الذخيرة القانونية

موقع يتعلق بالقانون التونسي

random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الحجة الرسمية

أولا : شروط الحجة الرسمية و الجزاءات المترتبة عن تخلّفها

الفقرة الأولى : الشروط الأصلية أو صدور الحجة الرسمية عن مأمور عمومي منتصب لذلك قانونا 

         إن ما يميز الحجة الرسمية عن غيرها من الكتائب الأخرى و خصوصا الكتائب الخطية هو تلقيها من مأمور من عمومي يضفي عليها صفة الرسمية.

و نعني بذلك أن تكون محررة من قبله "و ليس من الضروري أن تكون مكتوبة بخط يده، بل يكفي أن يكون تحريرها صادرا باسمه و يجب على كل حال أو يوقعها بإمضائه".

فمن هو المأمور العمومي الذي يعد تدخله في الحجج الرسمية ركنا من أركانها و شرطا لازما لصحتها ؟ و كيف نظم المشرع التونسي تدخله في عملية تحريها ؟ للإجابة عن هذه التساؤلات لا بد من تحديد صفة المأمور العمومي (أ) الذي فرض عليه المشرع ضرورة أن يعمل في حدود سلطته (ب) و اختصاصه (ج) حتى تصطبغ الكتائب الصادرة عنه بالصبغة الرسمية.


أ‌- صفة المأمور العمومي :

لقد اقتصر المشرع التونسي عند تعريفه للحجة الرسمية صلب الفصل 442 من م.إ.ع على ذكر صفة المأمور العمومي دون إيجاد تعريف له. و لعل ذلك كان بإيعاز منه حتى يترك للقضاء تحديد هذه الصفة أخذا بعين الاعتبار بالمتغيرات التي يشهدها نظام المعاملات.

و قد عرفه بعض الفقهاء بكونه "كل شخص حملته الحكومة جزءا من مسئوليتها ليقوم بقسط من واجبها نحو الأمة سوءا أكان ذلك بأجر كالمدير و القاضي أو بغير أجر كالمأذون    و العمدة"، أو هو "كل شخص تعينه الدولة للقيام بعمل من أعمالها سواء أكان بأجر كالموثق    و المحضر أو بدون أجر كالعمدة و المأذون"

و انطلاقا من هذا التعريف الفقهي يتضح أن المأمورين العموميين يتنوعون بتنوع الحجج الرسمية التي يباشرون تحريرها في حدود اختصاصاتهم، و حسب النظم التي يخضعون إليها.

فلئن كانت الحجة العادلة هي التي تتصف بالرسمية بدرجة أولى نظرا لأن محررها هو مأمور عمومي محمول على النزاهة خصوصا في ميدان المعاملات الذي تغلب عليه المصالح المتضاربة، فإنه باستقراء مختلف الفصول القانونية الواردة بمجلة الالتزامات و العقود           و المنظمة لأحكام الحجة الرسمية و كذلك جملة النصوص المتفرقة المتعلقة ببعض الأشخاص الذين لهم صفة المأمور العمومي، نتبين أن هذه الصفة تمنح لعديد الأشخاص سواءا كانوا مأجورين من الدولة (أولا) أو غير مأجورين منها (ثانيا).

أولا : المــــــأمــــور العــمومي المأجــــــــور  من الدولة :

         يعتبر مأمور عمومي مأجور كل شخص تعيّنه الدولة للقيام بعمل من أعمالها مقابل أجر (مرتب)، كالقضاة (1) و أعوان الضابطة العدلية (2) و ضباط الحالة المدنية (3) و بعض الجهات الرسمية (4).

(1 القضـــاة :

         تكاد تجمع جل النظم القانونية على اعتبار أن القاضي هو مأمور عمومي فيما يحرره بمجلسه ويكون راجعا له بالنظر.

و المشرع التونسي لم يحد عن هذا التوجه، بل اعتبر بالفصل 443 من م.إ.ع. أنه من الحجج الرسمية :

-         "أولا : ما يحرره القضاة رسميا بمحلهم طبقا للشرع.

< >

-         ثانيا : الأحكام الصادرة من المجالس القضائية التونسية و الأجنبية على معنى أن ما ثبت لدى هاته المجالس يعول عليه و لو قبل اكتسابه صفة التنفيذ".

