصل 36 م.م.م.ت في فقرته الخامسة الخيار للمنفق عليه لرفع دعواه إمّا أمام المحكمة التي يوجد بدائرتها الترابية مكان إقامة المطلوب أو أمام المحكمة التي يقيم بدائرة اختصاصها هو  بوصفه مدعيّا[35].
ويحقّق الاختصاص الدولي القائم على معيار إقامة الدائن بالنفقة هدفين أساسيين. إذ يمكن هذا الحل من جهة من حماية الطرف الضعيف وتجنيبه نفقات التنقل ورفع الدعوى أمام محاكم بلد بعيد عن مكان إقامته.
ومن جهة أخرى يهدف إسناد الاختصاص إلى محكمة مقر الدائن بالنفقة إلى ضمان حسن سير القضاء. ذلك أن قرب القضاء الوطني نظرا لإقامة المنفق عليه بالإقليم الوطني يجعله مؤهلا أكثر من غيره من الأنظمة القضائية لتقدير حاجيات الدائن بالنفقة ولمعاينة حالة الضرورة والنقص التي يوجد فيها هذا الأخير. كما يمثل مكان إقامة المنتفع بالنفقة المكان الأمثل لجمع المعلومات والمعطيات المتعلقة بعناصر النزاع في مادّة النفقات نظرا لما للمحيط الذي يعيش المنفق عليه من تأثيرات عليه. وييسّر ذلك الفصل السريع والناجع للنزاع الذي تفرضه الصبغة المعاشية للنفقة.
وتبرّر هذه الأهداف الصياغة العامة التي جاء بها الفصل 6 م.ق.د.خ في فقرته الثانية حيث وردت عبارة " الدعاوى المتعلقة بالنفقة " مطلقة بما يؤكد اتساع مجال اختصاص المحاكم الوطنية في نزاعات النفقة ليشمل كل المطالب التي يقدمها الدائن بالنفقة . فيرجع لمحكمة مقر الدائن بالنفقة النظر في المطالب المقدمة لاول مرّة في مرحلة أو لى . كما تختّص المحاكم الوطنية بالدعاوى التي يكون موضوعها مراجعة معينات النفقة والهادفة إلى ترفيعها شريطة استمرار إقامة المدّعي بالإقليم الوطني[36] .
ونظرا لارتباط دين النفقة بالظروف المعاشية فإن تغيرها يؤدي إلى الاعتراف لكل من المنفق والمنفق عليه بالحق في المطالبة بمراجعة المبالغ الصادر بها أحكام سابقة[37].
فانتقال الدائن بالنفقة إلى الإقامة بالبلاد التونسية يجعل من المحاكم الوطنية مختصة بالنظر في مطالب مراجعة مبالغ النفقة المحكوم بها سابقا ولوكانت الأحكام الصادرة في هذا الشأن أجنبيّة. والسبب في ذلك هو  إمكانية انقطاع كل صلة لأطراف النزاع مع المحكمة التي أصدرت الحكم الاول[38].
لكن وجب إقصاء مطالب النفقة المقدمة في إطار الدعاوى المتعلقة بالحالة الشخصية من مجال الاختصاص المؤسس على معيار إقامة المدّعي بالبلاد التونسية لأن هذه الدعاوى تخضع إلى قاعدة الاختصاص المبدئية المستندة لإقامة المدعى عليه بالإقليم الوطني. ويرجع هذا التّمشي إلى ارتباط مطالب النفقة في هذه الحالة بالدّعاوى الأصلية الماسّة بالحالة الشخصية خاصّة دعاوى الطّلاق التي ترفقها عادة نزاعات تهمّ النّفقة. فيكون بذلك القضاء الوطني مختصا بالنّظر في مطالب النفقة المقدّمة في إطار دعاوى الطّلاق إذا انعقد الاختصاص الدّولي لصالحه في المسألة الأصلية وهي الطّلاق دون لزوم توفّر معيار الاختصاص في مادّة النفقة نظرا لترابطها كمسألة فرعية مع دعوى الطّلاق([39]).
