الفقرة الثانية : الاختصاص المؤسس على إرادة الأطراف
اعترفت مجلة القانون الدولي الخاص لإرادة
الأطراف بدور هام في تأسيس الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية. ويمكن لهذه الإرادة أن
تسند الاختصاص للمحاكم الوطنية بصفة صريحة فتتخذ شكل شرط مسند للاختصاص (أ) كما
يمكن أن يكون توسيع الاختصاص الدولي ضمنيا نابعا من قبول المدعى عليه التقاضي أمام
المحاكم الوطنية (ب).
أ
ـ التوسيع الإرادي لاختصاص المحاكم التونسية
فمن جهة أو لى، يتمثل موضوع الاتفاق
المتعلق بالاختصاص في إسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية للنظر في نزاع في غياب
أساس للاختصاص منصوص عليه صلب مجلة القانون الدولي الخاص أي أن المحاكم الوطنية ستنظر
في نزاع خارج عن ولايتها مبدئيا.
وقد عبر الفصل 4 م.ق.د.خ عن هذا الأثر
الموسع لاختصاص المحاكم الوطنية بقوله: "تنظر المحاكم الوطنية في النزاع إذا عينها
الأطراف" . فيمكن إذن للأطراف باتفاق مشترك تعيين المحاكم الوطنية وتوسيع
اختصاصها. فيكون بذلك أساس الاختصاص المعترف به للمحاكم الوطنية إراديا بحتا[2].
ومن جهة ثانية، يهدف اتفاق الاختصاص إلى
إقصاء ولاية المحاكم الوطنية وإسناد النظر في النزاع إلى محكمة أجنبية.
في الحالة الاولى، يسمّى الاتفاق توسيعا
إراديا للاختصاص وفي الحالة الثانية استثناء لقواعد الاختصاص القضائي[3].
ويلاحظ أن توسيع مجال الاختصاص المحاكم
الوطنية يؤدي عادة إلى تقليص مجال اختصاص المحاكم الأجنبية وذلك بإقصاء حالات
اختصاصها للنظر في النزاع وفقا لمعايير الترابط التي نصت عليها تشريعات الدول
المعنيّة. بينما يهدف إقصاء اختصاص المحاكم الوطنية إلى إسناد الاختصاص الدولي لمحاكم
دولة أجنبية[4].
ويطرح التوسيع الإرادي للاختصاص الدولي أسئلة
تتعلق أو لا بكيفية تكييف إرادة الأطراف القادرة على تعيين المحكمة التي ستتعهد
بنزاعاتهم وبمدى مشروعية الالتجاء إلى الشرط الموسع للاختصاص. كما يجب تحديد القانون
المنطبق على الشرط الموسع للاختصاص وضبط آثاره.
1
- تكييف إرادة الأطراف كأساس لإسناد الاختصاص
يرى جانب من الفقه أن إرادة الأطراف لا
تعدوأن تكون سوى مجرد استثناء يطرأ على القواعد العادية للاختصاص[5].
فلا تشكل إرادة الأطراف، حسب هذا الموقف، أساسا مستقلا ومحددا للاختصاص القضائي
لأنّ إرادة الدّولة والتي تتجسّد في القانون أو في المعاهدات هي الأساس الوحيد لإقرار
الاختصاص القضائي[6].
في المقابل، يرى الفقه الحديث أن إرادة
الأطراف تمثل سند مستقلا للاختصاص القضائي الدولي[7].
والقول بأن إرادة الأطراف تشكل أساسا مستقلا للاختصاص القضائي لا يتعارض في شيء مع
إرادة الدولة. بل إن إرادة الدولة ذاتها تقف وراء تكريس إرادة الأطراف كأساس
للاختصاص القضائي.
ويعتبر الإقرار بدور إنشائي للإرادة في
مجال الاختصاص القضائي الدولي تكريسا لمبدأ سلطان الإرادة. فيتحول مبدأ سلطان الإرادة
في هذا المجال إلى عنصر ترابط قادر على تبرير الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية[8].
ويتم القبول بإرادة الأطراف كأساس
للاختصاص الدولي داخل الحدود التي رسمتها الدّولة والتي تقبل التوسيع الإرادي للاختصاص
القضائي سواء كان ذلك لصالح محاكمها أو لصالح محاكم أجنبية.
وتؤدي إرادة الأطراف، في هذا المجال،
إلى توسيع اختصاص المحاكم الوطنية خارج حدود اختصاصها المرسومة مسبقا من قبل القانون
الوطني.
2
- مشروعية الاتفاق على الاختصاص الدولي
إن استعمال الأطراف للشرط المسند
للاختصاص يعني الاتفاق على رفع النزاع إلى محاكم الدولة المعنية عند نشأته[9].
ويؤكد ذلك أهمية هذا النوع من الاتفاقات، ذلك أن المحاكم التي أسند إليها النظر في
النزاع ستؤسس اختصاصها على هذا الشرط، إذا قبلت أن تعطيه فاعلية.
وبانعدام هذا الشرط، لا يمكن مبدئيا
للمحاكم الوطنية النظر في النزاع اعتمادا على القواعد التشريعية المنظمة للاختصاص
الدولي للمحاكم الوطنية. ويرى الفقه أن الشرط المسند للاختصاص الدولي يمثل عملا توقعيا
يساهم في تقليص الغموض الذي يحكم مادة الاختصاص الدولي والذي يؤدي بدوره إلى تعدد
الأنظمة القضائية التي من الممكن أن تقبل النظر في النزاع[10].
كما يمكّن الشرط المسند للاختصاص الدولي
الأطراف من اختيار النظام القضائي الأمثل للنظر في النزاعات التي ستنشأ بينهم عند تنفيذ
العقد أو بسبب تاويل بنوده.
وقد أقر المشرع التونسي ضمن الفصل 4 من
مجلة القانون الدولي الخاص بصفة صريحة مشروعية الاتفاق المبرم بهدف إسناد الاختصاص
الدولي للمحاكم الوطنية. وقد وسع المشرع التونسي بذلك مجال تطبيق الحل الذي كان ساريا
قبل دخول مجلة القانون الدولي الخاص حيز النفاذ.