و بهذه الصفة، تكون لجميع الأعمال التي يقوم بها القضاة في مجلسهم حججا رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور، سواء أكانت تلك الأعمال أحكاما قضائية أو أعمالا ولائية كالأذون على المطالبو الأوامر بالدفع.

و الملاحظ أن الفقرة الأولى من الفصل 443 من م.إ.ع. التي تقتضي أنه "من الحجج الرسمية أيضا :

أولا -  ما يحرره القضاة رسميا بمحلهم طبقا للشرع"، لم يبق موجبا للإبقاء عليها بهذا الفصل  و ذلك نظرا لتوحيد المحاكم القضائية بعد الاستقلال و صدور مجلة الأحوال الشخصية، حيث أصبحت جميع الأحكام بما فيها تلك المتعلقة بالحالة الشخصية تصدر عن هيئات قضائية تونسية موحدة و خاضعة لإشراف وزارة العدل باستثناء طبعا بعض المحاكم الخاصة كالمحكمة الإدارية التابعة للوزارة الأولى.

كما أنه لا جدال في أن الحكم الابتدائي صادر عن قاضي يتمتع بصفة المأمور العمومي و محمول على الصدق و النزاهة فكيف لا تكون الأحكام التي يصدرها حججا رسمية و الحال أن هذه الصفة تتمتع بها جميع الكتائب الصادرة عن كل من يحمل صفة المأمور العمومي.

وتجدر الملاحظة أن المشرع التونسي لم يميز بالفقرة الثانية من الفصل 443 من م.إ.ع. بين الأحكام القضائية التونسية و الأحكام القضائية الأجنبية في خصوص البيانات المدونة بها.

غير أنه يجب أن نفهم الحكم الأجنبي على أنه القرار العدلي) الصادر عن هيئة قضائية أجنبية مختصة بإصداره طبق قانونها الوطني، سواء كان ذلك القرار حكما قضائيا أو ولائيا.

و يتجه التوضيح في خصوص الأحكام الأجنبية أن الاعتراف لها بالصيغة الرسمية      و تنزيلها منزلة الحجج الرسمية لا يعني إكسائها بالصيغة التنفيذية أو إصباغها بحجية الأمر المقضي به. بل إن المقصود بذلك هو الاعتراف لها بالقوة الثبوتبية التي تتمتع بها سائر الحجج الرسمية، و ذلك بغض النظر عن الدرجة التي بلغتها تلك الأحكام في سلم التقاضي، و ما إذا كانت قابلة للتنفيذ بتونس أم لا. بل إن هذه المسائل تبقى خاضعة لأحكام مجلة القانون الدولي الخاص التي خصصت الباب الأول منها لشروط تنفيذ الأحكام القضائية و القرارات التحكيمية الصادرة عن هيئات قضائية أو تحكيمية أجنبية. وعليه، تستمد الأحكام القضائية التونسية أو الأجنبية رسميتها من صفة الأشخاص الصادرة عنهم. و هي بذلك غير مرتبطة بصفة أو بدرجة تلك الأحكام و لا بقوتها التنفيذية، و هو ما حرص مشرع 1905 على تأكيده بالفقرة الثانية من الفصل 443 من م.إ.ع.

و تجدر الإشارة إلى أن صفة الرسمية قد تمنح لبعض الأعمال التي يقوم بها كتبة المحاكم باعتبارهم من معاوني القضاء سواء عند تدوين ما يقع إملاؤه عليهم من قبل الرئيس أثناء سير الجلسة، و بذلك تكون المحاضر المحررة من قبلهم في هذا المجال حججا رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور، أو عند ممارستهم لبعض صلاحيات القاضي خاصة بالنسبة لتسليم نسخ الأحكام أو المصادقة على صحة الوثائق الرسمية المحررة من قبل القضاة.

و هكذا فإن الأحكام القضائية تونسية كانت أو أجنبية و كذلك محاضر الجلسات تعتبر حججا رسمية لصدورها عن قضاة يحملون صفة المأمور العمومي، غير أن هذه الصفة يتمتع بها غيرهم من معاوني القضاء مثل أعوان الضابطة العدلية الذين يعتبرون شأنهم شأن القضاة من المأمورين العموميين المأجورين.