وتجدر الإشارة إلى الدّور الذي تلعبه حالة التأكّد على المستوى الدّولي في هذه المادّة نظرا للحضور المكثّف لفكرة الحماية المفروض توفيرها للطرف المستحق للنفقة. وتبعا لذلك يؤسّس الفقه إمكانية قبول الاختصاص الدّولي في مادّة النفقة بسبب حالة التأكّد([40]).
لذلك يمكن للمحاكم الوطنية أن تقبل اختصاصها للبتّ في مطالب النفقة المحفوفة بالضرورة والتأكّد مكتفية في ذلك بوجود الدّائن بالنفقة على الإقليم الوطني ولوبصفة مؤقتة دون اشتراط إقامته الدائمة به. ويمكن القول أنّ اعتراف الفصل 6 م.ق.خ باختصاص المحاكم التونسية المؤسّس على تواجد القاصر بالبلاد التونسيّة عندما يتعلّق الأمر بإجراء لحمايته، يساعد على تبني هذا الحل لأنّ الإجراء الحمائي قد يتعلّق بنفقة القاصر.
ويمثّل تبنّي مكان إقامة الدّائن بالنفقة كمعيار لإسناد الاختصاص الدّولي في دعاوى النفقة في التشريعات الوضعية وفي الاتفاقيات الدّولية([41]) تطوّرا هاما في اتجاه الاعتراف بخصوصيات هذا النوع من الدّعاوى التي تمسّ الإنسان في حاجياته الاولى والأساسية([42]).
وقد تدعوالحاجة لحماية المتقاضي إلى التساؤل عن إمكانية تأسيس الاختصاص الدّولي للمحاكم الوطنية على الفكرة القائلة بضرورة تلافي إنكار العدالة.
الفقرة الرابعة: تلافي إنكار العدالة
لا ينعقد الاختصاص الدّولي للمحاكم الوطنية إلاّ في الحالات التي تتركّز فيها عناصر الترابط المنصوص عليها بمجلة القانون الدّولي الخاص بالإقليم الوطني. أمّا في الحالات التي لا يمكن فيها تركيز إحدى عناصر الترابط بالإقليم الوطني فيجب على المحاكم الوطنية الإمساك عن النظر في أصل الدّعوى لأنّها غير مختصّة دوليا([43]).
ورغم ذلك فإنّ خصوصية النزاعات الخاصّة ذات الصبغة الدّولية تفرض الإقرار في عديد الحالات بالاختصاص الدّولي رغم عدم توفّر أي عنصر نصّت عليه القواعد القانونية الصّريحة يمكّن من ربط النزاع بدولة القاضي. وقد عمدت المحاكم الفرنسية في ظلّ مبدأ عدم الاختصاص في النزاعات بين الأجانب إلى الحد من هذا المنع. ذلك أنه في صورة عدم وجود أي محكمة أجنبية تقبل باختصاصها للنظر في النزاعات الدائرة بين الأجانب والتي لها علاقة بفرنسا، فإنّ رفض القاضي لاختصاصه سيؤدي إلى خطر إنكار العدالة وإلى حرمان الأطراف من المعارضة بحقوقهم. لذلك قبلت المحاكم الفرنسية باختصاصها إذا كان للنزاع حد أدنى من الترابط مع النظام القانوني الفرنسي، وإذا ثبت أنّه يستحيل رفع النزاع أمام قاض أجنبي. وقد استندت المحاكم الفرنسية في ذلك إلى مفهوم إنكار العدالة([44]).
ورغم تخلي فقه القضاء الفرنسي عن مبدأ عدم الاختصاص في النزاعات التي تهم الأجانب منذ قرار Patinoالصّادر في 21 جوان 1948([45])، بقي مبدأ تلافي إنكار العدالة مرجعا لإقرار الاختصاص الدّولي رغم تقلّص مجال تطبيقه([46]).