وتجدر الملاحظة أنّ الفصل 2 م.م.م.ت. في
فقرته الثالثة كان يقبل بالتوسيع الإرادي لاختصاص المحاكم التونسية فقط[11].
ويقتصر الحل القديم على المدعى عليه الأجنبي وغير المقيم بالبلاد التونسية. ويمكن
أن يكون إسناد الاختصاص للمحاكم الوطنية بالنسبة للمدعى عليه الأجنبي ضمنيا إذا لم
يثر عدم اختصاصها قبل الخوض في الأصل. فيعتبر ذلك قبولا منه للتقاضي أمامها. كما
يكون قبول اختصاص المحاكم التونسية صريحا إذا اتخذ شكل اتفاق يتعلق بإسناد الاختصاص
القضائي[12].
لذلك يمكن القول أن الفصل 4 م.ق.د.خ. أقر
الحل التشريعي القديم لكن بتوضيحه وتوسيع مجال تطبيقه. ويتمثل توضيح الحل التشريعي
القديم في الاعتراف بصفة صريحة بإمكانية إسناد الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم
الوطنية وذلك في شكل شرط مسند للاختصاص. أما التجديد الذي جاءت به مجلة القانون الدولي
الخاص فيكمن في التخلي عن اشتراط الجنسية الأجنبية للمدعى عليه[13].
إذ جاءت عبارة الفصل 4 م.ق.د.خ. عامة دون تمييز بين الأجنبي والوطني.
أما في القانون الفرنسي، فيقع الاعتراف
بإمكانية تأسيس الاختصاص الدولي على إرادة الأطراف. لذلك يمكن أن ينشأ الاختصاص
الدولي عن الاتفاق المشترك للأطراف الذي بموجبه يتم توسيع اختصاص المحاكم الداخلية[i].
وفي المقابل، واجه الفقه الفرنسي مسألة
مدى مشروعية الاتفاقات الموسعة للاختصاص عند إصدار مجلة المرافعات المدنية الجديدة
سنة 1975 والتي منع فصلها الثامن والأربعين كل اتفاق من شأنه أن يخالف بصفة مباشرة
أو غير مباشرة قواعد الاختصاص الترابي. فطرح السؤال عن وجوب تطبيق هذا المنع على المستوى
الدولي[ii].
إلا أن محكمة التعقيب الفرنسية رفضت
امتداد المنع المتعلق بالاتفاق حول الاختصاص القضائي إلى المستوى الدولي[14].
واعترفت بذلك بمشروعية الشروط الموسعة للاختصاص الدولي إذا تعلق الأمر بنزاع دولي شريطة
أن لا يمس الاتفاق بقاعدة آمرة للاختصاص الترابي لمحكمة فرنسية[15].
وقد أقرت محكمة التعقيب الفرنسية
بمشروعية الاتفاق المسند للاختصاص الدولي حتى إذا أدى إلى تغيير قواعد الاختصاص
الترابي الداخلي كلما كان هذا التغيير نتيجة حتمية لتغيير قواعد الاختصاص الدولي[16].
وتبقى إمكانية إسناد الاختصاص الدولي بموجب
إرادة الأطراف رهينة توفر شرطين أقرتهما محكمة التعقيب الفرنسية في قرار SORELEC[17].
فمن جهة يجب أن يكون النزاع ذا صبغة دولية. ذلك أنّ الفصل 48 من مجلّة المرافعات المدنيّة الفرنسيّة يمنع الشروط المسندة
للاختصاص في المجال الداخلي.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار أن القانون التونسي
يقر بإمكانية الاتفاق حول الاختصاص الترابي بالنسبة للنزاعات الدّاخليّة لذلك فلا يمكن
اعتبار وجود نزاع دولي شرطا ضروريا للإقرار بمشروعيّة الشرط المسند للاختصاص في القانون
التّونسي[18].
ومن جهة أخرى اشترطت محكمة التعقيب الفرنسية
في قرار 17 ديسمبر 1985 أن لا يخالف الاتفاق قاعدة اختصاص ترابي آمرة. ويرى الفقه
الفرنسي أنه من الصعب تبيان ملامح هذا الشرط[19].
وبغرض تحديده، ينطلق الفقه الفرنسي من فكرة أو لى مفادها أن الصبغة الآمرة لقاعدة الاختصاص
الداخلي يجب أن لا تمتد بصفة آلية إلى الاختصاص الدولي الذي يبقى خاضعا إلى اعتبارات
خاصة به[20].
وتجسيدا لهذا الشرط، يقصي القانون الفرنسي
من دائرة التوسيع الإرادي للاختصاص القضائي النزاعات التي ليس فيها للأطراف حرية التصرف
في حقوقهم. من ذلك مثلا تعتبر الاتفاقات المسندة للاختصاص الدولي غير مشروعة
بالنسبة للنزاعات المتعلقة بالحالة الشخصية وبأهلية الأشخاص وبكل ما يتعلق بالعلاقات
العائلية التي تخرج عن مجال الذمة المالية : relations de
famille extrapatrimoniales)
(Les [21].
وفي المقابل لا نجد في مجلة القانون الدولي
الخاص تنصيصا على ما يمكن اعتباره اختصاصا آمرا. كما أن القانون التونسي يجهل مفهوم
الاختصاص الترابي الآمر. وتأسيسا على هذا المعطى، يذهب الأستاذ علي المزغني إلى التأكيد
على اتساع مجال إمكانية التوسيع الإرادي للاختصاص معتبرا أنه يمكن القبول بالشروط الموسعة
للاختصاص في مجال الأحوال الشخصية[22].