-2 أعوان الضابطة العدلية :

         حدّدت مجلة الإجراءات الجزائية مختلف الأعوان المعهود إليهم بمباشرة وظائف الضابطة العدلية و حصرتهم في :

-         وكلاء الجمهورية و مساعدوهم.

-         حكام النواحي.

-         محافظو الشرطة و ضباطها و رؤساء مراكزها.

-         ضباط الحرس الوطني و ضباط صفة و رؤساء مراكزه.

-         مشائح التراب.

-         أعوان الإدارات الذين منحوا بمقتضى قوانين خاصة السلطة اللازمة للبحث عن بعض الجرائم أو تحرير التقارير فيها.

-         حكام التحقيق في حالات التلبس

و الملاحظ أن فقه القضاء التونسي أضفى صفة الرسمية حتى على المحاضر المحررة من قبل أعوان الضابطة العدلية الأجنبية باعتبارها صادرة عن سلطة لها الصلاحيات اللازمة للقيام بذلك.

         كما اعتبرت محكمة التعقيب التونسية، أن الأبحاث التي يجريها حاكم التحقيق و من له نيابة قانونية عنه تحمل على الصحة إلى حد رميها بالزور.

و تجدر الإشارة إلى أن المشرع التونسي لم يحدد أعوان الإدارات الذين لهم صفة مأموري الضابطة العدلية باستثناء أعوان القمارق، بل ارتأى أن يجعل ذلك من أنظار القضاء.    و في هذا الإطار و على ضوء بعض النصوص المتفرقة حدد فقه القضاء بعض الأعوان الإداريين الذي يتمتعون بصفة الضابطة العدلية من بينهم أعوان المراقبة الاقتصادية  و متفقدي الشغل واعتبرت المحاضر المحررة من قبلهم أثناء مباشرتهم لمهامهم حججا رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور.

         غير أن صفة المأمور العمومي التي يتصف بها أعوان الضابطة العدلية و رسمية المحاضر المحررة من قبلهم لا تقتصر على هذا الصنف من المأمورين العموميين بل تشمل كذلك ضباط الحالة المدنية.

 

 

(3 ضباط  الحـالـة المدنية :

         تثبت صفة "ضابط الحالة المدنية" في التشريع التونسي لعدد هام من الجهات و رد ذكرها حصرا بالقانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في غرة أوت 1957 المتعلق بتنظيم الحالة المدنية و هي تباعا :

-         رؤساء البلديات

-         الولاة

-         المعتمدين الأولين

-         المعتمدين

-         العمد في حدود مرجع نظرهم الترابي

و قد منحت بعض اختصاصات ضابط الحالة المدنية إلى غير هذه السلط و ذلك في حالات خاصة من ذلك :

-         الأعوان الدبلوماسيين و القناصل بالنسبة لرسوم الحالة المدنية المتعلقة بالتونسيين المتواجدين خارج التراب التونسي[17].

-         قائد التشكيلات الحربية و موظفو الإدارة العسكرية و مديري المؤسسات الصحية التابعة للجيش عند وقوع تجنيد أو حصار أدى إلى تعطيل المصالح البلدية بالنسبة لرسوم الحالة المدنية المتعلقة بالجنود و البحارة في بعض الصور الخاصة التي لها علاقة بتعطيل سير المصالح البلدية بسبب نشوب حرب[18]،  و قائد الباخرة أو صاحبها إذا لم تكن الباخرة على ملك الدولة بالنسبة للولادة و الوفاة الحاصلين أثناء السفر بحري[19]. على أنه من المفروض أن يتم إيداع ممن ذكر الرسوم لدى من لهم صفة ضابط الحالة المدنية في الأصل عند الإرساء بأحد المواني.

-         السلط الواردة بالفصل 54 من قانون الحالة المدنية بالنسبة لرسوم وفاة الأشخاص المفقودين حيث أوجب عليهم القانون تحرير تقارير في الغرض و إحالتها على النيابة العمومية لغاية طلب صدور حكم بالتمويت، و يقوم الحكم الصادر بثبوت الوفاة في هذه الصورة مقام رسوم الحالة المدنية، و يحاج به الغير الذين لهم طلب إصلاحه فقط[20].

