الذخيرة القانونية

موقع يتعلق بالقانون التونسي

random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

حالات الاختصاص الدّولي المؤسسة على الترابط الموضوعي بين النزاع والنظام القانوني التونسي

حالات الاختصاص الدّولي المؤسسة على الترابط الموضوعي بين النزاع والنظام القانوني التونسي

أسندت مجلة القانون الدولي الخاص مجموعة من الاختصاصات إلى المحاكم الوطنية تقوم أساسا على وجود علاقة ترابط وثيقة بين النزاع الدولي والنظام القانوني التونسي.
ويتضح أن مفهوم التقارب Proximité في معناه الإجرائي والإقليمي[1]، يقف وراء اعتماد المشرع لمعايير للترابط تؤكد على توخّيه منهج التوطين. فيكون إسناد الاختصاص للمحاكم الوطنية نابعا من وجود موضع النزاع أو الحق بالإقليم التونسي.
لذلك يكفي لانعقاد الاختصاص للمحاكم الوطنية أن يقع تركيز أحد عناصر الترابط الموضوعية بالبلاد التونسية وذلك رغم عدم إقامة المدعي عليه بالإقليم الوطني.
ولقد تعرضت الفصول5و6و7 من مجلة القانون الدولي الخاص لحالات الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية القائمة على فكرة الترابط الموضوعي بين النزاع والنظام القانوني الوطني. وتتعلق هذه الحالات بنزاعات المسؤولية التقصيرية(الفقرة الاولى) والعقود(الفقرة الثانية) والمنقولات (الفقرة الثالثة) ونزاعات الملكية الفكرية(الفقرة الرّابعة) والتركات (الفقرة الخامسة) إضافة إلى الاختصاص الدّولي القائم على فكرة ترابط الدعاوى(الفقرة السادسة) .
وتجدر الإشارة إلى أن الحلول المعتمدة ضمن مجلة القانون الدولي الخاص تمثل امتدادا لحالات الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية التي كان ينص عليها الفصل 2 فقرة ثالثة م.م.م.ت[2] والمتعلقة بالدعاوى المرفوعة "ضد الأجنبي المقيم خارج التراب التونسي".
لكن مجلة القانون الدولي الخاص أدخلت تجديدا على النظام السابق في اتجاه مزيد توضيح حالات الاختصاص مع إضافة حالات جديدة.

الفقرة الاولى : نزاعات المسؤولية التقصيرية
يمكن تعريف المسؤولية التقصيرية بأنها الالتزام القانوني بتعويض الأضرار التي يلحقها شخص بآخر لا تربط بينهما علاقة التزام مسبقة[3].أي هي جملة الالتزامات الناشئة عن الجنح وأشباهها[4].
وتفترض الأهمية العملية لنزاعات المسؤولية التقصيرية وضع قواعد خصوصية في مجال الاختصاص القضائي الدولي نظرا لخضوع مادة المسؤولية التقصيرية إلى اعتبارين أساسيين ينبغي التوفيق بينهما[5].
يتعلق الاعتبار الاول بضرورة الحرص على ضمان حسن تنظيم مرفق القضاء. أما الاعتبار الثاني فيقتضي توفير الحماية الكافية للمتضرر بفتح المجال أمامه للمطالبة القضائية بالتعويض.
لذلك يؤدي تفضيل أحد الاعتبارين إلى تبني حلول مختلفة بالنسبة لقواعد الاختصاص الدولي وبالنسبة للخيارات الممنوحة للمتضرر.
كما تتأثر نظرية الاختصاص الدولي في مادة المسؤولية التقصيرية بالمفهوم المعتمد لتحديد مكان "الفعل الضار نظرا لصبغته الجوهرية في توطين النزاع[6].
ويرى الأستاذ [7]POCAR أن تحديد مكان الفعل الضار أو الفعل غير المشروع
(Lieu du fait illicite) كعنصر ترابط مع النظام القضائي المختص يتراوح بين مكان نشأة الفعل الضار وآثاره ومكان حصول الضرر. كما يمكن أن يقع تحديد هذا المكان بصفة خصوصية بالنسبة لبعض الأصناف من الجنح.
وقد كرس المشرع التونسي ثنائية معيار الاختصاص الدولي في مجال المسؤولية التقصيرية معتمدا في ذلك على معيارين لإسناد الاختصاص للمحكم الوطنية،وذلك "بتأسيسه على حالتين وهما مكان وقوع الفعل الضار أو مكان وقوع الضرر"[8] .وينص الفصل 5 م.ق.د.خ. في فقرته الاولى أنه: "تنظر المحاكم التونسية أيضا في دعاوى المسؤولية المدنية التقصيرية إذا ارتكب الفعل الموجب للمسؤولية أو حصل الضرر بالبلاد التونسية." وانطلاقا من نص الفصل 5 تختص المحاكم الوطنية بالنظر في دعاوى المسؤولية التقصيرية في فرضيتين :
 فرضية أو لى : عندما ينشأ الفعل الموجب للمسؤولية على الإقليم الوطني. وهي نفس الحالة التي كان ينص عليها الفصل 2 م.م.م.ت. في فقرته الثالثة (رابعا) حيث تختص المحاكم الوطنية" بالدعاوى المرفوعة ضد الأجنبي المقيم خارج البلاد التونسية : إذا كانت الدعوى ناشئة عن حادثة وقعت بتونس..."
على أن عبارة الفصل5 م.ق.د.خ. تبدوأكثر وضوحا من النص القديم وأكثر اتساعا. إذ تشمل كل الحالات التي يرتكب فيها الفعل المنشئ للمسؤولية بالإقليم الوطني سواء تعلق الأمر بجنحة أو شبه جنحة[9].
ويبرر الاختصاص الدولي المؤسس على حصول الفعل الموجب للمسؤولية المدنية بالإقليم الوطني بضرورة تجميع النزاع بالمكان الذي أرتكب فيه الفعل الضار حيث تسهل عمليات الإثبات وعمل التحقيق في الدّعوى وإجراء المعاينات خاصة إذا كانت الدعوى منجرّة عن مخالفة جزائية[10].
كما تختص المحاكم الوطنية بدعاوى المسؤولية التقصيرية في فرضية ثانية، عندما يحصل الضرر بالبلاد التونسية. فيكون بذلك المشرع التونسي قد وسّع من حالات تعهد القضاء الوطني بنزاعات المسؤولية مقارنة بالقانون القديم نظرا لغياب عنصر مكان نشأة الضرر كسند للاختصاص الدولي في أحكام الفصل2 م.م.م.ت.
ويبدوواضحا أنّ القاعدة الجديدة هي أكثر حماية للمتضرر الذي عادة ما يحتل مركز المدعي في النزاع لأنها وسّعت من إمكانيات قبول المحاكم الوطنية النظر في دعاوى المسؤولية التقصيرية. وتقوم الحماية التي جاءت بها القاعدة الجديدة على اعتبار أن مكان ارتكاب الفعل الضار قد يختلف عن مكان حصول الضرر فعلا.ويقتضي ذلك تمكين الطالب من القيام أمام المحاكم التونسية في صورتي ارتكاب الفعل الضار أو حصول الضرر بالبلاد التونسية. ويكون ذلك اكثر انسجاما مع مقتضيات ومنطوق أحكام المسؤولية المدنية المتجهة أساسا إلى حماية المتضرر"[11].
وتجدر الملاحظة هنا أن الأخذ بمكان حصول الضرر كعنصر لإسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية، يمكّن من توسيع مجال نظر المحاكم التونسية في الحالات التي تتعدد فيها أماكن توطين النزاع حيث ينشأ الفعل الضار بإقليم دولة أجنبية ويحصل الضرر بالبلاد التونسية فينعقد الاختصاص للمحاكم الوطنية على أساس العنصر الأخير[12].
على أنه ينبغي تحديد مفهوم مكان حصول الضرر بصفة دقيقة بهدف ضمان جدية الترابط بين النزاع والنظام القضائي التونسي. وبالاستناد إلى فقه القضاء المقارن، يمكن القول أن مكان حصول الضرر هو  المكان الذي نشأ فيه فعليا الضرر أي مكان الظهور المادي للضرر. لذلك فليس من الضروري أن يكون مكان حصول الضرر هو  المكان الذي يقيم فيه المتضرر[13].
كما يشمل اختصاص المحاكم الوطنية، المستند إلى مكان حصول الضرر أو ارتكاب الفعل الموجب للمسؤولية بالبلاد التونسية، الدّعاوى المباشرة التي يقوم بها المتضرر ضد المؤمن الذي يتحمّل واجب الضّمان في حق المؤمّن له المسؤول عن الفعل الضار[14]. ويرجع ذلك إلى الصبغة التعويضية للدعوى المباشرة التي يرفعها المتضرر مباشرة ضد شركة التأمين التي التزمت بتغطية المسؤولية المدنية للمؤمن له مما يسمح بإخضاعها إلى نفس قواعد الاختصاص القضائي المنظمة لنزاعات المسؤولية التقصيرية.
واستنادا إلى مبدأ امتداد قواعد الاختصاص الداخلي إلى المستوى الدولي فإنه يمكن القول أنه في صورة تعهد المحاكم الوطنية الجزائية بالجرائم المرتكبة بالبلدان الأجنبية عملا بأحكام الفصول 305 و307 مكرر من مجلة الإجراءات الجزائية[15]، فيمكن لها النظر في الدعوى المدنية المرفوعة من قبل المتضرر من تلك الجرائم مهما كانت جنسية الفاعل أو الشريك أو المتضرر دون الالتفات إلى مكان إقامتهم[16]. ذلك أن الفصل 7 م.ا.ج. سمح للمتضرر من فعل إجرامي بالقيام بالدعوى المدنية في آن واحد مع الدعوى العمومية أمام المحكمة الجزائية. وتمثل هذه القاعدة الأخيرة قاعدة اختصاص حكمي داخلي تضبط مجال نظر المحاكم الجزائية[17].
وتجدر الملاحظة أن تطبيق قاعدة الاختصاص في مجال المسؤولية التقصيرية الواردة بالفصل 5 م.ق.د.خ في فقرته الاولى، تؤدي إلى إخضاع النزاع لأحكام القانون التونسي لأن قاعدة التنازع في هذا المجال تسند الاختصاص التشريعي لقانون الدولة التي حصل بها الفعل الضار. لكن وفي صورة اختلاف مكان حصول الضرر عن مكان ارتكاب الفعل الضار الموجب للمسؤولية فيمكن للمتضرر أن يطلب تطبيق قانون الدولة التي حصل بها الضرر لأن المشرع مكّنه من ذلك[18].
ويتماشى الحل الذي أقره المشرع التونسي في مجال المسؤولية التقصيرية مع التشريعات المقارنة التي تبنت بصفة إجمالية نفس الحل. من ذلك أقر الفقه وقفه القضاء في فرنسا مبدأ امتداد أحكام الفصل 46 من مجلة الإجراءات المدنية الجديدة إلى المستوى الدولي حيث يمكن رفع دعاوى التعويض إمّا أمام المحكمة التي ارتكب بدائرتها الفعل الضار أو أمام المحكمة التي حصل بدائرتها الضرر إلى جانب إمكانية رفع النزاع أمام محكمة مكان إقامة المدعى عليه[19].في المقابل اقتصرت اتفاقية بروكسال، المتعلقة بالاختصاص القضائي الدولي داخل الاتحاد الاوروبي،على إسناد الاختصاص في مجال المسؤولية التقصيرية إلى محاكم الدّولة التي ارتكب على إقليمها الفعل الضّار إضافة إلى إبقائها على قاعدة الاختصاص المبدئية القائمة على مكان إقامة المدعى عليه[20].
إن المنهج الذي اعتمده المشرع التونسي والمتثل في تعدد معايير الترابط القادرة على إسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية لم يقتصر على المجال التقصيري بل شمل الالتزامات التعاقدية.
الفقرة الثانية:النزاعات التعاقدية
يتمتع أطراف العقد الدولي بالنسبة لتنازع القوانين بحرية لا مثيل لها في تحديد القانون المنطبق على خلافاتهم التعاقدية.
وتظهر هذه الحرية في خضوع العقد الدولي لمبدأ سلطان الإدارة والذي بموجبه يختار الأطراف القانون المنطبق. "وإذا لم تحدد الأطراف القانون المنطبق يعتمد قانون الدولة التي يوجد بها مقر الطرف الذي يكون التزامه مؤثّرا في تكييف العقد أو مقر مؤسسته إذا كان العقد قد أبرم في نطاق مهني أو تجاري"[21]. وينفرد أطراف العقد الدولي بهذه الحرية.
 ويعتبر العقد دوليا إذا كان لعناصره المتعلقة بإبرامه أو بتنفيذه أو بوضعية أطرافه فيما يخص جنسيتهم أو مقراتهم أو بموضوعه ارتباط بأكثر من نظام قانوني[22].
لكن ليس لهذه الحرية نفس المدى في مجال الاختصاص القضائي الدولي حيث تتقلّص حرية الأطراف نسبيا على هذا المستوى[23]. ويرجع هذا الاختلاف إلى ضرورة التوفيق بين المصالح المختلفة والمتناقضة في بعض الأحيان لمختلف الأطراف المتداخلة في العملية التعاقدية. فمن جهة أو لى يقتضي حسن تنظيم القضاء تعهد المحكمة الأكثر قربا من النزاع بما يوفر القدرة للقاضي على الفصل فيه بطريقة فضلى.كما يقتضي حسن البت في النزاعات التعاقدية إيجاد قواعد للاختصاص القضائي تمكّن من تفادي تشتيت الإجراءات بين محاكم مختلفة. ومن جهة أخرى تقتضي مصلحة الأطراف الإبقاء على حد أدنى من الحرية يسمح لمبدأ سلطان الإرادة أن يقوم بدور فاعل في تحديد القاضي الذي سيعهد له مستقبلا بالنزاعات التي قد تنشأ عند تنفيذ العقد[24].
وتأسيسا على ذلك، أعطى القانون التونسي للأطراف الحرية في مادة الاختصاص القضائي الدولي على مستويين. فيمكن للأطراف الاتفاق على إسناد الاختصاص القضائي لمحكمة معينة للتعهد بالنزاعات التي من الممكن أن تنشأ عن تنفيذ العقد. وفي صورة عدم اعتماد الأطراف لهذا الخيار، تختص المحاكم الوطنية بالنزاعات التعاقدية استناد إلى تنفيذ العقد بالبلاد التونسية.
وينص في هذا الإطار الفصل 5م.ق.د.خ.في فقرته الثانية أنّ المحاكم التونسية تنظر في النزاع "إذا كانت الدعوى متعلقة بعقد نفذ أو كان واجب التنفيذ بالبلاد التونسية ...."