ويؤدي هذا التعامل التحرري، للمشرع
التونسي، مع الشروط المسندة للاختصاص إلى تكريس إرادة الأطراف كأساس مستقل لبناء
الاختصاص الدولي. وإذا كان للشرط المسند للاختصاص وظيفتين : وظيفة إيجابية تتعلق بإسناد
الاختصاص وأخرى سلبية تسحب الاختصاص عن المحكمة المختصة مبدئيا، فإن الحرية المطلقة التي يتمتع بها الأطراف
تمارس على مستوى الوظيفة الإيجابية للاتفاق بحيث يمكن تعيين المحكمة المختصة بكل حرية.
بينما تتقلص حرية الأطراف على مستوى الوظيفة السلبية للشرط المسند للاختصاص أي تلك
المتعلقة بسحب الاختصاص عن المحاكم الأجنبية. فيجب أن يكون هذا الاتفاق محترما
لبعض الضوابط المتعلقة بالاختصاص الإقصائي.
فقد منع المشرع التونسي الاتفاق على إسناد
الاختصاص للمحاكم الوطنية "إذا كان موضوع النزاع حقا عينيا متعلقا بعقار كائن
خارج البلاد التونسية"[23].
ويرجع هذا المنع إلى أن قبول الشروط المسندة
للاختصاص قد يؤدي إلى الاعتداء على اختصاص القاضي الأجنبي والذي أسنده قانونه الوطني اختصاصا قضائيا إقصائيا[24].
ويبدوأن الطبيعة الإقصائية للاختصاص الدولي
في المادة العقارية تكمن وراء منع المشرع التونسي إسناد المحاكم التونسية الاختصاص
بالنسبة للنزاعات المتعلقة بعقارات كائنة خارج البلاد التونسية[25].
ورغم اقتصار منطوق الفصل 4م.ق.د.خ. على
النزاعات المتعلقة بعقارات كائنة خارج البلاد التونسية، فإنه يبدو وأن إرادة المشرع اتجهت إلى إقصاء كل الاتفاقات
الموسعة للاختصاص القضائي الدولي التي تمس بحالات الاختصاص الإقصائي بصفة عامة والتي
عددها الفصل 8 م.ق.د.خ. فكلما تمتعت المحكمة الراجع إليها النزاع بالنظر حسب قانونها
باختصاص إقصائي لا يمكن للأطراف سحب هذا الاختصاص عن ولايتها ولوتعلق الاتفاق بإسناد
الاختصاص للمحاكم الوطنية. ويمكن للمحاكم الوطنية الرجوع إلى أحكام الفصل 8 م.ق.د.خ.
لبيان الحالات التي من الضروري أن يكون فيها اختصاص المحكمة الأجنبية إقصائيا. فلا
يمكن أن تقبل المحاكم الوطنية النظر في نزاع يتعلق بجنسية أجنبية أو بطلب إجراء
تنفيذي واجب التنفيذ بدولة أجنبية أو بإجراءات جماعية ضد شخص يمارس نشاطه التجاري
على إقليم دولة أجنبية[26].
إضافة إلى ذلك، فإن قبول المحاكم الوطنية
النظر في مثل هذه النزاعات على أساس تعيينها من قبل الأطراف سيؤدي بالضرورة إلى رفض
القضاء الأجنبي الاعتراف بالحكم الصادر عن القضاء الوطني نظرا لتدخله في مجال الاختصاص
الإقصائي للقاضي الأجنبي.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول أن المشرع
التونسي أقر (ولوضمنيا ) مبدأ عاما ينكر الاتفاق على مخالفة الاختصاص الإقصائي للمحاكم
الأجنبية ولم يقتصر على تأكيد هذا المبدأ في حالة سحب الاختصاص عن المحاكم الوطنية.
وتبنى بذلك المشرع التونسي موقفا إيجابيا يساعد على ضمان التعاون الدولي في مادة الاختصاص
القضائي. ويهدف المشرع من خلال الحد من حرية الأطراف إلى ضمان احترام الاختصاصات الإقصائية
نظرا لما تنطوي عليه من أهمية كبرى تتعلق بمصلحة الدول وسيادتها وهو في نفس الوقت
يوفر حدا أدنى من النجاعة والجدية لتعهد المحاكم الوطنية بالنزاعات الدولية.
3
- القانون المنطبق على الشرط المسند للاختصاص
يعتبر الشرط المسند للاختصاص القضائي
الدولي عملا قانونيا معقدا[27].
وتخضع الاتفاقات المتعلقة بالاختصاص إلى القواعد المنظمة للاختصاص القضائي الوطني نظرا
لتعلق موضوعها بالتنظيم القضائي الذي تحكمه أحكام القانون التونسي. فيقع تقديم
مشروعية الشرط المسند للاختصاص حسب قانون دولة المحكمة التي وقع التمسك أمامها بذلك
الشرط. ويرجع الفقهاء هذا المبدأ إلى اختصاص القانون الوطني للمحكمة في ضبط مجال اختصاصها[28]. ويذهب الأستاذ علي المزغني في نفس الاتجاه معتبرا أنه "وبدون
أدنى شك يرجع تقدير صحة الشروط المسندة للاختصاص إلى قانون المحكمة كما هو الأمر بالنسبة لجملة قواعد الاختصاص القضائي...
"[29].
في المقابل يرى الأستاذ P.MAYER
أنه
من الضروري الفصل بين مسألة مشروعية الاتفاق المسند للاختصاص ومسألة صحة هذا الشرط. أما فيما يتعلق بإمكانية
إبرام اتفاق متعلق بالاختصاص، يرجع تحديد ذلك إلى القانون الوطني الذي يبقى القانون
الوحيد المؤهل لتقدير إمكانية تأسيس الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية على أساس إرادة
الأطراف أو سحبه عنها[30].
في المقابل يبقى الشرط المسند للاختصاص
خاضعا كبقية الاتفاقات إلى معايير صحّة التصرفات القانونية. فتخضع شروط صحة الاتفاق
المسند للاختصاص إلى القانون المنطبق على العقد الذي تضمنته أي قانون الإرادة[31].
ويرى جانب من الفقه أن الحل المتمثل في
إخضاع صحة الشرط المسند للاختصاص إلى المنطق التنازعي، هو الحل الأفضل نظرا لكونه يحافظ على وحدة العقد[32].