         و الملاحظ أنه بالرغم من أن هذه السلط الثلاثة الأخيرة قد منحت بعض امتيازات واختصاصات ضابط الحالة المدنية في حالات خاصة لتأكد الوضعيات و الوقائع التي تحصل أمامها دون أن تكون لها هذه الصفة بصورة أصلية، فإن جميع رسوم و وثائق الحالة المدنية التي تدخل في إطار هذه المهام تشكل حججا رسمية لا يمكن الطعن فيها إلا عن طريق الزور شأنها شأن الرسوم المحررة من قبل ضباط الحالة المدنية الأصليين[21]، و ذلك باستثناء رسم الزواج الذي اشترط المشرع أن يباشر تحريره إما ضباط الحالة المدنية الأصليين أو عدلين     و يقصد بذلك ضباط الحالة المدنية الوارد ذكرهم بالفصل الثاني من قانون الحالة المدنية أو عدلي إشهاد تطبيقا للقانون عدد 60 لسنة 1995 المنظم لمهنة عدول الإشهاد.

         و قد أوجب المشرع على عدول الإشهاد في هذه الحالة، ضرورة توجيه إعلام زواج (يكون مطابق للأنموذج الوارد بالملحق المضمن بقانون الحالة المدنية) إلى ضابط الحالة المدنية التابع لدائرة عملهم و ذلك في ظرف شهر من تاريخ تحرير العقد و قبل تسليم نسخة منه لمن يهمه الأمر. و يقتصر دور ضابط الحالة المدنية على ترسيم ذلك الإعلام بدفاتره.

         غير أن صفة المأمور العمومي لا تقتصر على هذه الفئة فحسب بل تمتد إلى غيرها لتشمل بعض الجهات الرسمية.

(4  الجهات الرسمية :

         تتمتع بعض الجهات الرسمية بصفة المأمور العمومي و تصطبغ الوثائق الصادرة عنها بالصبغة الرسمية من ذلك حافظ الملكية العقارية و قابض التسجيل.

 

v    حافظ الملكية العقارية :

         لئن لم يقع التنصيص صراحة صلب مجلة الحقوق العينية على أن حافظ الملكية العقارية هو مأمور عمومي بالنسبة للعمليات التي يباشرها لإشهار الحقوق العينية بالرسوم العقارية، فإن ثبوت هذه الصفة لحافظ الملكية العقارية و تستمد خاصة بالنظر إلى الأعمال التي يقوم بها      و الوثائق الرسمية التي يسلمها.

فحافظ الملكية العقارية يتولى متابعة جملة العمليات العقارية التي تقع على الرسم العقاري منذ نشأته تنفيذا لحكم التسجيل، فهو يتولى تضمن عمليات الترسيم بالرسوم العقارية المعنية بعد التحقيق فيها طبق القانون.

و كما يقوم بتسليم المالك سندات الملكية أو نسخا منها عند كل طلب. و يسلم للعموم جملة من الشهادات و الوثائق منها شهادة الملكية أو الاشتراك في الملكية أو شهادة تنصيص أو شهادة ترسيم أو شهادة في عدم الملكية أو جداول حوصلة حقوق عينية.

و علاوة على ما ذكر  يتولى حافظ الملكية العقارية تسليم نسخ مطابقة للأصل من وثائق مودعة بخزائنه إلى كل من له الصفة طبق للفصل 376 من م.ح.ع.

         و قد منح المشرع لحافظ الملكية العقارية دورا جديد يعزز مهامه السالفة الذكر و ذلك بتمكينه من تحرير العقود المتعلقة بالعمليات العقارية الخاضعة للترسيم بالسجل العقاري[22]، مستعينا في ذلك بأعوان إدارة الملكية العقارية المكلفين بمهمة التحرير[23].

 و حافظ الملكية العقارية إذ يقوم بجملة هذه الأعمال فهو محمول على النزاهة          و الصدق، لذلك فإن البيانات الواردة في الرسوم العقارية التي ينشئها و كذلك جملة الشهادات    و الوثائق الرسمية التي يصدرها تعد حججا رسمية و لا يطعن فيها إلا بالزور.