ومقارنة بالأحكام القديمة للفصل 2 م.م.م.ت، شهد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في المجال التعاقدي تقلصا. ذلك أن مجال الاختصاص الدولي للقضاء الوطني في ظل أحكام الفصل 2م.م.م.ت لم يكن مقتصرا على العقود التي نفّذت أو كانت واجبة التنفيذ بالبلاد التونسية بل كان نظر القاضي الوطني يشمل العقود المبرمة بها[25].
وبإقصاء مجلة القانون الدولي الخاص لمكان إبرام العقد كأساس للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية، اعتبر المشرع التونسي أن عنصر إبرام العقد لا يعبر عن قوة الترابط بين النزاع والنظام القضائي التونسي. إذ يمكن القول أن مكان إبرام العقود الدولية التجارية غالبا ما يكون هامشيا[26].كما لا يعبّر هذا المعيار عن الإرادة الحقيقية لأطراف العقد.
ويؤكد اختيار مكان التنفيذ كأساس لإسناد الاختصاص القضائي للمحاكم الوطنية على ضرورة توفير ترابط جدي بين النظام القانوني التونسي والنزاع وهو ما يوفره عنصر تنفيذ العقد باعتباره جوهر العملية التعاقدية.
وفي المقابل يبقى من الضروري تحديد طبيعة الالتزامات التعاقدية التي يعتبر تنفيذها بالبلاد التونسية جالبا للاختصاص الدولي, إذ عادة ما تتضمن العقود الدولية عديد الالتزامات التي تكون واجبة التنفيذ في عديد الدول فإلى أي من هذه الالتزامات يجب الرجوع لتحديد مكان تنفيذ العقد؟
يجب القول أو لا أنه بالرجوع إلى أحكام الفصل 5 م.ق.د.خ في فقرته الثنية يمكن تأسيس الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية استنادا إلى اتفاق الأطراف على وجوب تنفيذ العقد بالبلاد التونسية. وبذلك ينعقد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية بمجرد التنصيص على أن تنفيذ الالتزامات التعاقدية سيتم بتونس. ويبقى اختصاص المحاكم الوطنية قائما رغم عدم مباشرة الأطراف للتنفيذ الفعلي للعقد بالبلاد التونسية[27].
أمّا في صورة قيام الأطراف بمباشرة أعمال التنفيذ بالبلاد التونسية فينعقد الاختصاص بموجب ذلك لصالح المحاكم الوطنية. ولا يطرح تحديد مكان التنفيذ إشكالا كبيرا بالنسبة للعقود التي لا تشتمل إلا على التزام مميز واحد كعقد البيع وعقد المقاولة حيث تختص المحاكم الوطنية في صورة الحال بمجرد تنفيذ الالتزام المذكور بالبلاد التونسية.
لذلك فإن الصعوبة المتعلقة بتحديد مكان تنفيذ العقد تقتصر على العقود المركبة التي تتضمن عديد الالتزامات المحمولة على الأطراف. ويذهب الفقه إلى أنه يمكن تحديد مكان تنفيذ العقد باعتماد طريقتين مختلفتين[28].
تفترض الطريقة الاولى الاعتماد على الالتزام التعاقدي الأساسي الذي يميز العقد. فيقع تأسيس الاختصاص القضائي الدولي بالاستناد إلى مكان تنفيذ الالتزام المميز للعلاقة التعاقدية.
ويعتبر تأسيس الاختصاص القضائي على مكان تنفيذ الالتزام الرئيسي وسيلة لتوحيد الاختصاص الدولي بما يؤهل المحكمة المتعهدة بالنزاع للنظر في كل عناصره[29]. كما يؤدي الاعتماد على مكان تنفيذ الالتزام الرئيسي والمميز إلى تجميع النزاعات التعاقدية أمام محكمة واحدة.

إلاّ أنه تجدر الإشارة إلى الصعوبات التي تعترض تحديد مفهوم الالتزام المميّز للعقد بما يجعل هذا المعيار غير متلائم مع نظرية الاختصاص الدولي. كما يجد مفهوم الالتزام المميز للعقد أكثر مشروعية في مادة تنازع القوانين بوصفه قرينة على اتجاه إرادة الأطراف لإخضاع نزاعاتهم التعاقدية لقانون الدولة التي نفذ على إقليمها الالتزام المميز للعقد. في المقابل لا يتمثل موضوع نظرية الاختصاص القضائي في توزيع الدّعاوى بين مختلف الأنظمة القضائية المعنية بالنزاع التعاقدي[30]. بل أن الأمر يتعلق بتحديد ملامح عنصر الترابط الذي اعتمده المشرّع التونسي لإسناد الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الوطنية في المجال التعاقدي وهي مسألة يحددها القانون التونسي بصفة أحادية[31].

لذلك وقع اقتراح طريقة ثانية لتحديد مفهوم التنفيذ. وتقتضي هذه الطريقة الرجوع إلى الالتزام الذي يكون موضوعا للنزاع الراهن أي الالتزام الذي طرحت بمناسبة المنازعة في تنفيذه مسألة الاختصاص الدولي[32].
وعلى هذا الأساس تكون المحاكم الوطنية مختصة دوليا بالنزاع إذا كان موضوعه متعلقا بالالتزام الذي وقعت مباشرة تنفيذه بالبلاد التونسية. ويعني ذلك أن مكان التنفيذ المعتمد في مجال الاختصاص الدولي يقتصر على الالتزام الذي يكون أساسا للمطالبة القضائية.
وقد اعتمدت محكمة العدل الاوروبية هذا التوجه في تاويل الفقرة الاولى من الفصل الخامس من اتفاقية بروكسال والمتعلق بالاختصاص القضائي في المجال التعاقدي. فأقرت في قرارها الصادر في 6 أكتوبر 1976 أن الالتزام المعتمد في تحديد الاختصاص القضائي الدولي ليس الالتزام المميز للعقد ولا أي التزام ناشئ عن العقد بل هو  الالتزام الذي يكون أساسا للدعوى القضائية[33].
ويستنتج من هذا الموقف أن النزاعات المتعلقة بالثمن وتلك المتعلقة بتسليم الشيء المبيع في عقد البيع مثلا نشأت عن التزامين مختلفين لذلك يجب رفع كل نزاع على حدة أمام المحكمة التي من المفترض أن يتم التنفيذ بدائرة اختصاصها.
وتجدر الملاحظة أن اتفاقية بروكسال المتعلقة بالاختصاص الدولي كرست فقه قضاء محكمة العدل الاوروبية حيث وقع التنصيص صراحة صلب الفصل 5/1 من الاتفاقية على أن الالتزام المقصود في مجال تحديد المحكمة المختصة دوليا بالنزاع التعاقدي هو  الالتزام الذي يمثل أساسا للمطالبة القضائية.
ويشير الفقه إلى سلبيات هذا الحل في صورة تعدد الالتزامات التعاقدية المتنازع بشأنها والتي تكون واجبة التنفيذ في دول مختلفة بما يؤدي إلى تشتت الاختصاص القضائي[34].
ومن الواضح أن تشتت الاختصاص القضائي يؤدي إلى صدور أحكام متناقضة نظرا لاختلاف الأنظمة القانونية التي تنتمي إليها المحاكم المتعهدة بالنزاعات المتعلقة بنفس العقد.
ويبدوأن القانون التونسي يقترب أكثر من هذه النظرية الثانية حيث يتحدث الفصل 5 في فقرته الثانية من م.ق.د.خ عن "عقد نفذ أو كان واجب التنفيذ بالبلاد التونسية".
فيمكن أن نقصي أو لا النظرية الاولى التي مفادها تأسيس الاختصاص على الالتزام المميز للعقد أي الالتزام الذي يمكّن من تمييز عقد عن آخر والذي عادة ما يكون التزاما غير نقدي[35].
إذ لا يمكن أن تحتمل عبارة الفصل 5/2 م.ق.د.خ هذا المعنى الضيق لأن عبارة تنفيذ العقد وردت عامة بما يقتضي أخذها على إطلاقها[36]. لذلك يمكن للمحاكم الوطنية أن تستند إلى كل عملية تنفيذ وقعت مباشرتها بالبلاد التونسية لتأسيس اختصاصها دوليا للنظر في الدّعاوى العقدية.
 كما يسمح الفصل 5/2 م.ق.د.خ بالاستناد إلى الالتزام النقدي للقبول باختصاص المحاكم الوطنية إذا كان واجب الدفع بالبلاد التونسية دون الاقتصار على الالتزام المميز للعقد[37].
في المقابل يبقى من الضروري التأكد من وجود ترابط جدي بين النزاع التعاقدي والنظام القانوني التونسي أخذا بروح النص[38].
ذلك أن الاختصاص الدولي بالنسبة للدعاوى التعاقدية يفترض مسبقا توطين العقد بالإقليم الوطني على أساس عناصر موضوعية تتجسد أساسا من خلال مباشرة التنفيذ بالبلاد التونسية. ويمكّن الترابط المذكور من السماح للمحكمة التونسية المتعهدة بالنزاع بالإلمام بعناصره المختلفة. وهو ما يجعلها قادرة على تقييم مدى احترام الأطراف لالتزاماتهم التعاقدية. كما يهدف المشرع التونسي من خلال إقرار اختصاص المحاكم الوطنية في المادة التعاقدية استنادا إلى عنصر التنفيذ إلى ضمان رقابة القضاء الوطني على العقود التي تنفذ بالبلاد التونسية[39].
ولقد كرست المحكمة الابتدائية بتونس هذا التوجه في قرارها الصادر بتاريخ 29 جوان 2000[40] وذلك في نزاع بين شركة تونسية وشركة فرنسية ناتج عن عقد مبرم بفرنسا التزمت بمقتضاه الشركة الفرنسية بأن "تبيع للشركة التونسية آلة صبّ مركزي وأن تحيل لها حسن الدراية أن معرفتها وخبرتها وأن تكوّن لها الإطارات التي ستشرف على الإنتاج. وهي جملة من الالتزامات المتشابكة والمتنوعة التي نفذت في جزء منها بفرنسا وكان الجزء الآخر واجب التنفيذ بتونس".
واستنادا إلى تنفيذ جزء من التزامات المدعى عليها بالبلاد التونسية قضت المحكمة بقبول اختصاصها رغم أن الالتزام الذي نفذ بتونس لم يكن الالتزام الرئيسي في العقد موضوع النزاع. وتقول المحكمة في هذا الإطار : "(...) وحيث أنه متى كانت هذه الالتزامات التعاقدية واجبة التنفيذ ونفذت بتونس فإن المحاكم التونسية تكون مختصة بالنظر في الدعوى عملا بالفصل 5 فقرة ثانية من م.ق.د.خ ولا يمكن في هذا الإطار قبول ما ذهبت إليه المدعية من تأسيس الاختصاص على قواعد المعاملة بالمثل التي حذفت مع نسخ الفصل 2 م.م.م.ت, وعلى جنسية المدعية التي لم تكن أبدا محددا لاختصاص المحاكم التونسية..."
وقد أقرت المحكمة بذلك اختصاصها متبنيّة مفهوما موسعا لتنفيذ الالتزام ذلك أنها اعتبرت أن عنصر التنفيذ يشمل أيّ التزام دون تقييده بمفهوم معين.
وقد أكدت المحكمة الابتدائية بتونس هذا التوجه الموسع في تحديد مفهوم الالتزام المعتمد لإسناد الاختصاص الدولي وذلك في الحكم المتعلق بمرجع النظر الصادر بتاريخ 13 أكتوبر1999[41]. وقد تعلق موضوع الدعوى من حيث الأصل بمنازعة حول الالتزام بضمان مبيع لكنه كان من الضروري على المحكمة أن تبت في الدفع الإجرائي الذي أثارته المدعى عليها والذي أنكرت من خلاله أهلية المحاكم التونسية للنظر في النزاع. فأجابت المحكمة عن هذا الدفع معتبرة أن دعوى ضمان المبيع تدخل تحت طائلة الدعاوى العقدية الخاضعة لأحكام الفصل 5/2 م.ق.د.خ. ونظرا لمباشرة عملية التنفيذ بالبلاد التونسية أقرت المحكمة اختصاصها للنظر في الدعوى وبالتالي رفضت الدفع بعدم الاختصاص الذي أثارته المدعى عليها.
وقد أكدت المحكمة في حيثياتها "أن المشرع التونسي لم يقبل بمقياس صوري أو ذاتي [لإسناد الاختصاص] وإنما اعتمد مقياس مرجع نظر موضوعي وحقيقي ولا يمكن استثناء واقعة التنفيذ الفعلي للعقد إلا بالتنصيص ضمن الاتفاق على اختصاص محكمة أجنبية (...) وحيث(...) يحق للمحاكم التونسية النظر في الدعاوى المتعلقة بتنفيذ عقد بالبلاد التونسية (...) وحيث والحالة تلك فإنه يتعين رفض الدفع بعدم الاختصاص المثار من قبل المدعى عليها".
واستنادا إلى ما تقدم فإن تحديد مجال الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في الدّعاوى العقدية يفرض على القاضي الوطني ضرورة البحث عن مدى تحقق عنصر الإسناد المتمثل في تنفيذ الالتزام بالبلاد التونسية. وهو ما يفترض معاينة توفر هذا العنصر من طرف القاضي التونسي قبل القبول باختصاصه دوليا مبتعدا بذلك عن كل توسيع مصطنع لاختصاصه. وهكذا تصبح رقابة القاضي على مدى توفر جدية الترابط بين النزاع والنظام القانوني التونسي ضامنا لنجاعة حكمه على المستوى الدولي.
لذلك فكلما انعدم التنفيذ بالبلاد التونسية، أصبح من غير الممكن القبول باختصاص المحاكم الوطنية نظرا لغياب كل علاقة تربط بين النزاع والنظام القانوني التونسي وبات من المنطقي إعلان القاضي لعدم اختصاصه. وهو ما أقرته المحكمة الابتدائية بتونس في قرارها الصادر بتاريخ 21 فيفري 2000[42] في دعوى إبطال جملة من العقود التي أبرمها مورث المدعين قبل وفاته. فرفضت المحكمة النظر في الدعوى لعدم اختصاصها وذلك بعد أن عاينت أن "(...) العقود المراد إبطالها لم تتضمن شرط تعيين المحاكم التونسية بالنظر في النزاعات المتعلقة بها. فضلا عن كون هذه العقود أبرمت في إيطاليا ومتعلقة بمنقولات وعقارات موجودة خارج البلاد التونسية فضلا عن أن تنفيذها تم خارج البلاد التونسية...".