وتجدر الملاحظة أن محكمة التعقيب الفرنسية
تبنّت هذا الموقف في قرارها الصادر في 3 ديسمبر1991[33]،
حيث ميزت بين مشروعية الشرط المسند للاختصاص وصحته مقرّة أن "القانون الفرنسي
، بوصفه قانون المحكمة، ليس له ولاية ضرورية أو إقصائية لتنظيم الصحة الشكلية أو الجوهرية
للشرط..."[34].
أما فيما يتعلق بالشكل الذي يجب أن
يتخذه الاتفاق المسند للاختصاص، فمن المفترض أن يخضع إلى القاعدة الأصولية المعمول
بها في القانون الدولي والتي تقتضي أن شكل التصرفات القانونية يحكمه قانون المكان الذي
نشأ فيه التصرف أي مكان إبرام الاتفاق: « locus regit actum ».
ولقد اقر المشرع التونسي بهذا المبدأ
ضمن الفصل 68 م.ق.د.خ. في إطار تحديد القانون المنطبق على الالتزامات التعاقدية.
وينص الفصل المذكور أن العقد يعتبر "صحيحا شكلا" إذا توفرت فيه الشروط
التي عينها القانون المنطبق على العقد أو قانون مكان إبرامه. ويكون شكل العقد
المبرم بين أشخاص موجودين بدول مختلفة صحيحا إذا توفرت فيه الشروط المعينة بقانون إحدى
هذه الدول".
ويؤكد هذا التمشي إرادة المشرع في البحث
عن ضمان صحة الاتفاقات من الناحية الشكلية. لذلك اعتمدت مجلة القانون الدولي الخاص
تعدد معايير الترابط عند تحديد القانون المنطبق على شكل التصرفات القانونية.
وعليه يعتبر الشرط المسند للاختصاص صحيحا
من الناحية الشكلية كلما توفرت فيه الشروط التي نص عليها قانون المكان الذي أبرم فيه
الاتفاق أو تلك التي نص عليها القانون المنطبق على العقد من الناحية الأصلية.
وفي هذا الإطار يقر الفقه بضرورة أن يكون
الشرط المسند للاختصاص واضحا من الناحية الشكلية. وهو ما يفرض التنصيص على الاتفاق بصفة جلية وبارزة صلب التزام الطرف الذي
تقع مواجهته بإسناد الاختصاص اتفاقيّا إلى جهة قضائية معينة[35].
ويستند هذا الموقف إلى أحكام الفصل 48 من
مجلة الإجراءات المدنية الفرنسية الذي فرض هذه الصبغة بالنسبة للاتفاقات المتعلقة
بالاختصاص الترابي الداخلي فيما بين التجار. ويرى أصحاب هذا الرأي أن اشتراط الشكل
الواضح والجلي في الاتفاقات المسندة للاختصاص القضائي يبقى مشروعا في المجال الدولي[36].
وفي هذا الإطار ، ينادي جانب من الفقه
الفرنسي بضرورة إقرار جملة من الصيغ الشكلية الدنيا فيما يتعلق بشكل الشرط المسند
للاختصاص. ويتم ذلك بإنشاء قواعد مادية تخص هذه المادة[37].
بينما يرى الأستاذ علي المزغني أن القانون التونسي لم يفرض اتباع أي شكل خصوصي بالنسبة
للشرط المسند للاختصاص، ويرجع ذلك إلى غياب أي تنصيص على ذلك صلب مجلة القانون
الدولي الخاص[38].
من الواضح أن هذا التوجه ينبع من فكرة خضوع شروط صحة الشرط المسند للاختصاص إلى
القانون الوطني للمحكمة بصفة إقصائية حسب الفقيه المذكور والذي يبدو أنه يقصي كل تدخل لنظرية التنازع فيما يتعلق بصحة
الشرط المسند للاختصاص[39].
ولكن إذا كان من المنطقي أن يرجع لكل
دولة تحديد الشروط الواجبة لاعترافها بالتوسيع الإرادي لاختصاص محاكمها أو سحبه عنها
فإنه من الضروري أن يقع الأخذ بعين الاعتبار المصالح المشروعة للدول الأخرى وتلك التي
تهم التجارة الدولية[40].
وهي دعوة إلى عدم التعسف في تطبيق أحكام القانون الوطني للمحكمة عند تقديرها لصحة
الشرط المسند للاختصاص.
4
– آثار الشرط الموسع للاختصاص
ينشأ عن الشرط المسند للاختصاص أثر
رئيسي يتمثل في إسناد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية[41].
ذلك أن اختيار الأطراف للمحاكم الوطنية يتأسس على فكرة التوقعية ممّا يفترض ضرورة
احترام هذا الخيار كلّما كان مستوفيا للشروط التي نصّ عليها القانون التونسي لصحة
الاتفاق المسند للاختصاص.
كما ينشأ عن الشرط المسند للاختصاص التزام
في جانب المحاكم الوطنية بالنظر في النزاع[42].
ولا يشترط لإسناد الاختصاص للمحاكم الوطنية على أساس إرادي، وجود رابطة بين النزاع
والنظام القانوني التونسي. ذلك أنّ الفصل 4 م.ق.د.خ. لم يفرض توفر أي عنصر ترابط
يمكّن من تركيز موضوع النزاع على الإقليم الوطني. ويؤكد هذا الموقف الأساس الإرادي
للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية في القانون التّونسي.
ولقد اعتمد فقه القضاء الفرنسي نفس
الاتجاه بإقراره بصحّة الاتفاقات المسندة للاختصاص الدولي دون التثبت من وجود ترابط
بين النزاع وبلد القاضي المتعهد به[43].
ويمكن إرجاع هذا الموقف إلى موضوع الشرط
المسند للاختصاص الدولي. ذلك أن موضوع الاتفاق المتعلق بالاختصاص هو إنشاء الاختصاص لصالح المحاكم الوطنية وليس تدقيقه.