ذلك هو شأن قابض التسجيل الذي يتمتع كذلك بصفة المأمور العمومي عند ممارسته لمهامه.

v    قابض التسجيل :

         لقد ضبطت مجلة معاليم التسجيل و الطابع الجبائي الصادر بها القانون عدد 53 لسنة 1993 المؤرخ في 17 ماي 1993 مختلف العقود و النقل الخاضعة وجوبا لإجراء التسجيل    و ذلك سواء فيما يخص الكتابات العمومية بما في ذلك المحاضر التي يحررها عدول التنفيذ أو الحجج العادلة المحررة من قبل عدول الإشهاد أو العقود الإدارية أو عقود خط اليد[24].

كما حددت هذه المجلة الأشخاص المطالبين بمعاليم التسجيل و هم حسب مقتضيات الفصل 56 منها عدول الإشهاد و عدول التنفيذ و الأطراف في خصوص الأحكام و القرارات القضائية و الورثة بالنسبة للمعاليم الموظفة على التركات و أطراف التعاقد بالنسبة لبقية العقود و النقل الأخرى الخاضعة وجوبا للتسجيل.

         كما فرضت مجلة معاليم التسجيل و الطابع الجبائي على المأمورين العموميين عدم تسليم الأصول أو النسخ أو النظائر من العقود أو الأحكام الخاضعة للتسجيل دون إتمام موجبات التسجيل و إلا كانوا مسؤولين شخصيا عن دفع المعاليم[25].

         هذا و قد أوكلت المجلة مهمة استخلاص تلك المعاليم الجبائية إلى قابض المالية         و رؤساء مراكز مراقبة الأداءات و فرضت عليهم عدم تسليم نسخ العقود المسجلة لديهم أو مضامين من الدفتر المخصص لإجراء التسجيل لغير المعاقدين أو من ينوبهم إلا بإذن من الحاكم المختص.

وفي إطار ممارسته لهذه المهام يكون قابض المالية موظفا عموميا حملته الدولة جزءا من مسؤولياتها ليقوم بقسط من واجبها نحو المجتمع و هذا الواجب متمثلا في استخلاص معاليم التسجيل و إعطاء نسخ قانونية من العقود المسجلة لديه، بما يصح القول معه أن قابض التسجيل يتمتع بصفة المأمور العمومي عند ممارسته لهذه المهام.

و في هذا الإطار اعتبرت محكمة التعقيب التونسية أن "لقابض التسجيل صلاحية كافية لتسليم النسخ من العقود المودعة بمكاتبه و هو بذلك مأمور عمومي مأذون من طرف المشرع لتسليم النسخ و المصادقة عليها. واقتضى أيضا الفصل 470 من مجلة الالتزامات و العقود أن النسخ المشهود بمطابقتها للأصل من المأمور العمومي المأذون بذلك تقوم مقام الأصل"[26] و انتهت بذلك إلى أنه ليس للمحكمة أن تلغي هذه النسخ باعتبارها غير رسمية.

ذلك هو شأن المأمور العمومي الذي يتقاضى مرتبا من الدولة سواء كان خاضعا لقانون الوظيفة العمومية أو لا و تلك هي طبيعة الأعمال و الحجج الصادرة عنه فما هو الشأن بالنسبة للمأمور العمومي الذي يعمل لصالح نفسه ؟

ثانيا : المــــــأمــــور العمـــومي غير المــــــأجور من الدولة :

         يعتبر مأمور عمومي غير مأجور كل شخص حمّلته الدولة جزءا من مسؤولياتها ليقوم بقسط من واجبها نحو الأمّة و ذلك بدون أجر كعدول الإشهاد (1) و عدول التنفيذ (2).

(1 عـدول الإشهـاد :

لقد اعتبر القانون عدد 60  لسنة 1994 المؤرخ في 23 ماي 1994 المتعلق بتنظيم مهنة عدول الإشهاد هذه الفئة من صنف المأمورين العموميين و ذلك بالفصل الأول منه، إذ اقتضى        أنه :  "لعدل الإشهاد صفة المأمور العمومي و يخضع في ممارسة مهنته لهذا القانون".