ويتضح من خلال ما تقدم أن عدم تركيز عنصري الترابط المتمثلين في اشتراط التنفيذ بالبلاد التونسية أو التنفيذ الفعلي بها، يؤدي إلى انعدام كل أساس للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية[43]. مما يؤكد أن "المشرع قد كرس في هذا المجال النظرية الموضوعية للالتزام العقدي حيث اعتمد مكان تنفيذ العقد عنصرا للإسناد الذي يقوم عليه اختصاص المحاكم التونسية، مسايرا في ذلك أحدث النظم القانونية المقارنة"[44].
وبالرجوع إلى التشريعات المقارنة، نجد أن أغلبها كرست تصورا موضوعيا للاختصاص الدولي في مجال النزاعات التعاقدية.
من ذلك، مكّن القانون الفرنسي المدعي في النزاع العقدي من خيار بين رفع دعواه إما أمام المحكمة التي يوجد بها مقر المدعى عليه أو أمام المحكمة التي وقع بدائرة اختصاصها الترابي التسليم الفعلي للشيء موضوع التعاقد أو تلك التي وقعت مباشرة الخدمة موضوع التعاقد بدائرتها[45] (Lieu de l'exécution de la prestation de service).
وعملا بمبدأ امتداد أحكام الاختصاص الداخلي الترابي إلى المستوى الدولي، أقر الفقه وفقه القضاء في فرنسا صلوحية القاعدة المذكورة لتنظيم الاختصاص الدولي للمحاكم الفرنسية للنظر في العقود الدولية. لذلك يكفي وجود أحد العناصر المنصوص عليها ضمن الفصل 46 من مجلة الإجراءات المدنية الفرنسية بالإقليم الفرنسي لتكون المحاكم الفرنسية مختصة بالنزاع[46].
كما يمكن تأسيس الاختصاص الدولي للمحاكم الفرنسية في المجال التعاقدي استنادا إلى جنسية المدعي أو المدعى عليه الفرنسية عملا بأحكام الفصلين 14 و15 من المجلة المدنية وذلك دون اشتراط أي علاقة تربط بين النزاع والنظام القانوني الفرنسي تنحدر من جوهر العقد. ويعرف الحل الفرنسي المستند إلى الجنسية الفرنسية لأطراف النزاع نقدا من قبل الفقه نظرا لطبيعته الاستثنائية والمصطنعة[47].
كما اعتمد القانون اللبناني تعدد معايير إسناد الاختصاص الدولي بالنسبة للدعاوى العقدية فأسندت المادة 100 من القانون الجديد للمرافعات المدنية الاختصاص لمحكمة مقر المطلوب ثم إلى المحكمة التي تم إبرام العقد بدائرتها أو تلك التي يجب تنفيذ أحد الالتزامات التعاقدية بدائرة اختصاصها الترابي. ويضيف القانون اللبناني إمكانية أخرى للاختصاص القضائي في المجال التعاقدي تتأسس على فكرة التنفيذ الشامل للعقد. وتجدر الملاحظة أن القواعد المذكورة تتعلق بالاختصاص الترابي الداخلي ولكنها تعرف تطبيقا على المستوى الدولي[48].
كما أفرد القانون اللبناني العقود الدولية بقاعدة خاصة أسند بموجبها الاختصاص الدولي للمحاكم اللبنانية بالنسبة للدعاوى المرفوعة ضد أشخاص غير مقيمين بالإقليم اللبناني ودون اعتبار لجنسيتهم وذلك إذا ابرم العقد بلبنان أو إذا كانت أحد الالتزامات التعاقدية واجبة التنفيذ بالإقليم اللبناني[49].
وفي نفس الاتجاه، أسند القانون المصري الاختصاص للمحاكم المصرية في المجال التعاقدي كلما تعلقت الدعوى بعقد ابرم بمصر أو كان واجب التنفيذ أو نفذ بها وذلك رغم إقامة المطلوب خارج الإقليم المصري[50].
ولئن بدا من أو ل وهلة أن تطبيق قاعدة الاختصاص الدولي المتعلقة بالمادة التعاقدية بديهيا فإن ذلك لا يخلومن صعوبات تتعلق بالأساس بمسالة تحديد معالم هذه المادة.
وتكتسي مسألة التكييف القانوني للنزاع المطروح أمام القضاء أهمية كبرى لتأثيرها المباشر على مجال تطبيق قاعدة الاختصاص الدولي المنصوص عليها صلب الفصل 5 م.ق.د.خ. في فقرته الثانية. ولقد طرحت الصعوبة في القانون المقارن حول تحديد المادة التعاقدية إذ أنه ليس من اليسير الجزم بأن نزاعا معينا يدخل في المجال التعاقدي أم لا[51].
وعلى سبيل المثال يعرف القانوني الفرنسي تذبذبا في المواقف يرجع إلى صعوبة تكييف دعاوى المسؤولية بالنسبة للعقود المترابطة والمتشابكة[52] (Les chaînes de contrats).
فمن جهة يعتبر القانون الفرنسي أن دعوى المسؤولية التي يرفعها مقتني المنتوج ضد صانعه -الذي لا تربطه به علاقة مباشرة- دعوى تعاقدية وبالتالي فهي تخضع في مجال الاختصاص الدولي إلى أحكام الفقرة الاولى من الفصل 5 من اتفاقية بروكسال والتي تسند الاختصاص إلى محاكم الدولة التي نفذ بها الالتزام موضوع الطلب القضائي[53].
ومن جهة أخرى أقصى فقه القضاء الفرنسي التكييف التعاقدي بالنسبة للدعوى التي يرفعها المناول ضد صاحب المشروع نظرا لانعدام الرابطة التعاقدية بين الطرفين[54].
وفي المقابل نفت محكمة العدل الاوروبية الطبيعة التعاقدية للدعوى التي يرفعها مقتني المنتوج ضد الصانع الذي لم يقم ببيع ذلك المنتوج مباشرة[55] وبذلك أخرجت محكمة العدل الاوروبية هذه الدّعاوى من مجال الاختصاص الدولي في المادة التعاقدية.
ويجدر التذكير هنا إلى أن الاختلافات الملاحظة بين مختلف الأنظمة القانونية ترجع إلى المبدأ الأساسي المعمول به في القانون الدولي الخاص والذي يعطي الاختصاص إلى قانون القاضي المتعهد بالنزاع لتحديد معالم النزاع وتكييفه بهدف ضبط عنصر الإسناد الملائم حسب كل صنف قانوني. ويؤدي إدخال النزاع ضمن صنف قانوني محدد إلى تعيين القاضي لقاعدة الاختصاص الوطني التي ستبين مدى ولايته دوليا للنظر في النزاع المطروح عليه.
ولقد طرحت مسألة التكييف في ظل الفصل 2 م.م.م.ت في فقرته الثالثة المتعلقة بالعقود والتي أسندت الاختصاص للمحاكم الوطنية إذا كان العقد قد أبرم بتونس أو نفذ أو كان واجب التنفيذ بها.
وقد تعرض فقه القضاء الوطني –بصفة غير منتظرة- إلى إشكالية تحديد مجال المادة التعاقدية في النزاعات الماسة بالأحوال الشخصية وعلى وجه الخصوص في دعاوى الطلاق[56].
فمن الواضح أن اختيار المشرع التونسي قد وقع في مجال النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية والعلاقات العائلية، على تكريس الاعتبارات الذاتية للأشخاص عند إسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في هذه النزاعات. لذلك لا يطرح مبدئيا تطبيق أحكام الاختصاص الدولي التي تضمنها الفصل 2 م.م.م.ت في فقرته الأولى صعوبة في التأويل. فتختص المحاكم الوطنية بالنظر في نزاعات الأحوال الشخصية في ظل الفصل 2 م.م.م.ت إذا كان المدعى عليه مقيما بالبلاد التونسية.
ويعتبر توطين نزاعات الأحوال الشخصية بالاستناد إلى الاعتبارات الذاتية مبدأ أساسيا تفترضه قواعد العدالة وحسن سير القضاء.
كما أن اختصاص المحاكم الوطنية بالنزاعات العائلية على أساس إقامة المدعى عليه بالبلاد التونسية يكرس احترام حقوق الدفاع[57].
ولكن فقه القضاء عمد إلى إقصاء قاعدة الاختصاص المنطبقة في مادة الأحوال الشخصية بالتحديد بالنسبة لنزاعات الطلاق ليقر في المقابل بصلاحية قاعدة الاختصاص المتعلقة بالدعاوى العقدية لضبط مجال الاختصاص الدولي في هذه المادة. ويرجع هذا التمشي أساسا إلى اعتماد فقه القضاء الوطني على تكييف عقدي للزواج معتبرا أن الطلاق لا يعدوأن يكون فسخا لهذا العقد, ليصل إلى القول بأن دعوى الطلاق هي دعوى ناشئة عن عقد الزواج وبالتالي فهي دعوى عقدية.
وانطلاقا من تكييف دعوى الطلاق بوصفها دعوى عقدية فإنه من المفروض إخضاعها لقاعدة الاختصاص المبينة بالفقرة الثالثة (رابعا) من الفصل 2 م.م.م.ت. وبالتالي يكفي أن يتم إبرام الزواج بالبلاد التونسية ليقع الإقرار باختصاص المحاكم الوطنية دوليا. كما يكفي أن يتم البناء بالبلاد التونسية للإقرار باختصاص المحاكم الوطنية للنظر في دعوى الطلاق على أساس أن ذلك يعتبر تنفيذا لعقد الزواج.
ويعبر بوفاء عن هذا التوجه قرار محكمة التعقيب الصادر في 20 فيفري1964[58]. وفي القضية المنظورة من قبل محكمة التعقيب ابرم الزواج بين الزوجة الفرنسية والزوج التونسي ثم انتقل الزوجان للعيش بفرنسا. ونظرا لسوء التفاهم الذي نشب بينهما، قامت الزوجة برفع دعوى في الطلاق أمام المحاكم الفرنسية وأجاب الزوج بتقديم دعوى معارضة أمام نفس المحكمة فقضت هذه بالطلاق بين الطرفين.
فما كان من الزوج إلا أن رفع دعوى في الطلاق أمام المحكمة الابتدائية بتونس، فأجابت الزوجة بتقديم دفع إجرائي يتعلق بعدم اختصاص المحاكم الوطنية بالنظر في النزاع نظرا لإقامتها بفرنسا. كما دفعت باتصال القضاء الفرنسي بنفس الدعوى والذي أصدر أحكاما إنشائية تمس بالحالة الشخصية للأطراف بما لا يسمح بإعادة النظر في نفس النزاع من قبل القضاء التونسي.
 لكن المحكمة أزاحت الدفوع الإجرائية التي قدمتها المدعى عليها، مقرة باختصاصها عملا بأحكام الفقرة الثالثة من الفصل 2 م.م.م.ت الذي يسند الاختصاص للمحاكم الوطنية بصفة إقصائية إذا تعلقت الدعوى بعقد أبرم بالبلاد التونسية. وبذلك اعتمدت المحكمة تكييفا عقديا للزواج ولدعوى الطلاق في نفس الوقت.
 كما أكدت محكمة التعقيب هذا التوجه في قرارها الصادر بتاريخ 7 ماي 1964[59]. حيث بنت المحكمة اختصاص المحاكم الوطنية في دعاوى الطلاق على أساس تعاقدي. وانطلاقا من الأساس التعاقدي للاختصاص الدولي في مجال الطلاق عاينت المحكمة أن الزواج لم يبرم بتونس، وبأن الزوجة المقيمة بإيطاليا لم تحضر أمام المحكمة بما يجعل من غير الممكن القول بأنها قبلت التقاضي لدى المحاكم الوطنية. لذلك نقضت محكمة التعقيب القرار الاستئنافي المطعون فيه بدون إحالة معتبرة أن عدم اختصاص المحاكم الوطنية يهم النظام العام في هذه الحالة.
وفي قضية ثالثة نظرت فيها محكمة التعقيب[60]، تعلق النزاع بزوجين فرنسيين تزوجا بتونس. ونظرا لانتقال الزوج إلى الخارج قامت الزوجة برفع دعوى في الطلاق أمام المحاكم التونسية. واستنادا إلى أن إبرام الزواج وتنفيذه تمّا بتونس، رفضت محكمة التعقيب الدفع بعدم اختصاص المحاكم الوطنية ثم قضت بإيقاع الطلاق بين الطرفين.
كما دعمت محاكم الأصل التوجه الموسع لاختصاص المحاكم الوطنية في دعاوى الطلاق استنادا إلى التكييف التعاقدي للزواج. من ذلك ما قضت به محكمة الاستئناف بتونس في قرارها الصادر في 12 جويلية 1973[61].
ذلك أنها تبنت التكييف العقدي للزواج مقرة باختصاص المحاكم الوطنية دوليا للنظر في دعوى الطلاق على أساس عنصر الإسناد المنصوص عليه بالفصل 2 م.م.م.ت في فقرته الثالثة المتعلقة بالعقود المبرمة بتونس أو المنفذة بها. وتقول المحكمة في هذا الإطار : "(...)حيث أن الزوج التونسي لما عدل عن تقاضيه لدى القضاء الأجنبي ورجع لقضائه الوطني وطلب مقاضاته لديه ضد زوجته الأجنبية لا يرفض عليه ذلك بل يجاب لطلبه بدون معارضة طبق قانون البلاد. وحيث اقتضى الفصل 2 م.م.م.ت السماح له بالقيام بدعواه بتونس ضد زوجته المذكورة المقيمة بفرنسا إذا كان لها من يمثلها بتونس أو لها بها مقر وأن العقد القائم بين الطرفين نفذ بتونس (...). وحيث أنه لما وقع تنفيذ العقد بتونس وكان المقر الأصلي للزوجة هو  تونس جاز القيام ضدها بالدعوى طبق القانون الوطني رغم قيامها بالخارج".
ويمكن القول إن الإشكالية الرئيسية التي يطرحها هذا الموقف تتمثل في مدى صحة التكييف التعاقدي لدعوى الطلاق.
فإذا أخذنا بالتكييف العقدي لدعوى الطلاق كان من الضروري إخضاعها على مستوى الاختصاص القضائي لأحكام الفصل 2 م.م.م.ت. في فقرته الثالثة (رابعا). أما إذا اعتبرنا أن دعوى الطلاق هي دعوى تتعلق بالحالة الشخصية بات من المتحتم إخضاعها لأحكام الفصل 2 م.م.م.ت في فقرته الاولى والذي يسند الاختصاص للمحاكم الوطنية إذا كان المدعى عليه مقيما بالبلاد التونسية.