فلا حاجة إذن لتوفر ترابط موضوعي بين النزاع والنظام القانوني الوطني للإقرار بصحة
الشرط المسند للاختصاص.
كما لا تتوقف فاعليّة الاتفاق المسند للاختصاص
على التنصيص بصفة دقيقة على المحكمة المختصة بالذات، إذ يمكن للأطراف الاكتفاء بإسناد
الاختصاص إلى محاكم دولة معينة بصفة عامّة كلّما كان القانون الداخلي لهذه الدولة
يسمح بتحديد المحكمة المختصة ترابيا للنظر في النزاع[44].
وعلى هذا الأساس يمكن للأطراف الاقتصار على إسناد اختصاص عام للمحاكم الوطنية[45]
على أن يتكفل القانون القضائي الداخلي بضبط المحكمة المختصة ترابيا للنظر في
النزاع.
ويتم تعيين المحكمة المختصة ترابيا باعتماد
معايير الاختصاص الترابي التي تضمنتها مجلة المرافعات المدنية والتجارية والمتعلقة
بتوزيع الاختصاص بين مختلف المحاكم المنتمية إلى نفس الدرجة وإلى نفس الصنف على المستوى
الترابي[46].
كما يمكّن القانون التونسي من تحديد
المحكمة المختصة ترابيا للنظر في النزاع الدولي في صورة غياب عناصر الترابط الترابية
التي نصت عليها مجلة المرافعات المدنية والتجارية وذلك باعتماد عناصر خاصة.
وقد تعرض المشرع التونسي إلى هذه الفرضية
في الفصل 9 م.ق.د.خ الذي جاء به: "إذا لم يكن للمطلوب مقر معلوم بالبلاد التونسية،
ترفع الدعوى أمام المحكمة التي يوجد بدائرتها مقر الطالب. وإذا كانت المحاكم التونسية
مختصة بالنظر في حين أن الطالب والمطلوب لا يقيمان بالبلاد التونسية، فإن الدعوى ترفع
أمام محكمة تونس العاصمة."
واعتمادا على هذا النص، وإذا تعذر تحديد
المحكمة المختصة ترابيا للنظر في النزاع الدولي الذي اسند فيه الاختصاص بصفة عامة للمحاكم
الوطنية، فإنه يجب البحث أو لا عن إمكانية وجود مقر للطالب بالبلاد التونسية لترفع
الدعوى إذن أمام المحكمة التي يوجد بدائرة اختصاصها الترابي مقر الطالب.
أما في صورة غياب مقر للمطلوب وللطالب على
حد سواء بالإقليم الوطني، يفرض الفصل 9 م.ق.د.خ. رفع الدعوى أمام محكمة تونس العاصمة.
وتجدر الملاحظة من جهة أن القانون التونسي
يمتاز بوضع هذه القاعدة الاحتياطية لتحديد المحكمة المختصة ترابيا للنظر في النزاعات
الدولية الراجعة للقضاء الوطني وذلك عند استحالة تعيين المحكمة المختصّة ترابيا
وفقا للمعايير العادية . وهو ما يمثل في حد ذاته حلا إيجابيا يمكّن من تلافي كل حيرة
أو نقاش حول تحديد المحكمة المختصة ترابيا بالنزاع في صورة غياب عناصر ترابط إقليمية
تمكّن من تحديد المحكمة المختصة بالذات.
ولكن الحل المتمثل في إسناد الاختصاص الترابي
لمحكمة تونس العاصمة عند غياب مقر للطالب أو المطلوب بالبلاد التونسية لا يتلاءم
مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار للعناصر الواقعيّة للنزاع التي تحدّد المحكمة الأكثر
قربا من عناصر المنازعة . وهو ما لا يتلاءم مع إسناد الاختصاص بصورة آليّة لمحكمة
تونس العاصمة دون التّثبت من توفر عناصر تقّرب النزاع من مجال اختصاصها.
وكان من الممكن أن يعتمد المشرع التونسي
حلا بديلا يعطي إمكانية رفع النزاع أمام المحكمة الوطنية التي تكون أقرب من موضوع
النّزاع أو أمام المحكمة التي يتماشى اختصاصها مع مبدأ حسن تنظيم مرفق القضاء.
وهو الحل الذي توصل إليه فقه القضاء الفرنسي. حيث
اعتبر أن المحكمة المختصة ترابيا في صورة انعقاد الاختصاص الدولي للقضاء الفرنسي
عامة دون تحديد مرجع النظر الخصوصي، هي محكمة مكان إقامة المطلوب أو المحكمة التي يوجد
بدائرة اختصاصها مقر أو إقامة الطالب. وفي غياب العناصر المذكورة يمكن للمدعي رفع النزاع
أمام المحكمة التي يتماشى تعهدها بالنزاع مع حسن سير مرفق القضاء[47].ولقد
كرّست في مرحلة ثانية مجلة الإجراءات الفرنسيّة الجديدة الحلّ المذكور نظرا لوجاهته.
وتجدر الإشارة إلى أن الأثر المسند
للاختصاص الدولي يشمل كل النزاعات التي تدخل في إطار اتفاق الأطراف خاصة إذا كان
هذا الشرط عاما يمسّ كل جوانب العقد[48].ويعني
ذلك إخضاع كلّ منازعة ناشئة عن العقد لولاية المحكمة التي عيّنها الأطراف في الاتّفاق
المسند للاختصاص الدّولي.
أما إذا حصر الأطراف مجال الشرط المسند
للاختصاص في نزاعات معينة فيتجه احترام هذا التضييق[49]واحترام
إرادة الأطراف التي اتّجهت إلى إسناد المحاكم الوطنية صنفا محدّدا من النّزاعات.ذلك
أنّ أساس الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية ينبع من الإرادة التي تجسّدت في الشرط
المتعلّق بالاختصاص.
كما يمكن لإرادة المدعى عليه الأحاديّة أن تقوم بدور
على مستوى الاختصاص القضائي.