و الملاحظ أن هذه الصفة لازمت عدول الإشهاد حتى قبل صدور الأمر المؤرخ في 24 جوان 1957 المتعلق بضبط إعادة تنظيم خطة العدالة و إحداث هيئة عدول منفذين و كتبة لهم محلفين، و ذلك استنادا إلى أحكام الفصل 445 من م.إ.ع الذي ضرب مثلا للمأمور العمومي بقوله : "العدول و نحوه" ولو أن هذه الصفة لم تمنح للعدول بصفة صريحة في ظل الأمر العلي المؤرخ في غرة جويلية 1929 حيث كان العدل يعتبر "شاهدا ذو صبغة رسمية" يمتاز عن الشهود العاديين بكونه يحرر الرسوم، وهذه الرسوم تعتبر ثابتة الصحة ولا يمكن الطعن فيها إلا بطريق الزور.

ويختص هذا السلك بتحرير كل ما ترغب السلط والأشخاص في إثباته بحجة رسمية من اتفاقات و تصريحات. كما يقوم بإجراء الاستجوابات المنشئة للالتزامات، و تحرير الفرائض.  

و يتولى علاوة على ذلك القيام بمهام أخرى مسندة إليه بمقتضى قوانين خاصة[27]، كتحرير الصكوك و الاتفاقات المتعلقة بالعقارات المسجلة و الخاضعة وجوبا لإجراءات الترسيم بدفاتر الملكية العقارية مثلما اقتضاه الفصل 377 (مكرر) من م.ح.ع. كما وقع تنقيحه بالقانون عدد 84 لسنة 1992 المؤرخ في 6 أوت 1992 المتعلق بتنقيح و إتمام بعض الفصول من مجلة الحقوق العينية.

كما يقوم عدول الإشهاد بدور مساعدي القضاء بالنسبة لما يقع تكليفهم به من أعمال     و مأموريات من قبل السلطة القضائية كإثبات أداء اليمين الحاسمة بالمسجد[28].

         وقد أوجب القانون عدد 60 المنظم لمهنة عدول الإشهاد على هذا الصنف من المأمورين العموميين ضرورة مسك دفتري مسودات و عمل يتم تسلمهما من وزارة العدل. وهذين الدفترين يقع عرضهما كل ثلاثة أشهر على توقيع وكيل الجمهورية.

وقد اقتضى الفصل 12 (فقرة أخيرة) من القانون المذكور أنه "لا يمكن قبول أعمال الإشهاد إلا إذا تولاها عدلان اثنان و سجلت بدفاتر خاصة (و هما دفتري المسودات و العمل) مع إثبات تواريخها و الإئتمان عليها و إخراج النسخ منها طبق القانون".

و انطلاقا من هذه الأحكام المنظمة لمهنة عدول الإشهاد، نتبين حرص المشرع على إحاطة المحررات و الحجج الصادرة عن هذا الصنف من المأمورين العموميين بعديد الضمانات حتى تصطبغ بالصبغة الرسمية و تكسب بذلك ثقة العاملين بها و المقبلين عليها.

و من هنا تكون مهمة عدول الإشهاد متمثلة بالأساس في إضفاء صفة الرسمية على الاتفاق الذي هو من عمل الأفراد المتعاقدة بدرجة أولى، فهم يتلقون العقد و ذلك خلافا لما هو الحال عليه بالنسبة لبقية المأمورين العموميين كعدول التنفيذ الذين لا يكتفون بتلقي الحجة الرسمية بل إن دورهم يمتد إلى حد إنشائه[29].

(2 عـدول التنفيـذ :

         يعتبر عدل التنفيذ من صنف المأمورين العموميين و ذلك طبقا للقانون عدد 29 لسنة 1995 المؤرخ في 13 مارس 1995 المتعلق بتنظيم مهنة العدول المنفذين إذ جاء بالفصل الأول منه أن "للعدل صفة المأمور العمومي و هو مساعد للقضاء يخضع في ممارسة مهنته لهذا القانون".

و عدل التنفيذ مكلف بتحرير وإبلاغ الاحتجاجات والإنذارات و الإعلامات و التنابيه            و الاستدعاءات. كما يختص بتنفيذ السندات التنفيذية القضائية والإدارية، وبإجراء المعايانات وبإتمام الإجراءات في البيوعات القضائية أو الاختيارية عند كل طلب أو عندما تنص قوانين خاصة على ذلك أو بمناسبة القيام بأعمال التنفيذية[30].