أمّا القانون التونسي فلم يعرف مبدأ عدم اختصاص المحاكم الوطنية في النزاعات بين الأجانب، لذلك فلا نجد تكريسا لفكرة تلافي إنكار العدالة في فقه القضاء (حسب علمنا) ولم يرجع لها الفقه في تحليله لنظرية الاختصاص الدّولي للمحاكم الوطنية.
على أنّه واستنادا للمبادئ العامّة للقانون يمكن القول بإمكانية بناء ضابط اختصاص فقه قضائي يتأسّس على مبدأ تلافي إنكار العدالة. وينهض مبدأ تلافي إنكار العدالة بدور ضابط احتياطي للاختصاص الدّولي، يتمكّن من خلاله القاضي الوطني من إعلان اختصاصه للنظر في النزاعات التي يبدو  أن ليس ثمة قاض مختص دوليا للنّظر فيها. فمن المبادئ الأساسية الهامّة التي أقرّتها الأنظمة القانونية الحديثة الحق في التقاضي، ذلك أنّ مفهوم العدالة يفرض أن يجد كل شخص قاضيا يرفع له دعواه أنّ كل منازعة تقتضي إمكانية تعهّدها القانوني من قبل هيئة قضائية([47]).
ويرى الأستاذ FRANCESCAKIS أنّ حماية النظام العام تقتضي القبول باختصاص دولي مؤسس على ضرورة تلافي إنكار العدالة. "فيتدخل مفهوم النظام العام ليسند الاختصاص للمحاكم الوطنية في كل الحالات التي يؤدي فيها الحل المخالف إلى إنكار العدالة نتيجة غياب اختصاص دولي".([48])
ويؤدي أخذ المشرّع الوطني أو فقه القضاء بعين الاعتبار حماية النظام العام إلى سنّ أو استنباط قاعدة اختصاص ثانوية أو جزئية ترتكز على ضرورة تلافي إنكار العدالة([49]).
ولكي تقبل المحاكم الوطنية باختصاصها يجب توفر شرطين: شرط سلبي وآخر إيجابي.
يتعلّق الشرط السلبي بوجود خطر إنكار العدالة([50]). ويفترض إنكار العدالة انعدام الاختصاص العادي للمحاكم الوطنية أي استحالة ربط النزاع بالنظام القانوني التونسي بناء على أحد معايير الاختصاص المنصوص عليها ضمن مجلة القانون الدّولي الخاص.
ويشترط في مرحلة ثانية لاستكمال عنصر إنكار العدالة أن يستحيل على المدّعي الالتجاء إلى محكمة أجنبية([51]). ويعني ذلك أنّه لا يمكن للقاضي الأجنبي أن يقبل باختصاصه بما يصعب معه تعهيد أي محكمة أجنبية بالنزاع. ويمكن أن تكون الاستحالة واقعية ناتجة عن قوّة قاهرة تمنع المّدعي من التنقّل ورفع دعواه أمام القضاء الأجنبي([52]).
كما يمكن أن ينشأ خطر إنكار العدالة من الاستحالة القانونية خاصّة عندما ترفض قوانين البلدان التي يرتبط بها النزاع الاختصاص الدّولي للنظر فيه. ويرى بعض الفقهاء أنّ الاختصاص المؤسس على مفهوم إنكار العدالة يفترض وجود حالة لعدم الاختصاص القضائي المزدوج في جانب المحاكم الوطنية وفي جانب المحاكم الأجنبية([53]).
 وهو ما يجعل الاستحالة القانونية متوفرة في حالة وجود تنازع سلبي للاختصاص القضائي بين المحاكم الوطنية ومحاكم الدّولة التي يرتبط بها النّزاع على أساس إقامة المدّعى عليه بإقليمها مثلا([54]).