ب
- قبول التقاضي أمام المحاكم الوطنية
دعمّت مجلة القانون الدولي الخاص دور
الإرادة في تأسيس الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية عندما نص فصلها الرابع على أنّه
: "تنظر المحاكم التونسية في النزاع (...) إذا قبل المطلوب التقاضي لديها إلا
إذا كان موضوع النزاع حقا عينيا متعلقا بعقار كائن خارج البلاد التونسية".
ولقد أبقى المشرع التونسي بذلك على الحل
القديم الذي كان يسند الاختصاص للمحاكم الوطنية، إذا قبل الأجنبي المقيم خارج البلاد
التونسية التقاضي لديها[50].لكنه
في نفس الوقت، وسّع من مجال هذا الحل. حيث أصبح قبول التّقاضي لدى المحاكم يشمل أيضا
المدعى عليه التونسي[51]
والذّي يمكنه أن يقبل اختصاص المحاكم الوطنية في غياب أساس موضوعي يمكن أن تستند إليه
المحكمة لإخضاع النزاع لولايتها.
ويؤكد هذا التمشي، إقصاء الجنسية كمعيار
ترابط في مجال ولاية المحاكم الوطنية دوليا إضافة إلى تأكد مبدأ المساواة بين الوطني
والأجنبي عند تطبيق قواعد الاختصاص الدولي.
وانطلاقا من أحكام الفصل 4 م.ق.د.خ يمكن
أن يستند توسيع الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية إلى موقف المدعى عليه الذي لا
ينازع في اختصاص المحكمة الوطنية التي رفع إليها المدعي النزاع. ويستخلص من ذلك أنّه
ليس من الضّروري أن ينشأ التوسيع الاختياري لقضاء المحاكم الوطنية دوليا عن شرط صريح
مسند للاختصاص[52].بل
يكفي في صورة الحال أن يقبل المدّعى عليه التّقاضي لدى المحاكم الوطنية لينعقد
الاختصاص لفائدتها.
ومن الواضح أن الفرضية التي ينّظمها الفصل
4 م.ق.د.خ. هي تلك التي ينشأ فيها الاختصاص عن التصرف الإجرائي للأطراف[53].
فإذا كان من الممكن استنتاج قبول المدعى عليه التقاضي لدى المحاكم الوطنية من خلال
عدم منازعته لاختصاصها رغم عدم إقامته على الإقليم الوطني، فإنّ تولي المدعي القيام
برفع الدعوى أمام المحكمة الوطنية واستدعاء خصمه أمامه يمثل بدوره قرينة على اتجاه
إرادته إلى توسيع الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية[54].
لذلك يمكن أن نكيّف هذه الحالة بوصفها
اتفاقا ثنائيا من قبل الأطراف على توسيع الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية.ذلك أنّ
إرادة المدّعي في إسناد الاختصاص للقاضي الوطني تستنتج من قيامه برفع دعواه أمام
المحكم الوطنيّة.في حين تستشفّ إرادة المدّعى عليه من قبوله لاختصاص القاضي الوطني
دون منازعة في ذلك.
لكن خلافا للشرط المسند للاختصاص المضمّن
صلب اتفاق الأطراف قبل نشأة النزاع، يتعلق قبول التقاضي لدى المحاكم الوطنية
بالفرضية التي نشا فيها النزاع بين الأطراف. فيقوم أحد الطرفين برفع النزاع أمام
المحاكم الوطنية رغم عدم اختصاصها المبدئي نظرا لغياب معيار ترابط يمكن تأسيس الاختصاص
عليه حسب أحكام مجلة القانون الدولي الخاص. ورغم انعدام اختصاص المحاكم الوطنية،
يستجيب المدعى عليه لاستدعاء خصمه ويحضر أمام المحكمة التونسية دون أن يثير عدم اختصاصها
الدولي فينعقد الاختصاص لصالح القضاء الوطني. وتسمّى هذه الفرضية توسيعا ضمنيا للاختصاص
الدولي[55].
ويمثل قبول التقاضي لدى المحاكم الوطنية حالة اختصاص مستقلة بذاتها على معنى الفصل
4 م.ق.د.خ.
ويعتمد الفقه لتفسير هذه القاعدة على فكرة
استحالة جهل المدعى عليه لآثار موقفه المتمثل في قبول التقاضي لدى المحكمة الوطنية
خاصة بعد نشأة النزاع[56].إذ
كان بإمكان المدّعى عليه إثارة عدم اختصاص المحاكم الوطنية ومطالبة القاضي المتعهد
بالنّزاع بالتخلي عن النّظر في الدعوىّ على أساس عدم الاختصاص.
وتأسيسا على ذلك، يمكن القول أن التوسيع
الضمني للاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية ينبع من قرينة علم المدعى عليه بنتائج
موقفه الإجرائي المتمثل في الحضور أمام القضاء الوطني وعدم سعيه لمعارضة خصمه بانعدام
اختصاص المحكمة الوطنية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ عديد التشريعات المقارنة
تقر مبدأ التوسيع الضمني للاختصاص القضائي الدولي تأسيسا على قبول المدعي عليه
التقاضي لدى محاكمها من ذلك القانون الفرنسي والقانون الألماني[57].
حيث استقر القانونين المذكورين على اعتبار أنّ عدم إثارة المدعي عليه لانعدام
اختصاص المحكمة المتعهدة قبل خوضه في مناقشة أصل الدعوى يؤدي إلى انعقاد الاختصاص لصالحها
شريطة أن يكون الاختصاص الدولي اختياريا[58].
كما أقرت الاتفاقية الاوروبية الصّادرة
في 27 سبتمبر 1968 المعروفة باتفاقية بروكسال في فصلها 18 بقاعدة القبول الضّمني
للاختصاص الدّولي. فكلّما رفع المدعي دعواه أمام محاكم دولة متعاقدة غير مختصّة عادة
،حسب أحكام قانونها العام وأحكام الاتفاقية،، وإذا حضر المدعى عليه ولم يعارض اختصاص
المحكمة المتعهدة بالنزاع، انعقد الاختصاص لصالحها[59].