والملاحظ أن بعض البلدان العربية تسمى من يقوم بأعمال التنفيذ "محضرا" مثل مصر بينما أناطت بعض البلدان الأخرى هذه الأعمال بعهدة المحاكم مثل الجزائر والمغرب. و يتولى عدل التنفيذ تحرير محضرا خاصا بكل عمل من الأعمـال التي تقوم بها ويراعي عند تحريره الصيغ الشكلية المستوجبة قانونا.  وتعتبر هذه المحاضر حججا رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور.

وقد أكد فقه القضاء التونسي[31] على رسمية المحاضر التي يحررها عدول التنفيذ شرط أن يكون تحريرها داخلا في اختصاصهم. كما تبنت المحاكم الفرنسية[32] نفس الموقف بأن اعتبرت أن الاستدعاءات وكذلك الإعلامات بالحكم هي من قبيل الحجج الرسمية التي لا يطعن فيها إلا بالزور.

وقد وضع القانون عدد 60 لسنة 1994 المؤرخ في 23 ماي 1994 المنظم لمهنة عدول الإشهاد وكذلك القانون عدد 29 لسنة 1995 المنظم لمهنة عدول التنفيذ حدا للجدل القانوني[33] الذي طرح بمناسبة تنقيح مجلة الحقوق العينية بموجب القانون عدد 46 لسنة 1992 المؤرخ في 4 ماي 1992 و خاصة ما استوجبه الفصل 377 (مكرر) من م.ح.ع. من ضرورة تحرير الصكوك المتقدمة للترسيم بل الواجبة الترسيم بدفاتر الملكية العقارية من قبل هيئات تحرير محددة على سبيل الحصر[34]، و ما إذا كان بإمكان عدول التنفيذ تحرير تلك الصكوك خاصة و أن أمر 24 جوان 1957 الذي كان ساري المفعول أثناء صدور التنقيح لم يفرق بين عدول الإشهاد و عدول التنفيذ في خصـوص المهام الموكولة إليهما. و بصدور القانونين عدد 60 و عدد 29 السالف ذكرهما فصل المشرع بين المهام الموكولة لكلي العدلين، و أخضع كل منهما لنظام خاص به و بذلك حسم الموقف بأن سحبت مهمة تحرير العقود من المهام الموكولة لعدول التنفيذ[35].

         إلا أنه و مهما يكن من أمر، فإنّ صفة المأمور العمومي لازمت عدول التنفيذ كما أن المحاضر التي يحررونها في إطار المهام التي بقيت موكولة إليهم تصطبغ بالرسمية و لا يطعن فيها إلا بالزور. ذلك هو شأن صفة عدل التنفيذ و تلك هي صبغة الأعمال التي يقوم بها في إطار مهامه فهل أن صفته تشمل غيره من الأشخاص الذين يقومون بمهام شبيهة بالأعمال الموكولة إلى المأمور العمومي ؟

إن صفة المأمور العمومي و إن كانت ثابتة في جانب الأشخاص السابق ذكرهم، فإنها بقيت محل شك بالنسبة لبعض الفئات الأخرى مثل المحامين و الخبراء و المترجمين المحلفين      و الكتبة العموميين، إذ تأرجح الفقه بين الاعتراف لهذه الفئات بصفة المأمور العمومي و بين نفي هذه الصفة عنها.

و في هذا الإطار، اعتبر البعض[36] أن المحامي و إن كان دوره الأساسي هو الدفاع عن مصلحة منوبه أمام القضاء و غيره، فإن المشرع التونسي عمل على إضفاء صفة المأمور العمومي عليه بموجب الفصل 377 (مكرر) من مجلة الحقوق العينية الذي خول له إمكانية تحرير الصكوك و الاتفاقات الخاضعة للترسيم بالسجل العقاري، و بذلك تعتبر الكتائب المحررة من قبله في هذا المجال حججا رسمية.