ويتثبّت القاضي الوطني من مدى وجود قاض أجنبي مختص بالنّظر في النّزاع بالرّجوع إلى قواعد الاختصاص المباشر للدّول المعنيّة به([55]). ورغم وجود خطر إنكار العدالة وجب توفر شرط إيجابي يتعلّق بمدى ارتباط النزاع بالنظام القانوني الوطني. إذ يشترط لقبول المحاكم الوطنية باختصاصها على أساس ضرورة تلافي إنكار العدالة أن يوجد حد أدنى من الترابط بين النزاع ودولة القاضي المتعهّد به([56]).
على أنّه يمكن تأسيس الاختصاص القضائي الهادف إلى تلافي إنكار العدالة على اعتبارات أصلية وجوهرية تمسّ بالحقوق الأساسية التي يضمنها القانون التونسي والتي تدخل في إطار النظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص التونسي([57]).
ومن بين هذا المبادئ الأساسية التي كرّسها القانون التونسي الحق في المطالبة بالطلاق على قدم المساواة بين الرّجل والمرأة.
وانطلاقا من هذا الترابط يمكن للقضاء أن يقبل اختصاصه بالنظر في النزاعات المنجرّة عن زيجات مختلطة يكون أحد أطرافها وخاصّة الزوج حاملا لجنسية إحدى الدّول التي مازال قانونها يتضمّن أحكاما تخالف مبدأ المساواة بين الرّجل والمرأة والحق في طلب الطّلاق بصفة متساوية.
فإنكار قانون الزوج لحق المرأة في طلب الطّلاق يجعل من محاكم تلك الدّولة تتجه آليا إلى الحكم برفض طلب الزوجة التونسية للطّلاق رغم إقرارها لاختصاصها للنظر في الدّعوى على أساس إقامة المدّعى عليه أو جنسيته مثلا. وينتج عن هذا الرّفض المطلق حرمان الزوجة من ممارسة أحد حقوقها الأساسية.
وانطلاقا من معاينة هذه المعطيات يعلن القضاء التونسي اختصاصه تلافيا لإنكار العدالة لأنّ قبوله النظر في الدّعوى يمكّن الطّرف الذي حرم من حقّه في التقاضي فعليّا ورفع نزاعه أمام محكمة لتبتّ فيه. كما يمكّن في صورة الحال الزوجة من ممارسة حقّها في طلب الطّلاق وبالتالي يكرّس حرّيتها ومساواتها مع الرّجل وهي المبادئ التي يعتبرها القانون التونسي من الخيارات الأساسية التي تغذّي مفهوم النظام العام في القانون الدّولي الخاص.
كما تتدّعم فكرة القبول بتأسيس الاختصاص الدّولي للمحاكم الوطنية بهدف تلافي إنكار العدالة عندما يقع التأكّد من استحالة الاعتراف بالحكم الأجنبي الذي سيصدر في نزاعات الأحوال الشخصية نظرا لتعارضه مع النظام العام الدولي التونسي. وينجرّ عن عدم الاعتراف أو عدم تنفيذ الحكم الأجنبي بتونس وضعيات قانونية غير منطقية.من ذلك الصورة التي يتمّ فيها تطليق المرأة التونسية بالخارج اعتمادا على قانون دولة لا تحترم مبدأ المساواة بين المرأة والرّجل ولا تتمكّن فيها المرأة من الحصول على الاعتراف بوضعيتها الجديدة بالبلاد التونسية نظرا لتخالفها مع النظام العام الدّولي. فيكون قبول القاضي الوطني لاختصاصه للنظر في دعوى الطلاق مكتفيا بإقامة الزوجة المدّعية بالتراب التونسي الحل الوحيد لتلافي إنكار العدالة. ذلك أن تطبيق القاضي الوطني لقاعدة الاختصاص العادية سيؤدّي إلى رفض النظر في الدعوى لعدم الاختصاص لأنّ المدّعى عليه لا يقيم بالإقليم الوطني. وفي نفس الوقت يستحيل على الزوجة طلب الطلاق من القاضي الأجنبي المختص لأن قانونه لا يعترف للمرأة بحقّها في طلب الطّلاق.