وبهدف تحديد الطبيعة القانونية للدعوى المرفوعة أمام المحاكم الوطينة، يجب الرجوع إلى أحكام القانون التونسي نظرا لخضوع المسائل الإجرائية لقانون القاضي المتعهد بالنزاع. وتتأكد هذه القاعدة إذا ما تعلقت عملية التكييف بتحديد مجال الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية وبتاويل القواعد المنظمة له[62].
واستنادا إلى أحكام القانون التونسي، يتجه إقصاء كل تكييف تعاقدي لدعوى الطلاق ويتضح هذا الإقصاء أو لا بمراجعة أحكام أمر 12 جويلية 1956[63] والمتعلق بتنازع القوانين في مجال الأحوال الشخصية. ذلك أن المشرع التونسي صنّف النزاعات المتعلقة بالحالة المدنية وبأهلية الشخص وبالزواج وبحقوق وواجبات الزواج ودعاوى الطلاق والتفريق الجسدي ضمن صنف الأحوال الشخصية[64].
ومن الواضح أن الأمر يتعلق في القانون التونسي بتكييف تشريعي منصوص عليه ضمن قواعد آمرة تلزم القاضي الوطني عند تحديده للطبيعة القانونية للدعاوى المرفوعة أمامه بهدف ضبط مجال ولايته للبت في النزاعات الدولية الخاصة.
وقد تأكد تكييف المشرع التونسي للدعاوى المتعلقة بالطلاق كدعاوى تدخل ضمن الصنف القانوني الكبير المتعلق بالأحوال الشخصية عند إصداره لمجلة القانون الدولي الخاص. حيث حافظ المشرع التونسي على نفس التوجه من خلال توليه تنظيم المسائل المتعلقة بالطلاق ضمن الباب الثالث الذي يتعلق بحقوق العائلة[65].
إن التصنيفات التي اعتمدها المشرع تؤكد إرادته الواضحة في إلزام القاضي الوطني بالرجوع إليها وإلى التكييفات التي تبنتها القواعد القانونية وذلك عند قيامه بعملية الإسناد سواء أثناء تحديد مجال الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية أو أثناء حل مشكلة تنازع القوانين[66].
كما تتدعم عدم وجاهة فكرة التكييف العقدي لمؤسسة الزواج بالرجوع إلى مفهوم التنفيذ الذي يقع الاعتماد عليه في مجال تحديد الاختصاص الدولي في مادة العقود.
فهل يمكن الاعتماد على مفهوم التنفيذ بالنسبة للزواج؟ وهل هناك وجه للتشابه بين مفهوم التنفيذ بالنسبة للزواج والمفهوم المعتمد بالنسبة للعقود التي عادة ما يكون موضوعها التزامات مالية؟
يمكن القول أن البحث عن مكان تنفيذ الزواج باعتباره المكان الذي تم فيه البناء هو  من قبيل "الخطأ القانوني"[67]. فمن الواضح أن نزاعات الطلاق تتعلق أساسا بالأشخاص المعنيين بالطلاق وبحقوقهم الذاتية وبحالتهم المدنية ولا علاقة لها إذن بالنزاعات ذات الصبغة المالية. لذلك فالاعتماد على عنصر إسناد مثل مكان تنفيذ العقد لا يتماشى مطلقا مع مؤسسة الزواج. إضافة إلى أن المصالح التي تكون محل نظر من قبل القضاء في إطار دعاوى الطلاق هي مصالح معنوية بالأساس بما يفقد معه مكان إبرام الزواج أو مكان تنفيذه كل أهمية[68].
كما أكد فقه القضاء التونسي في القرارات المشار إليها أن دعوى الطلاق تنشأ أساسا عن عقد الزواج ويؤدي ذلك ضرورة إلى اعتبار الطلاق أثرا من آثار الزواج.
فإذا كان من الأكيد أن دعوى الطلاق تهدف إلى حل الرابطة الزوجية فإنه من الضروري التأكيد على أنه ليس هناك علاقة سببيه بين الزواج والطلاق. ذلك أن الأمر يتعلق بمؤسستين مستقلتين ومختلفتين. بل وأكثر من ذلك يمكن القول أن المسألة تتعلق بمؤسستين متقابلتين. لذلك لا يمكن تكييف دعوى الطلاق باعتبارها دعوى تعاقدية ناشئة عن تنفيذ العقد[69]. ويرجع ذلك إلى أن دعوى الطلاق لا تجد مصدرها في الزواج بل تجده في القانون الذي يتعهد بتنظيم مؤسسة الطلاق وبضبط إجراءاتها وآثارها القانونية[70]. وتأسيسا على ما تقدم، يمكن القول أن التكييف التعاقدي للزواج إنما يهدف إلى توسيع مصطنع[71] و"تعسفي"[72] للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية.
ويمكن القول أنّ الطبيعة التعاقدية للزواج تتوقف في لحظة إبرامه أي عند الاتفاق على الزواج ومنذ هذه اللحظة يتعهد القانون بتنظيم الزواج وآثاره معتمدا في ذلك قواعد آمرة. وهو ما يؤكد أن الطبيعة المؤسساتية تغلب على الطبيعة التعاقدية في الزواج[73].
كما تختلف الاعتبارات التي يأخذ بها المشرع في مجالي الأحوال الشخصية والعقود. فإذا كان من الطبيعي ترك مجال واسع من الحرية بالنسبة للأطراف في اختيار القانون المنطبق وفي تحديد المحكمة المختصة دوليا بالنزاع التعاقدي، فإنه لا يمكن تصّور تمتع الأطراف بحرية واسعة في المسائل المتعلقة بالحالة المدنية للشخص وبالنسبة لعلاقاته العائلية حيث عودنا المشرع أن يتدخل بالتنظيم الدقيق وبطريقة آمرة [74] في هذه المادة.
وإذا كان من المنطقي أن يعتمد المشرع على الاعتبارات الشخصية لإسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في مجال الأحوال الشخصية على أساس إقامة المدعى عليه بالبلاد التونسية، فإنه من المنطقي أيضا أن يعتمد على طريقة التوطين الموضوعي إذا تعلق الأمر بالأموال وعلى وجه التحديد بالأموال المنقولة.

الفقرة الثالثة : النزاعات المتعلقة بالمنقولات
يكفي وجود المال المنقول على الإقليم الوطني لتأسيس اختصاص المحاكم الوطنية دوليا في النزاعات المتعلقة بتلك المنقولات.
ولقد أسند الفصل 2 م.م.م.ت في فقرته الثالثة (ثالثا) -قبل نسخة –الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في صورة إقامة المدعى عليه بالخارج وذلك عند تواجد المال موضوع النزاع بالإقليم الوطني سواء تعلق الأمر بمنقولات أو بعقارات.
وعلى خلاف النص القديم ميزت مجلة القانون الدولي الخاص بين المنقولات والعقارات في مجال الاختصاص الدولي. إذ أسند الفصل 8 م.ق.د.خ في فقرته الثانية النظر للمحاكم الوطنية وبصفة إقصائية بالنسبة للنزاعات المتعلقة بعقارات موجودة بالبلاد التونسية، بينما يكتسي نظر المحاكم الوطنية بالنسبة للدعاوى المتعلقة بمنقولات موجودة بالبلاد التونسية صفة الاختصاص العادي أو التنافسي.
وينص في هذا الإطار الفصل 5 م.ق.د.خ في فقرته الثالثة على أنه :"تنظر المحاكم التونسية أيضا(...) في النزاعات التي يكون موضوعها حقا منقولا موجودا بالبلاد التونسية".
ويذهب الفقه إلى اعتبار أن الإقرار بالاختصاص الدولي في النزاعات المتعلقة بالمنقولات على أساس مكان تواجدها يعد امتدادا للقاعدة المعمول بها على مستوى الاختصاص الترابي الداخلي[75]. وبذلك تمتد إلى المستوى الدولي أحكام قاعدة الاختصاص الترابي التي تقتضي إسناد الاختصاص الترابي إلى المحكمة التي يوجد بدائرتها المنقول الذي يكون موضوعا للنزاع. ولقد كرس المشرع هذه القاعدة صلب الفصل 36 م.م.م.ت. في فقرته الثانية بأن مكّن المدعي من رفع دعواه في " صورة الدعوى المتعلقة بالمنقول أمام المحكمة التي بدائرتها وجد المنقول المتنازع فيه".
ويرجع إسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في الدعاوى المتعلقة بحق منقول على الارتباط الموضوعي بين النظام القانوني التونسي والمنقول الموجود بالإقليم الوطني[76].
كما يتأسس سند الاختصاص الدولي بالنسبة للمنقولات الموجودة بالبلاد التونسية على فكرة أساسية تقتضي أن تكون المحكمة مختصة بالنزاع كلما كان لها سلطة فعلية على الأموال التي تكون موضوع دعوى قضائية مرفوعة أمامها[77]. ونتساءل عن ملامح الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية المؤسس على وجود المال المنقول بالبلاد التونسية ؟
وتفترض الإجابة عن هذا التساؤل تحديد مفهوم المنقول ثم ضبط نوعية الدّعاوى الخاضعة لسند الاختصاص في مجال المنقولات.
فيما يتعلق بتحديد طبيعة المال موضوع النزاع أي تصنيفه ضمن العقارات أو المنقولات يجب الانطلاق من هدف عملية التكييف المجراة. فإذا كانت عملية التكييف تهدف إلى ضبط مجال الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية، فإن المبدأ الأصولي القائل بخضوع المسائل الإجرائية لقانون المحكمة يؤدي بالضرورة إلى اعتماد القانون التونسي في عملية التكييف القانوني.
في هذا الإطار، يعرف الفصل 14 م.ح.ع. المنقولات باعتبارها "... الأجسام التي يمكن انتقالها من مكان لآخر سواء انتقلت بنفسها أو بمفعول قوة أجنبية عنها ". ويعني هذا الفصل أن المنقولات هي الأشياء المادية التي ليست بطبيعتها عقارات"[78]. كما يدمج القانون التونسي ضمن صنف المنقولات " الالتزامات والحقوق العينية والدعاوى المتعلقة بالمنقول والحصص والأسهم والرقاع في مختلف الشركات وإن كانت هذه الشركات مالكة لعقارات"[79]. ويضاف إلى صنف المنقولات الأموال اللامادية أي المعنوية [80]. واستنادا إلى ما تقدم، فإن النزاعات المتعلقة بالأصول التجارية المستغلة بالبلاد التونسية تدخل ضمن حالة الاختصاص الدولي المنصوص عليها ضمن الفصل 5م.ق.د.خ. في فقرته الثالثة ذلك أن الأصل التجاري يعتبر من قبيل الأموال المنقولة غير المادية[81] .
وتنشأ صعوبة ثانية مرجعها تحديد نطاق الدعاوى الخاضعة للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية على أساس وجود المال المنقول بالبلاد التونسية.
وانطلاقا من عبارة المشرع الذي حصر الاختصاص المتعلق بالمنقولات في "النزاعات التي يكون موضوعها حقا منقولا"، يمكن القول أن إرادة المشرع اتجهت إلى التضييق في مجال اختصاص المحاكم الوطنية وذلك بحصرها في الدعاوى ذات الصبغة العينية بصفة أساسية. والدعوى العينية هي تلك التي تمارس نتيجة وجود حق عيني. وتهدف الدعوى العينية إلى حماية الحق العيني (كحق الملكية أو حق الانتفاع الذي يمارس على المال المنقول)[82].
ويعرف الحق العيني بأنه السلطة القانونية التي تمارس على المال[83]  أو  هو  الحق الذي ينصبّ مباشرة على العين ويعطي لصاحبه الإمكانية للحصول على منفعته الاقتصادية بصفة جزئية أو كلية[84].
وإذا نظرنا إلى الدّعاوى التي تتعلق بالمنقول أو الدّعاوى المنقولة، فإن النزاعات الدولية المتعلقة بمنقول موجود بالبلاد التونسية قد تشمل " الدّعاوى التي القصد منها استحقاق شيء منقول بطبيعته أو اعتبره القانون كذلك[85]. كما يشمل اختصاص المحاكم الوطنية الدّعاوى المستندة إلى تثبيت حق شخصي على منقول[86].إذ تبقى هذه الدعاوى منقولة ولئن تعلقت بحق شخصي على منقول[87].
 وفي المقابل، يبقى من الضروري اعتماد تاويل مضيق لحالة الاختصاص المسندة للمحاكم الوطنية على أساس وجود المال المنقول بالبلاد التونسية. ذلك أن الاختصاص المبدئي في المجال الدولي، يبقى قائما على إقامة المدعى عليه بالإقليم الوطني. كما أن التوسيع المفرط للاختصاص الدولي على أساس تواجد المنقولات بالبلاد التونسية قد يؤدي إلى المساس بالأمان القانوني والذي يفترض بدوره وضوح ملامح الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية[88] حماية لمصالح الأفراد وتوقعاتهم.
وتتدعم وجاهة التضييق في مجال الدعاوى الخاضعة لولاية القضاء الوطني بموجب وجود المال المنقول على الإقليم الوطني بما يلقاه سند الاختصاص المذكور من نقد.
في هذا الإطار، يشير الفقه إلى التأثير المحدود لمكان تواجد المنقولات سواء على مستوى الاختصاص القضائي أو على مستوى القانون المنطبق على النزاع. إذ لا يكفي الاعتماد على مكان تواجد المنقول لتأسيس الاختصاص القضائي نظرا لسهولة تنقله[89]. وعلى هذا الأساس يحافظ القانون الفرنسي على مبدأ اختصاص المحاكم الفرنسية دوليا استنادا إلى وجود مقر المدعى عليه بالإقليم الفرنسي في الدّعاوى العينية المنقولة. ويؤكد ذلك تعامل القانون الفرنسي مع هذه الدّعاوى اعتمادا على نفس المعايير المعمول بها في الدّعاوى الشخصية[90]. لذلك وقع الإقرار بأن المحاكم الفرنسية لا تتمتع باختصاص دولي عادي، إذا كان المدعى عليه مقيما بالخارج رغم وجود المنقول بالإقليم الفرنسي[91].
وفي نفس الاتجاه أقصت اتفاقية بروكسال صراحة في فصلها الثالث إمكانية الاستناد إلى مكان تواجد أموال المدعى عليه لتأسيس الاختصاص الدولي في مواجهة المطلوب. وهو ما يؤكد إخضاع الدّعاوى العينية المنقولة لنفس حالة الاختصاص المؤسسة على مقر المدعى عليه المنصوص عليها صلب الفصل 2 من اتفاقية بروكسال[92]. ويمكن القول أن إسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية اعتبارا لوجود المال المنقول بالإقليم الوطني ليس بديهيا نتيجة ضعف الترابط بين المنقولات والمكان الذي تتواجد فيه[93]. ذلك أن "مكان تواجد المال،لا يعبر ضرورة عن وجود رابطة جدية بين هذا المكان وبعض الأموال كالطائرات والسفن "[94]والتي تمتاز بتنقلها الدّائم.لذلك يبدو  من الوجيه إخضاع هذا الصنف من المنقولات لمعيار إسناد أكثر فاعلية مثل المكان الذي وقعت فيه عملية التسجيل بالنسبة للطائرات والسفن[95].