فما هي شروط انعقاد الاختصاص لصالح المحاكم
الوطنية على أساس قبول المدعى عليه التقاضي لديها؟
يفترض التوسيع الضمني لاختصاص المحاكم الوطنية
قبول المطلوب التقاضي لدى المحاكم التونسية حسب الفصل 4 م.ق.د.خ ويعني ذلك حضور
المدعي عليه أمام المحكمة الوطنية وهو الشرط الأساسي لإعلان المحاكم الوطنية اختصاصها
للنظر في النزاع في غياب أساس آخر لولايتها الدولية.
ويؤكد حضور المدعي عليه لدى المحكمة احترام
مبدأ المواجهة في القضية[60]لأنّ
ذلك يعني أنّه قد أتيحت الفرصة للمدّعى عليه للمناقشة الجديّة في مدى اختصاص
المحاكم الوطنية للنّظر في النزاع.لذلك اعتبر المشرع أنّ ملازمة المدّعى عليه
الصّمت فيما يتعلق باختصاص القاضي الوطني وخوضه في مناقشة أصل الدّعوى قرينة على
قبوله التّقاضي لدى المحاكم الوطنية.
لكنّ معاينة العمل القضائي بعد إصدار مجلة
القانون الدولي الخاص يؤكد النزعة التلقائية للقاضي التونسي لإعلان اختصاصه خاصة في
قضايا الطلاق التي يكون أحد أطرافها تونسيا.ذلك أن بعض المحاكم لم تلتزم بأحكام
مجلة القانون الدولي الخاص في تقدير مدى ولايتها بالنّزاعات العائلية على المستوى الدولي.
فالملاحظ أن المحاكم الوطنية في قضايا الطلاق
المرفوعة من قبل الزوج التونسي ضد الزوج المقيم بالخارج تتجاهل النزعة الدولية
للنزاع وتقبل باختصاصها دون وجود أي معيار للترابط يمكن تأسيس الاختصاص عليه نظرا
لغياب مقّر للمدّعى عليه بالبلاد التّونسية . كما يتعزّز عدم اختصاص المحاكم الوطنية
في هذه الصورة بغياب المدعى عليه وعدم حضوره أمام المحكمة لذلك فلا يمكن القول أنه
رضي بالتقاضي أمامها بصفة صريحة أو ضمنية بتقديم جوابه في الأصل عن الدّعوى.
ومثل ذلك الحكم الصادر عن المحكمة
الابتدائية بتونس بتاريخ 22 جوان 1999[61]
والذي قبلت فيه المحكمة النظر في دعوى الطلاق المرفوعة من الزوجة التونسية ضد زوجها
الليبي المقيم بالبلاد الليبية. فرغم انعدام أي أساس إقليمي أو ذاتي للاختصاص الدولي
للمحاكم الوطنية نظرت المحكمة في دعوى الزوجة مكتفية بالإشارة إلى استدعاء الزوج بالطريقة
القانونية دون أن تعاين عدم حضوره والذي ينفي قبوله كمدعى عليه التقاضي أمام المحاكم
الوطنية.ويبدوأن المحكمة بنت اختصاصها على أساس الجنسية التونسية للمدعية وهو موقف
يتعارض مع أحكام مجلة القانون الدولي الخاص التي ألغت معيار الجنسية التونسية كأساس
للاختصاص الدولي.
وقد كرست المحكمة الابتدائية بتونس هذا
التوجه بصفة مستقرّة[62].
إذ يعمد قضاة الأصل في قضايا الطلاق المذكورة ورغم غياب المدعي عليه إلى تجاهل مسألة
الاختصاص الدولي ليكتفوا بمراقبة السلامة الشكلية للاستدعاء الموجه إلى المدعى
عليه[63]ثمّ
الإقرار مباشرة بالاختصاص للبتّ في أصل النّزاع.
لذلك يقع الاكتفاء في مثل هذه القضايا
بالتثبت من القيام بعملية استدعاء المدعى عليه وفق الطريقة المنصوص عليها صلب
الفصل 10 م.م.م.ت أو حسب الطرق المنصوص عليها ضمن اتفاقيات التعاون القضائي لتأسيس
ولاية المحكمة للنظر في النزاع[64].
وتجدر الملاحظة أن هذا التمشي المعتمد
من قبل المحاكم التونسية في النزاعات الدولية المتعلقة بالزيجات المختلطة بين التونسيين
والأجانب، يندرج ضمن إرادة واضحة لحماية الطرف التونسي خاصّة إذا كانت الزوجة التونسية
مرتبطة بزوج يمنع قانونه الداخلي هذه الأخيرة من طلب الطلاق بما يجعله متعارضا مع
المبادئ الأساسية لقانون العائلة التونسي.
ولقد رأى جانب من الفقه[65]
أن القضاء التونسي أنشأ بموقفه هذا امتيازا للتقاضي لصالح المتقاضي التونسي مخالفا
بذلك أحكام مجلة القانون الدولي الخاص. بل إن هذا الموقف في حد ذاته يمثل ردة فعل
على هذه المجلة[66].
على أنه يمكن استنادا للمبادئ العامة للقانون للقضاء
التونسي إنشاء ضابط اختصاص احتياطي يقوم على فكرة تلافي إنكار العدالة[67].
وينهض مبدأ تلافي إنكار العادلة كمبدأ عام للقانون بدور ضابط اختصاص احتياطي حيادي
يتمكّن من خلاله القاضي الوطني من إعلان اختصاصه في النزاعات التي يبدو أن ليس لها قاض مختص دوليا للنظر فيها. كما يمكن للقاضي الوطني أن يؤسّس اختصاصه باعتماد
اعتبارات أصلية تتعلق بالحقوق الأساسية التي يضمنها القانون التونسي والتي تغذي في
نفس الوقت التصور الوطني للنظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص. ومن بين هذه
المبادئ الأساسية الحق في المطالبة بالطلاق على قدم المساواة بين الرجل والمرأة.