ولكنّ اعتماد فكرة إنكار العدالة كسند للاختصاص الدولي يجب أن لا يتجاوز دوره الاحتياطي والثانوي. لذلك يتعيّن على القاضي الوطني التثّبت من شروط الأخذ به.
فإضافة إلى ضرورة معاينة غياب قاض أجنبي يقبل باختصاصه في النزاع أو ما يعادل هذه الوضعية من إنكار للعدالة بسبب وجود قاعدة موضوعية تحرم أحد الأطرف من اللّجوء إلى القضاء لحماية حقوقه الأساسية، ينبغي أن يرتبط النزاع بالنظام القانوني التونسي بأحد عناصره وإن لم تكن مؤثرة. ويهدف هذا الشرط إلى ضمان حدّ أدنى من الترابط الذي يبرّر انعقاد الاختصاص للقضاء الوطني على أساس تفادي إنكار العدالة. غير أنّ الترابط المتحدّث عنه في هذا الإطار لا يشترط فيه أن يكون وثيقا أو كثيفا بدرجة تجعله قادرا على إسناد الاختصاص الدّولي للمحاكم الوطنية. كما لا يشترط أن يكون هذا الترابط منصوص عليه بمجلة القانون الدّولي الخاص كحالة من حالات الاختصاص في النزاع إذ لواشترط ذلك لاكتفى به القاضي الوطني لإعلان اختصاصه الدّولي.إذ يجب عدم إغفال المعطى المتمثّل في أنّ اختصاص القاضي الوطني يتأسّس في هذه الحالة على ضرورة تلافي إنكار العدالة. لذلك يعدّ ضروريا أخذ القاضي بمنهج واقعي لمعاينة تحقق شروط إنكار العدالة. وهو منهج ملموس يقتضي من القاضي الوطني دراسة واقعية لكل حالة تعرض عليه ويتّضح من خلالها أن رفضه لاختصاصه سيؤدي ضرورة إلى علاقات قانونية مضطربة وعرجاء Des situations juridiques boiteuses)). على أنّ الدّعوة لتأسيس اختصاص المحاكم الوطنية بالرّجوع إلى مبدأ تلافي إنكار العدالة لا تبرّر الأخذ بعناصر ترابط مبنية في حدّ ذاتها على فكرة التمييز. فلا يمكن أن تكون الجنسية الوطنية محدّدا للقبول بهذا الاختصاص لأنّ المشرّع التونسي أنكر هذا المعيار في إسناد الاختصاص للقضاء التونسي على المستوى الدّولي.
 كما يمكن القول أن فكرة تلافي إنكار العدالة تنتمي إلى صنف المبادئ العامة للقانون والتي تمتاز بانفتاحها وعالميتها. لذلك ترفض هذه المبادئ التعايش مع المعايير التمييزية. فيبدومن الضروري الاحتكام إلى معايير محايدة لربط النزاع بالنظام التونسي وقبول القاضي الوطني لاختصاصه. ومن بين هذه المعايير إقامة المدّعي بالإقليم التونسي في حالات الزيجات المختلطة المتحدّث عنها سابقا.
فإقامة الزوجة المدّعية بالتراب التونسي يفتح المجال أمامها لطلب الطّلاق من القاضي التونسي الذي سيقبل باختصاصه رغم إقامة المدّعى عليه بالبلد الذي يرتبط به النزاع وذلك تفاديا لإنكار العدالة.
وإقامة أحد أطراف النزاع بالإقليم التونسي مع وجود خطر إنكار العدالة يجعل النظام القانوني التونسي معنيا به باعتباره لا يسمح بتواصل النزاع بما يفرض على جهازه القضائي فضّ هذا النزاع تحقيقا للسلم العام وللعدالة.
وبصفة عامّة يهدف هذا التمشي إلى وضع "ضابط احتياطي بقصد تلافي فكرة إنكار العدالة]بهدف[ فتح الاختصاص للمحاكم ]الوطنية[ متى تعلّق الأمر بخصومة ضالة لا ينعقد الاختصاص بها لأيّة محكمة، شريطة ألاّ تكون هذه الخصومة منبتّة الصلة بالإقليم] الوطني[. ولكنّ هذه القاعدة هي احتياطية، بمعنى أنّه لا يمكن ربط اختصاص المحاكم الوطنية بالاستناد إليها إلاّ إذا لم تكن هناك محاكم دولة أخرى مختصّة"([58]).