فإذا اعتبرنا أن اعتماد معيار مكان تواجد المال المنقول على مستوى الاختصاص الترابي الداخلي مشروعا، فإن امتداد هذه القاعدة إلى المستوى الدولي لا يبدو  ضروريا في كل الحالات[96]. ويرجع عدم ملائمة هذه القاعدة على المستوى الدولي إلى سهولة تحرك وتنقل المنقولات بما يجعل الاختصاص الدولي لمحاكم الدولة التي يوجد بها المنقول "واهيا وغير يقيني وخاضعا للصدفة"[97].
ويشير الفقه أيضا إلى صعوبة تحديد مكان تواجد المنقول خاصة في الحالات التي يكون فيها المنقول معدا للانتقال[98]."فيكون مكان تواجد المنقول مجهولا أحيانا أو متعددا أو بكل بساطة هامشيا من ذلك الأموال الموجودة بحالة عبور. وفي النهاية يمكن الحديث عن انعدام مكان التواجد بالنسبة لأغلبية المنقولات غير المادية" [99].
في المقابل يذهب الفقه الكلاسيكي في فرنسا إلى اعتماد مكان تواجد المنقول كضابط من ضوابط الاختصاص القضائي. ويكفي بالنسبة لهذا الموقف وجود المنقول بإقليم دولة القاضي لإعلان اختصاصه حتى في صورة استقرار المدعى عليه بالخارج[100]. ويلجأ أصحاب هذا الرأي لتدعيم حالة الاختصاص المعنية إلى فكرتي سيادة الدولة وترابط الاختصاصين التشريعي والقضائي بالنسبة لمادة الأموال. فمن جهة تقتضي سيادة الدولة، حسب هذا الرأي ،إخضاع المنقولات الموجودة على الإقليم لولاية قضائها الوطني.ومن جهة أخرى، يتدعم الاختصاص القضائي لمحاكم الدولة التي يوجد على إقليمها المنقول باختصاص قانونها عملا بقاعدة التنازع الكلاسيكية التي تقر بولاية قانون مكان تواجد المنقول لتنظيم النزاعات المتعلقة به[101].
وإذا كانت أغلب التشريعات المقارنة قد هجرت حالة الاختصاص الدولي المؤسسة على مكان تواجد المنقولات فإن بعض القوانين المقارنة مازالت تعتمد على عنصر الترابط المذكور لإسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية. من ذلك القانون اللبناني[102] والقانون المصري[103] والقانون الانقليزي[104]. وتتأكد النزعة التوسيعية للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية استنادا إلى مكان تواجد المال المنقول على الإقليم الوطني بمحافظة المشرع التونسي على نفس معيار الترابط بالنسبة للتركات المنقولة.

الفقرة الرابعة: النزاعات المتعلقة بالتركات
أدخلت مجلة القانون الدولي الخاص تجديدا على مجال تعهد المحاكم الوطنية بالنزاعات التي يكون موضوعها التركات[105].
ويكمن هذا التجديد في موضعين: فمن جهة تخلى المشرع التونسي في الفصل 6 (ثالثا) م.ق.د.خ عن معيار الجنسية التونسية كسند لجلب الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية إذا تعلقت الدعوى بتركة مواطن تونسي. ويؤكد هذا الإقصاء لمعيار الجنسية الإرادة الواضحة في عقلنة الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية من خلال التخلي عن المعايير الاستثنائية للترابط بين النزاعات الدولية والنظام القانوني التونسي[106] .
ومن جهة أخرى نظمت مجلة القانون الدولي الخاص الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في مجال التركات بصفة واضحة، متعرضة لحالات الاختصاص في النزاعات المتعلقة بالتركات وهي ثلاث. إذ تتعهد المحاكم التونسية بالنزاع "إذا تعلقت الدعوى بتركة افتتحت بالبلاد التونسية أو كانت مرتبطة بانتقال الملكية بموجب الإرث لعقار أو منقول كائن بالبلاد التونسية"[107] .
وفي المقابل تقتضي قاعدة الاختصاص الترابي الداخلي رفع الدعاوى المتعلقة بالتركة لدى المحكمة التي افتتحت بدائرتها التركة[108]. لذلك توفر مادة التركات فرصة لمعاينة حدود المبدأ الذي مفاده قابلية امتداد أحكام الاختصاص الداخلي الترابي إلى المستوى الدولي. ففي الوقت الذي تبنت فيه التشريعات المقارنة في مجملها مبدأ اختصاص المحكمة التي افتتحت بدائرتها التركة للنظر في الدعاوى المتعلقة بها إجمالا، يعتمد القانون الدولي الخاص قاعدة اختصاص دولي تمييزا أساسيا بين التركات المنقولة والتركات العقارية.فيقع إخضاع النزاعات المتعلقة بالتركات المنقولة لاختصاص محاكم الدولة التي افتتحت بها التركة. بينما ترجع التركات العقارية بالنّظر إقصائيا لولاية محاكم الدولة التي توجد بإقليمها العقارات الإرثية.
على أساس هذا التمييز يسند القانون الفرنسي مثلا الاختصاص الدولي للمحكم الفرنسية في مجال التركات المنقولة إذا افتتحت التركة بالبلاد الفرنسية عملا بأحكام الفصل45 من مجلة الإجراءات المدنية الجديدة، معتبرا أن مكان افتتاح التركة هو  مكان آخر مقر للهالك[109]. بينما يقع الإقرار بالنسبة للتركات العقارية بالاختصاص المطلق لمحاكم الدولة التي توجد على إقليمها العقارات الإرثية[110].
غير أن المشرع التونسي تخلى عن هذا التمييز التقليدي عند توليه ضبط حدود الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في مجال التركات. فتتعدد حالات اختصاص المحاكم الوطنية في مادة التركات بتعدد المعايير التي اعتبرها المشرع كافية لإيجاد ترابط جدي مع النظام القانوني التونسي. وتتمثل عناصر الترابط حسب الفصل 6 (ثالثا) م.ق.د.خ في افتتاح التركة بالبلاد التونسية أو تواجد عقار أو مال منقول إرثي بها. ويتجلى بوضوح من خلال نقاط الارتباط التي اعتمدها القانون التونسي أن إرادة المشرع اتجهت إلى توسيع مجال الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الوطنية في مادة يعتبرها المشرع ذات أهميّة كبرى بما يفرض بسط رقابة القضاء الوطني عليها.
أ-افتتاح التركة بالبلاد التونسية
تبنى المشرع قاعدة أو لى للاختصاص الدولي تتّحد في مضمونها مع قاعدة الاختصاص الترابي، ففي الحالتين يقع الاعتماد على عنصر مكان افتتاح التركة لإسناد الاختصاصين الداخلي والدولي.ذلك أن المحاكم الوطنية تختص بالنظر في النزاعات المتعلقة بالتركة إذا وقع افتتاحها بالبلاد التونسية.وكرس الفصل34 م.م.م.ت نفس الحل بإسناده الاختصاص الترابي في مجال التركات للمحكمة التي افتتحت بدائرتها التركة موضوع النزاع.
 ويعتبر آخر مكان أقام فيه المالك أو آخر مقر له المكان الذي افتتحت فيه تركته.
على خلاف القانون الفرنسي الذي يقصر مجال نظر محكمة مكان افتتاح التركة في الدعاوى المتعلقة بالتركات المنقولة[111]، لم يحدد المشرع التونسي مجال قاعدة الاختصاص المؤسسة على مكان افتتاح التركة. ورغم سكوت المشرع، يبدو  منطقيا أن يتجه العمل القضائي إلى تضييق مجال هذه القاعدة وحصرها في مجال المنقولات الإرثية المتعلقة بتركة افتتحت بالبلاد التونسية. ويؤدي ذلك إلى إقصاء العقارات الموجودة خارج الإقليم الوطني من مجال اختصاص المحاكم الوطنية نظرا لغياب معيار جدي يربطها بالنظام القانوني التونسي . كما أنه في صورة إقرار المحاكم الوطنية باختصاصها للنظر في دعاوى تتعلق بعقارات موجودة بالخارج وذلك بموجب افتتاح التركة بالبلاد التونسية، سيفتقد هذا الاختصاص كل فاعلية باعتبار أن الأنظمة القضائية الأجنبية سترفض إكساء الأحكام الوطنية بالصيغة التنفيذية لمساسها بمجال اختصاصها الإقصائي.
واستنادا إلى معيار افتتاح التركة بالبلاد التونسية تختص المحاكم الوطنية بالتعهد بكل الدعاوى المتعلقة بالتركة وذلك بداية من تاريخ افتتاحها إلى تاريخ قسمة المخلف.
ويشمل اختصاص المحاكم الوطنية في مادة التركات النزاعات القائمة بين الورثة والدعاوى التي يرفعها دائنوالمورث لاستخلاص ديونهم من التركة والدعاوى المتعلقة بتنفيذ الوصية والهبة. وبصفة عامة تنظر المحاكم الوطنية بموجب افتتاح التركة بالبلاد التونسية في جميع الدعاوى المتعلقة بالتصرفات الناقلة للملكية والتصرفات الموظفة إلى ما بعد الوفاة إضافة إلى دعاوى القسمة[112].
ويجد الاختصاص الدولي المؤسس على مكان افتتاح التركة مشروعيته في ضمان تجميع النزاعات المتعلقة بالتركة أمام نفس المحكمة. كما أن مكان افتتاح التركة باعتباره آخر مقر للمورث يفترض فيه أن يكون المكان الذي تتجمع فيه أغلب مكاسب الهالك. إضافة إلى أن هذا الاختصاص يتأسس على قرينة تتمثل في وجود أغلب مديني الهالك في مكان افتتاح التركة[113]. كما أن تعهد محكمة مكان افتتاح التركة يسهل عملية الإثبات لأن الوثائق المتعلقة بالنزاعات الإرثية توجد بهذا المكان [114].
وتجدر الملاحظة أن أساس الاختصاص المسند لمحكمة مكان افتتاح التركة لا يهدف إلى حماية مصالح الورثة بدرجة أو لى بقدر ما يهدف إلى ضمان حسن سير العدالة وذلك لما يوفره هذا الاختصاص من ظروف واقعية تسهل البت في النزاع بطريقة فضلى.
ونظرا لأهمية المعطى المتمثل في مكان تركز عناصر تركة المورث، اعتمد فقه القضاء الفرنسي على مكان تواجد أغلب عناصر التركة لتحديد مكان افتتاحها[115].
على هذا الأساس يتجه توخي منهج واقعي لمعرفة مكان افتتاح التركة لذلك اعتبرت محكمة التعقيب الفرنسية أن تحديد آخر مقر للمورث تبقى مسألة واقعية تخضع للاجتهاد المطلق لقضاة الأصل[116].
ب -وجود العقارات الإرثية بالبلاد التونسية
تختص المحاكم الوطنية بالنسبة للتركات إذا تعلق النزاع بانتقال ملكية عقار بموجب الإرث إذا كان متواجدا بالبلاد التونسية. ويتأسس الاختصاص الدولي في هذه الحالة على مكان تواجد العقار المشمول بالتركة. ويؤكد ذلك قوة الترابط بين العقارات والنظام القانوني التونسي. كما يتدعم هذا الاختصاص بما يوفره من تقارب بين موضوع النزاع والمحاكم الوطنية.
ويتضح على ضوء ما تقدم أن هذه القاعدة ليست إلا تطبيقا جزئيا للقاعدة العامة في مادة الاختصاص القضائي الدولي والتي تقتضي إخضاع المادة العينية العقارية لولاية محاكم الدولة التي يوجد على إقليمها العقار موضوع النزاع[117].
وتجدر الإشارة إلى أن اختصاص المحاكم الوطنية المؤسس على تواجد العقار بالبلاد التونسية ينحصر في مجال النزاعات المتعلقة بتلك العقارات ولا يشمل بقية عناصر التركة التي افتتحت بالخارج. وهو ما يؤكد أن تواجد العقار الإرثي بالبلاد التونسية يمثل سندا مستقلا للاختصاص الدولي ينضاف إلى الحالة التي تكون فيها التركة قد افتتحت بالبلاد التونسية[118].
وتطبيقا لهذه القاعدة، تخرج النزاعات الإرثية المتعلقة بعقار موجود بالخارج عن الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية وهو الاتجاه الذي تبناه فقه القضاء الفرنسي.[119]
في المقابل، ينتج عن قاعدة اختصاص محاكم الدولة التي يوجد بإقليمها العقار الإرثي تجزئة التركة وتشتت عملية تصفية المخلف في صورة تعدد العقارات الإرثية وانتشارها على أقاليم دول مختلفة. ويؤدي هذا الحل إلى تجزئة التركة بما يفقدها وحدتها والتي تستمد من وحدة تناولها القضائي[120].
وقد يساعد القانون المنطبق على الحد من الآثار السلبية الناتجة عن تشتت التركة بين الأنظمة القضائية المختلفة والمتعهدة بالبت في النزاعات المتعلقة بملكية العقارات التابعة للتركة. ويتحقق ذلك من خلال إخضاع انتقال ملكية العقارات الإرثية إلى قانون الدولة التي يوجد بها العقار موضوع النزاع, بما يجعل كل عقار بمثابة كتلة مستقلة خاضعة لقانون دولة القاضي المتعهد بالنزاع وهو الحل الذي أقره فقه القضاء الفرنسي[121].
على أن وحدة الاختصاصين التشريعي والقضائي بالنسبة للعقارات الإرثية لا تجد مكانا لها في القانون التونسي. ويرجع ذلك إلى غياب قاعدة تنازع خاصة بالعقارات الإرثية صلب مجلة القانون الدولي الخاص. حيث ارتأى المشرع التونسي أن يوحد القانون المنطبق على التركة لـ"يخضع الميراث للقانون الداخلي للدولة التي يحمل المتوفي جنسيتها عند وفاته أو لقانون دولة آخر مقر له أو لقانون الدولة التي ترك فيها أملاكا"[122].
ورغم غموض قاعدة التنازع الوطنية بالنسبة للتركات، فإنه يمكن الأخذ بعين الاعتبار القانون الوطني بوصفه قانون مكان تواجد العقار الإرثي. ذلك أن المشرع التونسي لم يهمل تماما قانون مكان وجود المال حيث نص على أن قانون الدولة التي يوجد بها المال يطبق بالنسبة "لتنظيم الحوز والملكية وغيرها من الحقوق العينية"[123].