وتأسيسا على ما تقدم، يقر القاضي الوطني
باختصاصه بالنظر في النزاعات المنجرّة عن الزيجات المختلطة والتي يكون الزوج فيها
خاصة حاملا لجنسية دولة يحمل قانونها أحكاما تخالف مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة
لأنها تحرمها من الحق الأساسي في المطالبة القضائية بالطلاق.
ويتضح أن الاختصاص الدولي المؤسس على فكرة
تلافي إنكار العدالة يمكّن القاضي الوطني من إقرار ولايته وهو الأمر الذي يتماشى
مع نزعته الحمائية للطرف الذي حرم من الحق في التقاضي دون أن يكون اختصاصه في هذه
الصورة متناقضا مع أحكام مجلة القانون الدولي الخاص التي تخلّت عن معيار الجنسية
كسند للاختصاص الدولي. ويساعد الاعتماد على مبدأ ضرورة تلافي إنكار العدالة في توسيع
الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية بحثا عن حماية الطرف الذي حرم من حقّه في
التّقاضي دون الاعتماد على معايير مصطنعة وشكليّة لا يمكن أن تؤسّس لاختصاص دولي جدي
وفقا لفلسفة مجلة القانون الدولي الخاص.كما ينفي هذا التّمشي تأسيس الاختصاص الدولي
للمحاكم الوطنية على معايير تمييزية واستثنائية مثل الجنسية[68].
ولكن هل يكفي حضور المدعي عليه للإقرار
بالتوسيع الضمني للاختصاص المحاكم الوطنية؟
لا يكفي حضور المدعي عليه أمام المحكمة الوطنية
للقول بأنه قبل اختصاصها ضرورة أن حضوره قد يبرره رغبته في إثارة عدم اختصاص المحاكم
الوطنية دوليا للنظر في النزاع[69]
حماية لمصالحه الموجودة بالبلاد التونسية.
لذلك فإنه يشترط أن يقبل المدعى عليه باختصاص
المحاكم الوطنية وذلك إما بصفة صريحة أو ضمنية عندما يقدم جوابه في أصل الدعوى دون
أن يدفع بعدم اختصاص المحاكم الوطنية. حيث يستشف من موقفه هذا قبولا ضمنيا بتوسيع اختصاص
المحكمة المتعهدة بالنزاع.
في المقابل فإن منازعة المدعى عليه في
اختصاص المحاكم الوطنية يؤدي إلى عدم إسناد الاختصاص الدولي للمحكمة المتعهدة. وتتم
هذه المنازعة حسب الفصل 10 م.ق.د.خ في شكل دفع شكلي يقدم وجوبا قبل الخوض في الأصل.
ونجد تكريسا لهذه القاعدة في الاتفاقية
الاوروبية المتعلقة بالاختصاص الدولي لسنة 1968 والتي أقرّت بأنّ التوسيع الضمني
للاختصاص لا يتم إذا كان حضور المدعى عليه يهدف إلى المنازعة في الاختصاص[70].
أما إذا قبل المدعى عليه باختصاص المحكمة
الوطنية المتعهدة بالنزاع فإن هذه الأخيرة تقر بولايتها على أساس التوسيع الضّمني
لاختصاصها. ويستثني الفصل 4م.ق.د.خ من مجال تطبيق قاعدة القبول بالتقاضي لدى المحاكم الوطنية
النزاعات التي يكون موضوعها حقا عينيا متعلقا بعقار كائن خارج البلاد التونسية".
ويرجع هذا الاستثناء إلى الصبغة الإقصائية لاختصاص محاكم الدولة التي يوجد بها العقار
في النزاعات العقاريّة.
لذلك فمن المتّجه توسيع هذا الاستثناء ليشمل
بقيّة النزاعات التي يعتبرها القانون التّّونسي راجعة بالنظر إلى المحاكم الوطنيّة
بصفة إقصائية واعتبارها كذلك بالنسبة للقضاء الأجنبي[71]. فلا يمكن الإقرار باختصاص المحاكم الوطنيّة على أساس قبول المدّعى عليه
التقاضي لديها إذا تعلّق النّزاع بجنسيّة دولة أجنبيّة أو بإجراءات تحفظيّة أو تنفيذيّة
على إقليم أجنبي أو بطلب تفليس شخص يمارس نشاطه التّجاري بالخارج[72].
وتجدر الإشارة إلى أنّ مبدأ القبول الضّمني
للاختصاص الدولي قد يشمل المدّعي أيضا وذلك في صورة إثارة المدّعى عليه لدفع أصلي
يخرج عن نطاق اختصاص المحاكم الوطنية وقبول المدعي الأصلي الإجابة عن هذا الطّلب
الأصلي.ذلك أنّه يمكن القول هنا أيضا أن المدعي قبل ضمنيا ولاية القاضي الوطني للبتّ
في الدفع المثار من طرف المطلوب.
لذلك يمكن قبول النظر في دفع أصلي أثاره
المدعى عليه وأجاب عنه المدعي في الأصل رغم خروجه عن اختصاص المحاكم الوطنيّة وذلك
تأسيسا على التوسيع الضمني لولاية القضاء الوطني واقتصادا للإجراءات [73].وقد
ذهبت في هذا الاتجاه محكمة العدل الاوروبية في تاويلها للفصل 18 من اتفاقية بر
وكسال (والذي يقابل الفصل 4 م.ق.د.خ) عندما أقرّت باختصاص المحكمة المتعهّدة بالنّزاع
للنظر في طلب المقاصة الذي أثاره المدّعى عليه ،رغم خروجه عن اختصاصها مبدئيا، وذلك
لأن المدّعي في الدّعوى الأصليّة قبل الدّفاع في مطلب المقاصة بما يجعله يحتل موقع
المدّعى عليه بالنّسبة لهذا الطلب[74].
وفي غياب الاعتبارات
الشّخصية لأطراف النّزاع، يمكن أن ينعقد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنيّة على أساس
الاعتبارات الموضوعيّة التي تمكّن من توطين العلاقة الدّولية الخاصة موضوع النّزاع
بالإقليم الوطني.
إرسال تعليق