تم التطرق في الجزء الأول من هذه الدراسة إلى حالات الاختصاص العادي أو الممكن للمحاكم الوطنية. ولاحظنا أن المشرّع اعتمد في إسناد الاختصاص الدولي العادي للمحاكم الوطنية على عناصر للترابط تمكّن من توطين النزاع بالنظام القانوني الوطني بما يؤهل المحاكم الوطنية للنظر فيه وفصله. ولاحظنا أن الأهداف الرئيسية التي يرمي المشرع إلى تحقيقها من خلال تأهيل المحاكم الوطنية للتعهد بالنزاعات الدولية الخاصة هي أهداف إجرائية بالأساس تخدم مصالح الأطراف.
في المقابل تتعايش إلى جانب حالات الاختصاص العادي جملة من قواعد الاختصاص المتميزة التي تأخذ بعين الاعتبار جملة من الأهداف الأساسية في النظام القانوني لكل دولة حديثة[59].وقد تتراوح هذه الأهداف بين ضرورة حماية مصلحة الدولة في بعض النزاعات وبالدور الذي يضطلع به مبدأ السيادة في مجال الاختصاص القضائي[60] .
وإذا رجعنا إلى المبادئ العامة للقانون الدولي العام فإنه من البديهي الاعتراف لكل دولة بسلطتها في التشريع[61].لكن تدخل القانون الدولي العام، يمنع على الدولة إنشاء قواعد قانونية تخرج عن مجال اختصاصها كما يمنع عليها تشريع قاعدة اختصاص دولي مباشر تؤهل محاكمها للنظر في نزاعات لا ترتبط بصفة جدية بإقليمها[62]. غير أن هذا المنع ليس له تأثير قانوني مباشر نظرا لما تتمتع به الدول من سيادة ومساواة في العلاقات التي تربط بينها بما يجعل المبادئ المذكورة مجرد اقتراحات توجيهية وعقلانية[63] . وإذا كان من البديهي اليوم الاعتراف بطغيان الاعتبارات المتعلقة بالقانون الخاص في تحديد قواعد الاختصاص القضائي والاختصاص التشريعي، فإن ذلك لا يمنع الدولة من الظهور عندما ترى ذلك ضروريا لتتدخّل في النزاع وذلك بفرض تطبيق قوانينها على العلاقات الدولية الخاصة أو بإسناد اختصاص إقصائي عام لمحاكمها[64].
ويهدف هذا التدخل إلى حماية مصالح أساسية للدولة تقتضي إسناد اختصاص إقصائي للمحاكم الوطنية قد يقترن باختصاص القانون الوطني لتنظيم النّراع.
لكن التنظيم الحديث لنظرية الاختصاص الدولي يفرض الانطلاق من مبدأ أساسي يتمثل في استقلال تنازع القوانين عن تنازع الاختصاص القضائي كأساس جوهري للتصور الحالي للقانون الدولي الخاص[65].