كما أخضع المشرع "المال المنقول المرسُّّّْم أو المسجل لقانون الدولة التي سجل أو رسم فيها"[124].
و"يخضع إشهار تصرفات التأسيس والحفظ والانتقال وانقضاء الحقوق العينية لقانون الدولة التي يتم فيها القيام بإجراءات الإشهار"[125].
ويمكن أن نستنتج من جملة هذه الأحكام،أن القانون التونسي أعطى مكانة هامة لقانون المكان الذي يوجد به المال بما يعطي إمكانية لتطبيق القانون الوطني بوصفه قانون مكان تواجد المال على العقار الإرثي.وتتحقق بذلك وحدة الاختصاصين التشريعي والقضائي بالنسبة للدعاوى الإرثية المتعلقة بعقار موجود بالبلاد التونسية.
ويطرح الاختصاص الدولي للمحكم الوطنية في الدعاوى الإرثية العقارية إشكالا يتعلق بتحديد طبيعته. فيمكن تصنيف الدعاوى المتعلقة بانتقال ملكية عقار بموجب الإرث موجود بالبلاد التونسية ضمن حالات الاختصاص الإقصائي للمحاكم الوطنية. ويتأسس هذا القول على اتحاد موضوع هذه الدعاوى مع تلك المتعلقة بعقارات موجودة بالبلاد التونسية والتي نص عليها الفصل 8 م.ق.د.خ. ضمن حالات الاختصاص الإقصائي ذلك أن الأمر يتعلق في الحالتين بدعاوى عينية عقارية.
ويتدعم تكييف الدعاوى المتعلقة بعقار إرثي موجود بالبلاد التونسية بوصفها تدخل ضمن حالات الاختصاص الإقصائي للمحاكم الوطنية بالرجوع إلى القانون المقارن[126].إذ تقر العديد من القوانين المقارنة بولاية إقصائية لمحاكم الدولة التي يوجد على إقليمها العقار للنظر في النزاعات الإرثية الناشبة بشأنه[127]. كما يتدعم هذا الموقف بالصبغة الضرورية لاختصاص محاكم الدولة التي يوجد على إقليمها العقار للنظر في كل النزاعات المتعلقة به إضافة إلى أن تنفيذ الأحكام الصادرة في هذا المجال سيتم ضرورة على الإقليم الوطني[128].
وفي المقابل، فإن عدم تعهد المشرع التونسي بتنظيم حالة الاختصاص الدولي المتعلقة بالدعاوى التي يكون موضوعها عقارا إرثيا ضمن حالات الاختصاص الإقصائي يجعل من تصنيف هذه الدعاوى ضمن حالات الاختصاص العادي والتنافسي للمحاكم الوطنية أقرب لعبارة الفصل 6 م.ق.د.خ[129].
ج- وجود المنقولات الإرثية بالبلاد التونسية
أسند المشرع التونسي الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في النزاعات التي تهم انتقال الملكية بموجب الإرث لمنقول موجود بالبلاد التونسية. ويعني ذلك أنه يكفي تواجد منقول بالبلاد التونسية للاعتراف بالاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في النزاعات التي تهم هذا المنقول والذي يدخل في إطار تركة افتتحت بالبلاد الأجنبية.
يجب أن يفهم نص الفصل 6 م.ق.د.خ. على أنه اعترف بسند مستقل للاختصاص الدولي على أساس مكان تواجد المال المنقول التابع لتركة افتتحت بالخارج افتراضا. ذلك أنه لوتعلق الأمر بتركة افتتحت بالبلاد التونسية لما احتاج المشرع إلى التنصيص على هذه القاعدة الإضافية.
ويؤكد اكتفاء المشرع التونسي بعنصر تواجد المنقول على الإقليم الوطني كسند لاختصاص المحاكم الوطنية في النزاعات المتعلقة بالتركات، نزعته إلى توسيع مجال الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في مادة الأموال وذلك بهدف بسط رقابة الدولة عليها كلما وجدت بالبلاد التونسية.
لقد هجر المشرع الوطني، في منحاه هذا، الاتجاهات المعتمدة في القوانين المقارنة والتي تعتمد عادة بالنسبة للتركات المنقولة مبدأ اختصاص محكمة مكان افتتاح التركة دون الالتفات إلى مكان تواجد الأموال المنقولة المكونة للتركة. من ذلك موقف فقه القضاء الفرنسي الذي انطلق من أحكام الفصل 45 من مجلة الإجراءات الفرنسية ليقر بقاعدة اختصاصه دوليا في النزاعات التي تهم التركات المنقولة استنادا إلى افتتاح التركة على الإقليم الفرنسي. وفي المقابل يقع إنكار الاختصاص الدولي بالنسبة للتركات المنقولة إذا ما افتتحت بالخارج ولوفي صورة وجود المنقولات على الإقليم الفرنسي[130] .
كما كرس القانون اللبناني نفس القاعدة على المستوى الدولي حيث ينعقد الاختصاص لفائدة محكمة مكان افتتاح التركة بالنسبة للمنقولات الإرثية دون الالتفات إلى مكان تواجدها[131].
ويؤدي الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية المؤسس على رابطة تواجد المنقول الإرثي على الإقليم الوطني إلى تجزئة التركة نظرا لتعدد المحاكم المختصة دوليا بالنزاعات المتعلقة بالتركة. ويفترض الحل الذي اعتمده المشرع التونسي افتتاح التركة ببلاد أجنبية بما يبرر اختصاص محاكم الدولة التي افتتحت بها التركة، إضافة إلى تعهد المحاكم الوطنية بالنزاعات المتعلقة بالتركة في جانبها الذي يهم المنقولات الموجودة على الإقليم الوطني. وينتج عن ازدواجية التعهد القضائي وجود فرضية جدية لتناقض الأحكام الصادرة عن المحاكم الوطنية من جهة وتلك الصادرة عن المحاكم الأجنبية.
وتزيد هذه الوضعية في تعقيد مسألة حل النزاعات الناشئة عن التركات الدولية بما يقف حاجزا أمام إيجاد حل قضائي عادل لهذه النزاعات. وتؤكد هذه الصعوبات وجاهة النقد الموجه إلى حالة الاختصاص الدولي المؤسسة على مكان تواجد المنقولات نظرا لضعف الترابط بين مكان تواجد المال المنقول والنظام القانوني الوطني. كما أن سهولة تنقل المنقولات تجعل من السهل التحيّل على قواعد الاختصاص القضائي وتوظيفها لصالح الطرف الذي قد يعمد إلى تغيير مكان المنقول بصفة قصدية بهدف جعل المحاكم الوطنية تتعهد بنزاعات ليست لها سوى روابط مصطنعة مع النظام القانوني الوطني[132].
لذلك يمكن القول أن الاختصاص المسند للمحاكم الوطنية للنظر في النزاعات الإرثية استنادا إلى وجود عناصر التركة المنقولة بالبلاد التونسية لا يعبر عن قوة توطن موضوع النزاع بالإقليم الوطني.
ويشير الأستاذ علي المزغني أن حالة الاختصاص الدولي المؤسسة على تواجد المال بالإقليم الوطني ليست بجديدة في القانون التونسي[133]. ذلك أن المشرع، بتنصيصه صلب الفصل 34 م.م.م.ت. على ضرورة رفع الدعاوى المتعلقة بتركة افتتحت بالخارج أمام المحكمة التي بدائرتها جل عناصر التركة، وبإشارته إلى أحكام الفصل 2 (خامسا) م.م.م.ت.، أضاف حالة اختصاص دولي للمحاكم الوطنية تتعلق بالأموال الموجودة بالإقليم الوطني[134].
 وعلى هذا الأساس، يرى الفقيه المذكور أنه بالإشارة صراحة إلى حالة الاختصاص في مجال الأموال صلب الفصل 6(ثالثا) م.ق.د.خ. يسترجع الفصل 34 م.م.م.ت. وظيفته الصحيحة والمتمثلة في تحديد المحكمة المختصة ترابيا على المستوى الداخلي وهي المحكمة التي يوجد بدائرتها جل الأموال التابعة للتركة. على أن الإحالة التي يحتويها الفصل 34 إلى الفصل 2 (خامسا) م.م.م.ت. أصبحت غير ذات موضوع إذ فقدت كل معنى[135] بدخول مجلة القانون الدولي الخاص حيز النفاذ.
 الفقرة الخامسة : النزاعات المتعلقة بالملكية الفكرية
جاء بالفصل 5 م.ق.د.خ. في فقرته الأخيرة أن المحاكم التونسية تنظر "(...) في النزاعات المتعلقة بالملكية الفكرية إذا وقع التمسك بحمايتها بالبلاد التونسية".
ويقتضي تحليل مضمون هذه القاعدة تحديد مفهوم الملكية الفكرية ثم بيان الدعاوى الخاضعة لاختصاص المحاكم الوطنية دوليا في مجال الملكية الفكرية.
أ-مفهوم الملكية الفكرية 
يشمل مفهوم الملكية الفكرية الملكية الأدبية والفنية والملكية الصناعية[136]. ويقصد بالملكية الأدبية والفنية حق الاستئثار باستغلال العمل الفني أو الأدبي ونتائجه المالية المعترف به للفنان أو المؤلف إضافة إلى حقوقه المعنوية[137].
وبصفة إجمالية، تشير عبارة الملكية الأدبية والفنية إلى مجموع الحقوق المالية وغير المالية التي يتمتع بها المبدع[138].
ولضمان حماية كافية للمؤلف، يجب الاعتراف له بحق استئثاري على عمله الفني أو الأدبي. وتخضع هذه الحماية في القانون التونسي إلى القانون المتعلق بالملكية الأدبية والفنية المؤرخ في24 فيفري 1994[139].
أما الملكية الصناعية فيقصد بها من جهة، الحق في احتكار استغلال براءات الاختراع والنماذج والرسوم الصناعية، ومن جهة أخرى الحق الاستئثاري في استعمال الاسم التجاري أو علامة الصنع أو كل علامة قادرة على تمييز التاجر أو الصناعي[140].
وتشمل حقوق الملكية الصناعية براءات الاختراع خاصة. وهو السند المسند من قبل دولة التسجيل إلى المخترع والذي يمكنه من التمتع بحق استئثاري ومؤقت في استغلال موضوع اختراعه مقابل قيامه بجملة من الالتزامات[141].وتفترض حماية حقوق المخترع القيام بجملة من الشكليات الإدارية المرتبطة بالإيداع خاصة [142].
ويتمثل موضوع النماذج والرسوم الصناعية في اكتشاف أشكال جديدة لمنتوجات موجودة مسبقا. ويمكّن نظام النماذج الصناعية صاحبه من حق استغلاله بصفة استئثارية. ويخضع هذا النظام لأمر 25 فيفري 1911 وقانون 24 فيفري 1994 المتعلق بالملكية الأدبية والفنية[143]. أما علامات الصنع والتجارة فهي الشارات "الظاهرة التي تمكن من تمييز المنتجات التي يعرضها أو الخدمات التي يسديها شخص طبيعي أو معنوي. ويمكن أن تتكون [علامة الصنع أو التجارة] من التسميات بمختلف أشكالها... والشارات التصويرية... والشارات الصوتية..." [144].
ويتمثل موضوع علامات الصنع والتجارة في حماية حقوق التاجر أو الصناعي على العلامات المميزة لنشاطه في مواجهة منافسيه[145].
ويطرح السؤال عن حالات تعهد المحاكم الوطنية بحماية هذه الحقوق إذا اكتسى النزاع صبغة دولية.

ب-مجال قاعدة الحماية
تجدر الإشارة إلى أن نزاعات الملكية الفكرية طرحت لمدة طويلة خارج إطار الاختصاص القضائي الدولي وتنازع القوانين.ذلك أنه وقعت معالجة النزعات الدولية الخاصة بالملكية الفكرية على مستوى حالة الأجانب. أي أن حماية حقوق المؤلف أو المخترع ترتبط أساسا بمدى تمتع الأجنبي بنفس الحماية المتوفرة للوطني[146] .
إلا أن تطور القانون الاتفاقي ساعد على توحيد نظام الحماية ليشمل الأجنبي والوطني بنفس الطريقة بما قلص من مفعول قاعدة المعاملة بالمثل ووسع من مجال حماية الملكية الفكرية[147]. كما ساهمت الصبغة الإقليمية للقوانين المنظمة للملكية الصناعية في تطوير نظام حماية صاحب الاختراع[148] .
ويمثل إقرار المشرع لقاعدة خاصة بحماية الملكية الفكرية على مستوى الاختصاص الدولي القضائي نقطة إيجابية في اتجاه تفعيل هذه الحماية على المستوى الدولي " وهو ما يبرز حرص المشرع التونسي على مواكبة التطور الحاصل في مجال نسق المعاملات الاقتصادية العصرية والتي أضحت الملكية الفكرية أحد أهم عناصرها"[149] .
على أن عمومية العبارة التي جاء بها الفصل 5 (رابعا) م.ق.د.خ. لا تعني أن حالة اختصاص المحاكم الوطنية تشمل كل النزاعات المتعلقة بالملكية الفكرية. لذلك يمكن القول إن اختصاص المحاكم الوطنية المؤسس على الفصل 5 (رابعا) م.ق.د.خ. لا يشمل إلا الدعاوى الشخصية الخاصة بحماية حقوق المؤلف أو المخترع[150] .
وتأسيسا على ما تقدم، يجب إقصاء نوعين من النزاعات من مجال اختصاص المحاكم الوطنية المؤسس على الفصل 5 (رابعا) م.ق.د.خ.
اولا: لا تدخل في إطار الفصل 5 م.ق.د.خ النزاعات المتعلقة بالتسجيل وبصحة براءات الاختراع والحقوق الفكرية الخاضعة للإيداع أو التسجيل. ويرجع هذا الإقصاء إلى تدخل المرافق العامة الإدارية المختصة بالإيداع والتسجيل في هذا المجال بما يضفي على هذه النزاعات صبغة خاصة تجعلها خاضعة للاختصاص القضائي الإقصائي لمحاكم الدولة التي تمت فيها تلك العمليات[151] .
ثانيا : لا تشمل حالة الاختصاص القضائي المنصوص عليها صلب الفصل 5 (رابعا) م.ق.د.خ. النزاعات التعاقدية الناشئة عن الحقوق الفكرية. ذلك أن أصحاب الاختراعات أو المؤلفين يمكنهم إبرام عقود موضوعها إحالة حقوق الاستغلال والاستعمال.