لذلك اعتبر الأستاذ "PAUL LAGARDE " الفصل بين الاختصاصين القضائي والتشريعي الحقيقة الأولى للقانون الدولي الخاص[66]. وترجع مبررات هذه الاستقلالية أولا إلى الأهداف الخاصة بكل من قاعدة تنازع الاختصاص القضائي[67]. فبصفة عامة يهدف اختيار القانون المنطبق إلى تحديد القانون الأكثر قدرة على تنظيم النزاع وذلك انطلاقا من الروابط المتينة التي تقوم بين النزاع والقانون المنطبق.و يبدو ذلك واضحا من خلال اعتماد آلية التركيز الموضوعي للعلاقة القانونيّة الدّولية عبر معيار الترابط وهي الطريقة المثلى التي تصلح منذ أعمال الفقيه SAVIGNY كأساس لمادة تنازع القوانين[68]. بينما يهدف اختيار المحكمة المختصة إلى تحقيق هدف إجرائي بالأساس والذي يتمحور حول التنظيم العملي والواقعي للنزاع[69] . وقد أدت هيمنة المعطيات المادية والإجرائية إلى صياغة قواعد الاختصاص الدولي انطلاقا من توسيع قواعد الاختصاص الترابي الداخلي. ويؤكد الفقه في هذا الإطار أن قواعد الاختصاص الدولي تتأسس على نفس الأهداف التي نجدها بالنسبة لقواعد الاختصاص الترابي الداخلي والمتمثلة خاصة في الحفاظ على النظام العام على الإقليم الوطني وضمان رفاهة الأطراف وحسن تنظيم مرفق القضاء[70].
وتتأكد أهمية هذه الأسس التي تحدد وجهة الاختصاص القضائي الدولي من خلال معاينة التطور العام الذي عرفته نظرية الاختصاص الدولي. وقد بينت الأعمال الهامة للفقيه "HOLLEAUX" التطور الذي شهدته نظرية الاختصاص الدولي[71]. ففي مرحلة أولى أدت سيطرة تصور القانون العام إلى تبني نظرية القاضي الطبيعي والتي تعتبر أن القضاء هو  حق ملكي يتمتع به صاحب السيادة بما يجعل القاضي الوطني ضرورة القاضي الطبيعي بالنسبة للوطنيين[72] . ويهدف هذا التصور إلى فرض سلطة الملك وحماية سيادته على رعاياه.
في مرحلة ثانية تطورت هذه النظرية بفضل الدور المتنامي الذي قام به مبدأ اختصاص محكمة مقر المطلوب خاصة بعدما وقع التمييز بين مفهومي المقر والجنسية.
على أن الأهم في هذا التطور التدريجي هو  اختفاء نظرية القاضي الطبيعي لصالح النظرية الثانية. وهو ما مهد لولادة نظرية اختصاص حديثة تستلهم أسسها من الاعتبارات الإجرائية. وتتعلق هذه الاعتبارات خاصة بضمان حسن تسيير مرفق القضاء وتسهيل الالتجاء إلى القضاء بالنسبة للمتقاضين . ويتماشى هذا التطور مع الأسس التي تنبني عليها حالات الاختصاص المختلفة التي تسمح للقضاء الوطني بالنظر في النزاعات الدولية الخاصة. ولقد ظهرت في هذا الإطار عدة محاولات فقهية في مجال البحث عن أسس الاختصاص القضائي الدولي.
ففي محاولة أولى لتحديد الأسس النظرية التي تتأسس عليها نظرية الاختصاص الدولي يرى جانبا من الفقه أنه يمكن إيجاد ثلاثة أسس رئيسية تحدد مجال الاختصاص الدولي للمحاكم.
أساس أول يخضع قاعدة الاختصاص إلي فكرة الولاء الشخصي وهي الرابطة الشخصية القائمة بين السلطة القضائية والشخص الخاضع لها. ويعتبر الاختصاص القضائى المسند على أساس الجنسية تطبيقا لهذا الأساس.
أساس ثاني يفسر الاختصاص القضائي بالخضوع المادي للشخص وللأموال لسلطة الدولة نظرا للتواجد الفعلي للشخص أو للمال على إقليم الدولة المعنية.
وفي الأخير تمثل الاعتبارات المتعلقة بالعدالة والإنصاف ورفاهة الأطراف أساسا لقاعدة الاختصاص القضائي[73]. كما وضع الأستاذ P.LAGARDE حديثا تصنيفا منطقيا للأسس التي تخضع لها في نفس الوقت قواعد تنازع القوانين وقواعد الاختصاص القضائي[74] .وتنقسم أسس الاختصاص الدولي حسب الفقيه المذكور إلى أربعة معايير يمكن أن تشرع لإسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية.
مبدأ التقارب Le Principe de Proximité ، مبدأ السيادة، مبدأ الأفضلية ومبدأ سلطان الإرادة[75].
أما على مستوى التشاريع الوضعية المقارنة، تلقى الاعتبارات المتعلقة برفاهة الأطراف وبالإنصاف والعدالة أكثر اهتماما.
لذلك يتطلب وضع نظام متطور للاختصاص القضائي الدولي الأخذ بهذه الاعتبارات دون إنكار الدور الهام الذي يضطلع به مفهوم مصلحة الدولة ومبدأ السيادة في تحديد مجال الاختصاص الدولي[76].
وتظهر أهمية المعطى المتعلق بالسيادة على مستوى الاختصاص الدولي القضائي من خلال مفهوم الاختصاص الإقصائي.ويمكن مفهوم الاختصاص الإقصائي من إسناد النظر مباشرة للمحاكم الوطنية في حالات محددة وفي نفس الوقت يؤثر على قواعد الاختصاص غير المباشر.
لذلك يجمع الفقه على أن من بين الاعتبارات الهامة التي تبرر وجود اختصاص إقصائي لصالح المحاكم الوطنية ضرورة حماية مصلحة الدولة في بعض النزاعات[77]. فكلما تدخلت الدولة سواء من خلال طبيعة النزاع أو من خلال وجودها كطرف فيه، بات من الضروري الإعلان عن الصبغة الإقصائية لاختصاص المحاكم الوطنيّة للتعهّد بللنزاع[78] .
كما أن تواجد بعض القوانين الأساسية داخل النظام القانوني والتي توصف بقوانين البوليس والتي تهدف إلى حماية مصالح أساسية داخل النظام القانوني للدولة، يرافقه عادة إسناد المشرع لاختصاص إقصائي للمحاكم الوطنية بهدف ضمان نجاعة هذه القوانين.
ويمكن القول أن حماية الأهداف الأساسية التي تتعلق بحماية مصلحة الدولة وبحماية النظام الاقتصادي والاجتماعي ينشأ عنها إسناد المحاكم الوطنية كتلة من حالات الاختصاص القضائي الدولي التي لا تقبل منافسة أي نظام قضائي أجنبي. بما يجعل الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في هذه الحالات اختصاصا إقصائيا.
وفي نفس الوقت تفرض أهمية المواد التي تختص بها المحاكم الوطنية إقصائيا بتراجع مبدأ الفصل بين الاختصاصين التشريعي والقضائي. ذلك أن وجود حالات اختصاص إقصائي تخرج عن الأحكام العادية للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية عادة ما يقترن بإقرار خضوع النزاع لأحكام القانون الوطني[79].
لذلك يقتضي البحث في مجال الاختصاص الإقصائي للمحاكم الوطنية تحديد النظام القانوني لهذا النوع من حالات الاختصاص وذلك من خلال ضبط مميزاته (مبحث تمهيدي).
على أن الهدف الرئيسي من بحث مفهوم الاختصاص الإقصائي يبقى تحديد مجاله ويتم ذلك ضرورة من خلال بيان الحالات المختلفة للاختصاص الإقصائي للمحاكم الوطنية وفهم فلسفتها. وتفيد دراسة معقولية حالات الاختصاص الإقصائي أن المشرع الوطني أسند للمحاكم الوطنية اختصاصا مطلقا في صورة تدخل الدولة أو مؤسساتها في النزاع أي بمعنى أخر نظرا لتعلق النزاع بسيادة الدولة         (مبحث أوّل). كما قد ينشأ الاختصاص الإقصائي القضائي عن القوة الخاصة التي يتميز بها معيار الترابط الذي أسند الاختصاص القضائي للمحاكم الوطنية بما يجعل من الضروري توفير أكثر نجاعة للأحكام الصادرة في هذا المجال (مبحث ثاني).



عن الكاتب

الذخيرة القانونية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الذخيرة القانونية