ونظرا للصبغة التعاقدية للنزاعات الناشئة عن هذه العقود، فهي تدخل ضمن حالة الاختصاص الخاصة بالمادة التعاقدية[152]. فتختص المحاكم الوطنية بالعقود الدولية المتعلقة بالملكية الفكرية إذا نُفِّذَت الالتزامات الناشئة عنها أو كانت واجبة التنفيذ بالبلاد التونسية (الفصل 5 (ثانيا) م.ق.د.خ.) أو بموجب شرط تعاقدي أسند لها الاختصاص للنظر في هذه النزاعات (الفصل 4 م.ق.د.خ.) .
لذلك يمكن القول إن مجال الفصل 5 (رابعا) م.ق.د.خ. ينحصر في الدعاوى التي يرفعها صاحب الحق في الملكية الفكرية لحماية حقوقه من التصرفات التي يقوم بها الغير والتي تهدد حقوقه[153] .
وفي هذا الإطار يجعل القانون الفرنسي من الدعاوى المتعلقة بتقليد براءات الاختراع أو تقليد علامات الصنع دعاوى تقصيرية بحتة بما يخرجها من دائرة النزاعات المتعلقة بالمرفق العام[154]. ويؤدي ذلك إلى إخضاع الدعاوى المتعلقة بالتقليد لأحكام الاختصاص الدولي العادي.
كما يتبنى القانون اللبناني نفس الموقف معتمدا على نفس المعايير المنظمة للاختصاص الترابي الداخلي في مجال المسؤولية التقصيرية[155] .
ويبدوأن المشرع التونسي قد تبنى نفس الموقف صلب الفصل 5 (رابعا) م.ق.د.خ. بما يجعل تعهد المحاكم الوطنية بالدعاوى الهادفة إلى حماية الملكية الفكرية ينشأ عن انتهاك حقوق المؤلف أو المخترع الذي تمت معاينته بالبلاد التونسية.
لذلك يمكن اعتبار أن نشأة الفعل الضار على الإقليم الوطني هو  سند الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية. ويعني ذلك أن الترابط المعتمد بالنسبة لضبط الاختصاص الدولي في مجال دعاوى حماية الملكية الفكرية هو  نفس الترابط المعمول به بالنسبة للوقائع القانونية والمتمثل في مكان ارتكاب الفعل الضار  (Le for delicti commissi). ويتأكد الاختصاص القضائي لمحاكم الدولة التي وقع المساس على إقليمها بحقوق المؤلف أو المخترع على مستوى القانون المنطبق حيث يوفر قانون القاضي المتعهد أو القانون المحلي الحماية المطلوبة[156] باعتباره القانون المنطبق على النزاع.
وإذا كان اختصاص القاضي الوطني مؤسسا على فرضية ارتكاب الفعل المخل بحقوق الملكية الفكرية بالبلاد التونسية وبصفة عامة على معاينة المخالفة للتشريع المتعلق بالملكية الأدبية والفنية أو الملكية الصناعية بها فإن ذلك يعني أنه لا يشترط أن ينشأ الحق المطلوب حمايته بالبلاد التونسية.
لذلك لا يمثل القيام بإجراءات التسجيل أو الإيداع بالبلاد التونسية بالنسبة لبراءات الاختراع أو علامات الصنع شرطا لقبول القاضي الوطني باختصاصه إذ يكفي أن يعاين هذا الأخير أن عملية التقليد تمت على الإقليم الوطني.
كما أنه لا يشترط لقبول الدعوى التي يرفعها المؤلف لحماية عمله الأدبي أو الفني أن تكون البلاد التونسية مكان أو ل نشر لذلك العمل[157].
فرغم أهمية إجراءات التسجيل والإيداع والنشر بالنسبة لحقوق الملكية الفكرية، فإن الهدف الرئيسي من إقرار المشرع لحالة اختصاص قضائي تتأسس على فكرة حماية هذه الحقوق هو  دعم مبدأ قبول القاضي الوطني لاختصاصه دون اشتراط القيام بالإجراءات الإدارية الخاصة بهذه المادة بالبلاد التونسية. فارتكاب الفعل الماس بحقوق المؤلف أو المخترع على الإقليم الوطني، يجعل من طلب حماية هذه الحقوق من القاضي الوطني أمرا مشروعا.
الفقرة السادسة: الترابط La connexité
يقصد بالترابط الوضعية التي يعاين فيها وجود ترابط وثيق بين طلبين قضائيين غير متماهيين، بما يجعل من حسن سير العدالة التحقيق والقضاء فيهما في نفس الوقت وأمام نفس الهيئة القضائية تفاديا لصدور أحكام متناقضة في نزاعات متصلة[158]بصفة شديدة.
ويطرح التساؤل بالنسبة للنزاعات الدولية الخاصة حول مدى إمكانية تأسيس الاختصاص الدولي على وضعية الترابط التي تجعل من القاضي المتعهد بالنزاع الأصلي مختصا بالنظر في نزاع ثان تجمعه بالاول علاقة جدية؟
لقد أجاب القانون التونسي وبصفة مستمرة بقبول الترابط كسند للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية. فأقر الفصل 2 (سادسا) م.م.م.ت. أن المحاكم التونسية تنظر في الدعوى المقامة ضد الأجنبي المقيم خارج التراب التونسي "... إذا كانت للدعوى صلة بقضية قائمة أمام القضاء التونسي..."
وبذلك أقر المشرع صراحة باختصاص المحاكم الوطنية بالدعوى إذا كانت مترابطة بدعوى منشورة أمام القضاء الوطني[159] .
ولقد استقر المشرع على هذا الحل عند إصدار مجلة القانون الدولي الخاص حيث جاء بالفصل 7 م.ق.د.خ. "تنظر المحاكم التونسية في الدعاوى التي لها ارتباط بقضايا منشورة لدى المحاكم التونسية".

أ- مجال قاعدة الاختصاص
يسمح الترابط للمحاكم الوطنية المختصة بالنظر في الدعوى الأصلية بالتعهد بالدعوى المترابطة رغم خروج هذه الأخيرة عن مجال الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية.ذلك أنه لوقدمت الدعوى المترابطة بصفة أصلية للمحاكم الوطنية لخرجت عن ولايتها لأنها لا تندرج ضمن حالات الاختصاص الدولي المنصوص عليها في مجلة القانون الدولي الخاص.
لذلك يمكن القول إن الترابط يحقق توسيعا في مجال الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية وذلك بجلب نزاعات دولية أمام القضاء تخرج مبدئيا عن ولايته. ويتحقق هذا التوسيع التشريعي للاختصاص نتيجة للصلة الوثيقة والجدية بين الدعوى الأصلية والدعوى المترابطة[160] .
ويسمح الترابط بتحقيق هدف رئيسي وهو تجميع النزاعات المتصلة أمام هيئة قضائية واحدة[161]. بذلك يقع تفادي تشتيت العناصر والأشخاص المرتبطة بالنزاع الأصلي أمام الأنظمة القضائية المختلفة[162].
كما يمكّن الترابط بوصفه سندا للاختصاص القضائي من اقتصاد الإجراءات وتسهيلها على المتقاضين إضافة إلى التقليص من تكاليف التقاضي. وبصفة عامة يخدم الترابط غاية قصوى تتمثل في ضمان حسن سير القضاء بما يوفره خاصة من فرص لضمان تناسق الحلول القضائية وتفادي إصدار أحكام متناقضة[163] .
ويُمكن القول إن قاعدة الاختصاص المنصوص عليها بالفصل 7 م.ق.د.خ. هي قاعدة اختصاص فرعي نشأت بموجب انعقاد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية للنظر في دعوى أو لى بصفة أصلية. لذلك يمكن أن يستند الاختصاص الدولي للنظر في الدعوى الأصلية إلى كل عناصر الإسناد المنصوص عليها صلب مجلة القانون الدولي الخاص سواء كانت ذاتية أو موضوعية ليمتد بصفة فرعية إلى الدعاوى المترابطة. وعلى هذا الأساس يمكن للمحاكم الوطنية المتعهدة بنزاع أصلي مهما كان موجب تعهدها أن تعلن اختصاصها بالنظر في دعوى مترابطة مع الدعوى الأصلية. ويبدوهذا الحل وجيها لأن تعهد المحاكم الوطنية بالدعوى الفرعية يتأسس على توطن النزاع الأصلي بالنظام القانوني الوطني خاصة وأن القانون التونسي لا يعرف معايير اختصاص استثنائية قد تمنع من تطبيق قاعدة الاختصاص الفرعي المؤسسة على فكرة الترابط.
على أنه لا يكفي لقبول الترابط، كضابط للاختصاص القضائي الدولي، أن توجد دعوى أصلية خاضعة للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية، إذ يشترط توفر حد أدنى من الترابط بين الدعوى الأصلية والدعوى المترابطة بما يمكّن من إكساء الاختصاص الفرعي للمحاكم الوطنية صبغة جديّة.
وتجدر الملاحظة أن متانة العلاقة وجديتها لا تعني اشتراط وحدة الموضوع بين الدعوى الأصلية والدعوى المترابطة أو وحدة في السبب بينها[164] .
ويقتضي إقرار القاضي الوطني -في إطار تعهده بدعوى أصلية- بتوسيع اختصاصه ليشمل الدعاوى المترابطة أن يقوم بالتحقق من وجود علاقة الترابط. ويتم ذلك من خلال التأمل في العلاقات القائمة بين الدعويين الأصلية والفرعية. ويمكن القول أن التثبت من وجود علاقة الترابط يخضع للاجتهاد المطلق لقضاة الأصل ولقد ذهب فقه القضاء الفرنسي في هذا الاتجاه مكرسا السلطة التقديرية التي يتمتع بها قاضي الأصل في تقدير مدى توفر عناصر الترابط المؤسسة لاختصاصه الدولي الفرعي[165].
غير أن محكمة التعقيب على مستوى القانون الداخلي أقرت رقابتها على مدى توفر شروط الترابط بما يجعل موقفها يتجه أكثر إلى التقليص من السلطة التقديرية لقضاة الأصل في تقدير عناصر الترابط[166] .
غير أن رقابة محكمة التعقيب على مدى توفر شروط الترابط يجد مشروعية أكثر على المستوى الدولي لأن القول بوجود الترابط أو بإنكاره له تأثير مباشر في هذه الصورة على الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية وهي مسألة قانونية تدخل رقابتها في إطار الوظيفة العادية لمحكمة التعقيب.
وتطرح فكرة الترابط عديد الإشكاليات من أهمها تحديد طبيعة العلاقة القائمة بين قاعدة الاختصاص الفرعي المؤسسة على فكرة الترابط والتوسيع الاختياري للاختصاص. ويرجع هذا التساؤل إلى إمكانية التنازع التي قد تنشأ عند وجود شرط يتعلق بالاختصاص يتعارض مع إمكانية إسناد الاختصاص للمحاكم الوطنية على أساس الترابط. يجب الإشارة أو لا إلى أن المشرع التونسي لم يتعرض إلى هذه المشكلة ولم يقر حلا يغلب به قاعدة الاختصاص المؤسسة على فكرة الترابط على تلك المستندة إلى إرادة الأطراف.
لكن يمكن القول أن قبول المشرع التونسي لإمكانية اتفاق الأطراف على إسناد الاختصاص القضائي لمحكمة أجنبية رغم انعقاد الاختصاص لصالح المحاكم الوطنية نتيجة تنفيذ العقد بالبلاد التونسية أو اشتراط تنفيذه بها[167] يستنتج منه اعتراف القانون التونسي بإمكانية إقصاء اختصاص المحاكم الوطنية رغم توطن النزاع الأصلي بالنظام القانوني التونسي.لذلك فمن باب أو لى وأحرى أن يقع تغليب الاختصاص الاختياري على قاعدة الاختصاص المستندة إلى فكرة الترابط. ويرجع هذا الحل إلى أن الدعوى التي تكون موضوع تنازع بين قاعدة الاختصاص الناتجة عن الترابط وتلك المؤسسة على إرادة الأطراف، لا تتصل بالنظام القانوني التونسي إلا بسبب الترابط أي نتيجة اتصالها بدعوى أصلية منشورة أمام القضاء التونسي.ذلك أنها تخرج مبدئيا عن مجال الاختصاص القضائي للمحاكم الوطنية لوطرحت أمامه كدعوى أصلية. كما أن اتفاق الأطراف على تعيين محكمة تختص بنظر النزاعات الناشئة عن علاقاتهم التعاقدية يؤكد وجود قرينة عامة بأن إرادة الأطراف انصرفت إلى إقصاء جميع حالات الاختصاص الدولي العادي للمحاكم الوطنية ومن ضمنها قاعدة الاختصاص المؤسسة على فكرة الترابط[168]. وبذلك يقع تقديم مبدأ ضرورة احترام إرادة الأطراف، التي أقرها المشرع كسند لسحب الاختصاص عن المحاكم الوطنية، على الاعتبارات المتعلقة بتجميع النزاعات وباقتصاد الإجراءات[169]. ويتدعم هذا الموقف بالرجوع إلى القانون المقارن حيث يتجه فقه القضاء الفرنسي إلى تغليب الشرط المسند للاختصاص على قواعد الاختصاص الفرعي[170].
في هذا الإطار، أقرت محكمة التعقيب الفرنسية في قرار مبدئي[171] أن الغير الذي وقع إدخاله في القضية يمكنه المنازعة في اختصاص المحكمة المتعهدة بالدعوى الأصلية تجاهه استنادا إلى وجود شرط مسند للاختصاص. كما اعتبرت محكمة التعقيب الفرنسية أن الفصل 333 من مجلة الإجراءات المدنية لا ينطبق على المستوى الدولي, ويقتضي الفصل 333 من مجلة الإجراءات المدنية أن الغير الذي وقع إدخاله في قضية أصلية بموجب دعوى الضمان لا يمكنه منازعة اختصاص المحكمة المتعهدة استنادا لوجود شرط مسند للاختصاص.
كما اعتبرت محكمة العدل الاوروبية، في تاويلها لاتفاقية بروكسال المتعلقة بالاختصاص القضائي وآثار الأحكام، أن الاتفاقات المسندة للاختصاص والمبرمة وفق الفصل 17 من الاتفاقية تقصي القواعد المنصوص عليها بالفصل6 والمتعلقة بالاختصاص الفرعي (تعدد المطلوبين ودعاوى الضمان والإدخال)[172].
وإذا كان المبدأ العام في القانون الدولي الخاص هو  أن التوسيع الإرادي للاختصاص القضائي يعلوعلى قواعد الاختصاص الفرعي المؤسسة على فكرة الترابط، فإنه يجب أن نستثني من مجال هذا المبدأ الفرضية التي تكون فيها الطلبات الأصلية والفرعية أو العارضة غير قابلة للتجزئة[173].
فعدم إمكانية تجزئة الدعوى الأصلية عن الطلبات العارضة يؤدي إلى استحالة النظر في الدعوى الاولى دون الثانية بما يجعل من الضروري الحكم فيهما معا[174].
لذلك ورغم وجود اتفاق موسع لاختصاص محكمة أجنبية فيما يتعلق بالدعوى المترابطة، فإن عدم التجزئة يؤدي إلى تغليب قاعدة الاختصاص الفرعي وبالتالي توسيع اختصاص المحكمة الوطنية بموجب الترابط[175] ليشمل الدعوى المترابطة.
وتمتاز وضعية عدم التجزئة بوحدة في الموضوع بين الدعويين الأصلية والعارضة وما يمكن أن ينجر عن ذلك من تناقض في الأحكام لووقع الفصل بين الطّلبات القضائية. واستنادا إلى ما تقدم أقر فقه القضاء الفرنسي بإقصاء الشرط المسند للاختصاص إذا وجدت وضعية عدم تجزئة بين الدعوى الأصلية وطلب إدخال الغير[176].
كما ينتج عن وضعية استحالة التجزئة، امتداد اختصاص المحاكم الوطنية بسبب الترابط ليشمل المطلوب الثاني الذي وقع استدعاؤه أمام المحكمة التي يوجد بدائرتها مقر المطلوب الاول وذلك رغم وجود اتفاق بين الطالب والمطلوب الثاني يسند الاختصاص لمحكمة أجنبية[177]. وهو ما أقره فقه القضاء الفرنسي معطيا الاولوية للاعتبارات المتعلقة بتجميع النزاعات المترابطة في صورة عدم قابليتها للتجزئة[178].
وتجدر الإشارة إلى أن القانون القضائي الدولي التونسي يمتاز باعترافه صراحة بالترابط كسند عام للاختصاص القضائي الدولي. فلم يكتف المشرع بالتنصيص على بعض الحالات المنفردة للترابط بوصفها جالبة للاختصاص القضائي للمحكمة المتعهدة بالدعوى الأصلية وهو الاتجاه الذي سار عليه محرِّرُواتفاقية بروكسال المتعلقة بالاختصاص القضائي وآثار الأحكام في إطار الاتحاد الاوروبي ذلك أن هذه الاتفاقية لم تشمل إلا حالات محددة وجزئية للترابط يمكن على أساسها تجميع نزاعات مختلفة أمام نفس الهيئة القضائية[179].
أما في القانون الفرنسي، ونظرا لغياب نصوص خاصة بمادة الاختصاص الدولي، اعتمد فقه القضاء الفرنسي على أحكام مجلة الإجراءات المدنية ليقبل بتوسيع اختصاصه على المستوى الدولي للنظر في الدعاوى المترابطة والتي تخرج عن مجال اختصاصه مبدئيا[180] . وتجدر الإشارة إلى أنه بمناسبة الدعاوى العارضة والفرعية أقرت محكمة التعقيب الفرنسية مبدأ اِِمتداد قواعد الاختصاص الترابي الداخلي إلى المستوى الدولي لتكون سندا لنظرية الاختصاص القضائي الدولي[181] .
ويقترب القانون المصري من القانون التونسي بتعرضه بصفة واضحة لمسألة الترابط كسند عام للاختصاص الدولي للمحاكم المصرية[182].ويجمع الفقه المصري على أن مشروعية توسيع الاختصاص القضائي تأسيسا على ترابط الدعاوى تكمن في ضمان وحدة الخصومة وحسن سير العدالة ومنع تضارب الأحكام[183].
ب- التطبيقات الخصوصية :
يمكن أن يمتد اختصاص المحاكم الوطنية على أساس الترابط إلى حالة تعدد المطلوبين والمسائل الاولية والتوقيفية والطلبات العارضة.
1- تعدد المطلوبين
إذا شملت الدعوى عديد المطلوبين، امتد اختصاص المحاكم الوطنية دوليا إلى هؤلاء بموجب الترابط. فيكفي أن ترفع الدعوى ضد المطلوب الذي يقيم بالبلاد التونسية دون اشتراط أن يكون بقية المطلوبين مقيمين بالبلاد التونسية.
ولقد استند فقه القضاء الفرنسي على أحكام الفصل 42 فقرة ثانية من مجلة الإجراءات المدنية الفرنسية لتأسيس اختصاصه الدولي تجاه المطلوبين الذين لهم مقرات بالخارج إذا كان لأحدهم مقر بالإقليم الفرنسي[184].
ولسنا في حاجة بالنسبة للقانون التونسي للرجوع إلى أحكام الفصل 30 فقرة ثانية م.م.م.ت. الذي مكن المدعي، في صورة تعدد المطلوبين، من رفع دعواه أمام المحكمة التي بدائرتها مقر أحدهم. ذلك أن الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في صورة تعدد المطلوبين يتأسس بصفة صريحة على أحكام الفصل 7 م.ق.د.خ. الذي مكن من توسيع اختصاص المحاكم الوطنية على المستوى الدولي بموجب الترابط. لذلك يكفي توفر علاقة وثيقة بين الطلبات المرفوعة ضد المطلوبين لينعقد الاختصاص لصالح المحكمة الوطنية التي تعهدت نظرا لوجود مقر أحدهم بالبلاد التونسية.
وبحثا عن عدم توسيع الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية بصفة اعتباطية، يفترض أن يكون المطلوب، الذي أسندت إقامته بالبلاد التونسية الاختصاص الدولي ،طرفا حقيقيا وجديا له علاقة وطيدة بالنزاع[185] . لذلك يتجه إقصاء مبدأ توسيع اختصاص المحاكم الوطنية تجاه المطلوبين غير المقيمين بالبلاد التونسية إذا كان الهدف من مقاضاة الطرف المقيم بالبلاد التونسية التحيل على قاعدة الاختصاص واستغلالها لسحب بقية المطلوبين من ولاية محاكم دول إقامتهم[186] ومقاضاتهم بصفة مفتعلة أمام القضاء الوطني.
ويتماشى هذا الحل مع فلسفة مجلة القانون الدولي الخاص التي كرست ضرورة توفر علاقة جدية بين النظام القضائي الوطني مع النزاع لإسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية. ولا يشترط أن يتأسس اختصاص المحاكم الوطنية على إقامة أحد المطلوبين بالبلاد التونسية ليمتد لبقيتهم إذ يمكن أن يستند اختصاص المحاكم الوطنية إلى أحد المعايير الأخرى كتنفيذ العقد بالبلاد التونسية أو ارتكاب الفعل الضار بها فيكون ذلك موجبا لقبول توسيع اختصاص القاضي الوطني ليشمل بقية المطلوبين. ذلك أن ضرورة تجميع النزاعات تلقى مشروعية في كل حالات الاختصاص[187] .ويعني ذلك أنه يمكن للمحاكم الوطنية أن تقبل النظر في الطلبات الموجهة ضد عديد المطلوبين استنادا إلى بقية معايير الاختصاص الدولي الواردة بمجلة القانون الدولي الخاص.
خلافا لهذا الاتجاه، أقر فقه القضاء الفرنسي في تاويله لاتفاقية بر وكسال أنه لا يمكن أن يمتد اختصاص المحكمة المتعهدة بالنزاع إلى بقية المطلوبين إلا إذا تأسس اختصاصها المبدئي على وجود مقر أحدهم ببلاد القاضي المتعهد [188].
2- المسائل الاولية والتوقيفية
يمكن للمدعى عليه في إطار دعوى أصلية أن يثير دفوعا تخرج عن اختصاص القاضي المتعهد بالدعوى[189]
واستنادا إلى المبدأ العام المعمول به في قانون الإجراءات والذي يقتضي أن قاضي الدعوى هو  قاضي الدفع( Le juge de L'action est le juge de l’exception) يمكن للقاضي المتعهد بالنزاع الأصلي أن يقبل اختصاصه بالنظر في مسألة أو لية، تخرج عن اختصاصه لورفعت أمامه بصفة مستقلة.[190]
ويرجع الإقرار بتوسيع اختصاص القاضي المتعهد ليشمل المسائل الاولية إلى ضرورة الفصل في المسألة الاولية لكي يتمكن القاضي من البت في النزاع الأصلي[191].
وانطلاقا من أحكام الفصل 7 م.ق.د.خ. يمكن للمحاكم الوطنية المتعهدة بدعوى أصلية تدخل في اختصاصها الدولي أن توسع مجال نظرها لتبت في كل المسائل الاولية التي يثيرها الأطراف كلما كانت هذه المسائل مرتبطة بالدعوى الأصلية بما يفرض إقرار اختصاص المحاكم الوطنية للنظر في هذه المسائل.ولا يقف أمام إقرار القاضي الوطني باختصاصه للبت في مسألة أو لية ، إذا اقتضت ذلك ضرورة الفصل في الدعوى الأصلية ، أن تكون هذه المسألة راجعة إلى الاختصاص الإقصائي للقاضي الأجنبي[192] . أما القول بخلاف ذلك فيؤدي إلى تطويل الإجراءات وإيقاف النظر في الدعوى الأصلية ودعوة الأطراف إلى رفع المسألة أمام القاضي الأجنبي وانتظار حكمه فيها .
كما أن اختصاص القاضي الوطني نتج عن الترابط الوثيق بين المسألتين الأصلية والاولية حتّى وإن كانت هذه الأخيرة خارجة عن اختصاصه الدّولي وتابعة للاختصاص الإقصائي للقاضي الأجنبي. وهو ما يفرض على المحاكم الوطنية إعلان عدم اختصاصها بهذه المسألة ورفض النظر فيها في صورة التعهد بها في شكل دعوى أصليّة ومستقلة.
واعتمادا على نفس المنهج ، يمكن للقاضي الوطني في إطار تعهده بنزاع أصلي دولي أن ينظر في مسألة توقيفية كأن ينظر في مسألة توقيفية أثارها الأطراف تتعلّق بشرعيّة قرار إداري صادر عن سلطة أجنبيّة أو في مسألة تتعلّق بجنسية أجنبية تهم أحد الأطراف[193]شريطة أن يكون امتداد نظره إلى المسألة التوقيفية ضروريا للفصل في الطلب الأصلي .
لكن تعهد القاضي الوطني بصفة عرضيّة بمسألة توقيفية يقتضي توفر شرطين أساسين . الشرط الاول بديهي يتعلّق بوجود دعوى أصليّة منشورة أمام القضاء الوطني ويختص بها عملا بأحكام القانون الدولي الخاص التونسي.
أمّا الشرط الثاني فيفترض أن يكون حل المسألة التوقيفية المثارة أمام القاضي الوطني ضروريّا ولازما للفصل في الدّعوى الأصليّة[194]. ذلك أن اختصاص القاضي الوطني بالمسألة التوقيفية ليس إلا اختصاصا فرعيّا ناتجا عن وضعيّة الترابط التي عاينها بين الدعوى الأصليّة والمسألة الفرعيّة . وهو ما يدعوالقاضي الوطني إلى التثبت الرّصين من توفر شروط الترابط ورفض النظر في المسألة التي لا تعنيه[195] عند قيامه بوظيفته القضائية .
3- الطلبات العارضة
تدخل الطلبات العارضة ضمن حالة الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنيّة المؤسّسة على فكرة الترابط التي جعل منها الفصل 7 م.ق.د.خ. سندا مستقلا للاختصاص القضائي الدولي.
وتشمل الطلبات العارضة دعوى المعارضة وهي التي يقوم بها المدعى عليه بقصد" الدفاع لرد الدعوى الأصلية أو المقاصة أو طلب غرم الضرر المتسبب عن النازلة"[196] . كما يدخل في إطار الطلبات العارضة طلب التداخل الإرادي أو الإدخال الجبري للغير بوصفه ضامنا أو بهدف سحب آثار الحكم الذي سيصدر عليه[197]. وتجدر الملاحظة إلى أنه رغم خروج الطلبات العارضة عن مجال الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية إذا رفعت في شكل طلبات أصلية فإن ارتباطها بالدعوى الأصلية التي يختص بها القاضي الوطني يجعله مؤهلا للبت فيها[198]. لذلك أقر فقه القضاء الفرنسي بقدرة المحكمة المتعهدة بالنزاع الأصلي على النظر في الطلبات العارضة سواء كانت طلبات إضافية أو معارضة أو طلب إدخال جبري. وقد استند فقه القضاء الفرنسي في ذلك إلى أحكام الإجراءات المدنية الداخلية [199]. وعلى هذا الأساس يمكن قبول طلب التداخل الجبري الذي يقدّمه المدعى عليه بهدف إدخال الغير بموجب واجب الضمان المحمول عليه سواء كان مصدرا لضمان قانونيا أو إراديا حتى ولئن كان الغير مقيما بالخارج[200]. ويبقى من الضروري التثبت من وجود علاقة الترابط الكفيلة بإسناد الاختصاص القضائي للمحاكم الوطنيّة في مجال الطلبات العارضة . ذلك أنّ الهدف المنشود من وراء توسيع اختصاص القضاء الوطني هو  تجميع النزاعات التي ترتبط ببعضها بطريقة تجعل من حسن القضاء البت فيها برمّتها وأمام نفس المحكمة تفاديا لتناقض الأحكام وتصادمها .
على أن تحقيق الأهداف المذكورة ، لا يجب أن يقف حائلا دون رفض القاضي الوطني النّظر في دعوى الضمان أو التداخل الجبري إذا تبيّن له أن رفع النّزاع إليه لم يكن إلا نتيجة للتحايل الذي قام به الأطراف على أحكام الاختصاص بنية إخضاع الغير بصفة مصطنعة لولاية القاضي الوطني واستبعاد اختصاص القاضي الأجنبي .
لذلك استثنت اتفاقية بر وكسال الاوروبية( المتعلّقة بالاختصاص الدولي وتنفيذ الأحكام ) من مجال اختصاص المحكمة المتعهدة بالدعوى الأصلية بطلبات الضمان  أو التداخل الجبري الحالة التي يكون فيها الهدف من تلك الطلبات إبعاد الغير عن ولاية قاضيه الطبيعي [201] وهو حل محمود لأنه يفتح المجال أمام القاضي للتثبت من مدى جدية الدعوى المقدمة إليه.
في المقابل ،قد يتخلى المشرع عن طريقة التوطين الموضوعي للنزاعات الدولية الخاصة وذلك عندما يتخذ من قاعدة الاختصاص القضائي وسيلة لتحقيق الحماية القضائية اللازمة لبعض الأطراف الضعيفة أو ذات الحاجيات الخصوصية.

عن الكاتب

الذخيرة القانونية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الذخيرة القانونية