إلا أن هذا التمشي لا يستقيم برأيي باعتبار أن التعريف التقليدي للمأمور العمومي يفترض القيام بمهمة أوكلتها له الدولة و المحامي لا يتوفر فيه هذا الشرط. كما أنه لا يمكن أن يستمد صفته من العقد الذي يحرره، هذا فضلا عن أن القانون المنظم لمهنة المحاماة[37] لم ينص على أن المحامي هو مأمور عمومي.

و لعل أهم إشكالية تطرح على هذا المستوى هي تلك المتعلقة بوجود طرف أمي[38] في العلاقة التعاقدية إذا كان الاتفاق المقدم عليه يتعلق بعقار مسجل. فهل يجوز للمحامي التعريف بإمضاءات أطراف ذلك العقد و تحرير محضر تلاوة في الغرض خصوصا و أن أحكام الفصل 378 من م.ح.ع. تفترض ضرورة التعريف بالتزام الأمي من قبل عدول أو غيرهم من المأمورين العموميين ؟

لقد درج عمل المحامين في هذا الخصوص على الاكتفاء بتحرير محتوى الاتفاق مع ترك التعريف بإمضاء المتعاقدين إلى السلط المختصة و نعني بذلك المأمورين العموميين الوارد تعدادهم بالفصل 378 من م.ح.ع. و الذين أناط لهم القانون مهمة تلاوة محتوى الاتفاق على أطراف العقد و الشهود قبل تلقي إمضاءاتهم و بصماتهم و إعداد محضر تلاوة في الغرض.

و بذلك يتأكد بأن المحامي ليس مأمورا عموميا و أن الكتائب التي يحررها هي مجرد كتائب خطية لا ترتقي إلى مستوى الحجج الرسمية. إذ لو كان كذلك لما تولى التعريف بإمضاءات الأطراف المعنية و لما حرر محضر التلاوة بنفسه.

أما في خصوص المترجمين المحلفين و الكتبة العموميين فقد كان موقف فقه القضاء التونسي واضحا و حاسما في عدم الاعتراف لهم بصفة المأمور العمومي[39].

و يثار التساؤل حول الطبيعة القانونية لتقارير الخبراء و ما إذا كانت هذه التقارير حججا رسمية صادرة عن مأمورين عموميين أم لا ؟

لا شك في أن الخبير لا يمارس أعماله بمقتضى تفويض من الدولة، و بذلك فإن التعريف التقليدي للمأمور العمومي لا ينطبق عليه. لكن هل يمكن اعتبار تعيين الخبير من قبل القضاء العدلي تفويضا له للقيام بمصلحة عامة ؟

لا يمكن الجزم بذلك طالما أن الخبير غير مقيد في أعماله بأي شكليات أو إجراءات خاصة، و ذلك بخلاف عدل التنفيذ الذي تخضع محاضره وجوبا إلى شكليات عند تحريرها تضمن مصداقيتها و إلا كانت باطلة. هذا فضلا عن أن ما يضمنه الخبير بتقريره لا يقيد المحكمة و لا يلزمها في شيء[40].

و قد اعتبر البعض أن ما ضمنه الخبير في تقريره من معاينات (Les constatations)      و وقائـع جـدت بحضـوره لا تحتـاج إلـى الطعن فيها بالزور[41] و إن كانت لها حجية علـى الغيـر خلافا للاستنتاجات و الملاحظات التي وصـل إليهـا الخبيـر باجتهـاده الشخصـي (Les appreciations).

على أن تقرير الاختبار بما يشمله من معاينات واستنتاجات يبقى خاضعا للاجتهاد القضائي بشرط التعليل في صورة مخالفة ما جاء به.

و هكذا يخلص بأن الكتائب التي يحررها كل من المحامي و الكاتب العمومي و الخبير        و المترجم المحلف لا ترتقي إلى مستوى الحجج الرسمية التي لا يطعن فيها إلا بالزور، استنادا إلى عدم تمتعهم بصفة المأمور العمومي، هاته الصفة التي تعد الشرط الأساسي و الجوهري لاكتساب الكتب الصيغة الرسمية و التي لا تتوفر إلا إذا كانت للمأمور العمومي سلطة          و اختصاص بإصداره.

ب- سلطة المأمور العمومي في كتابة الحجة الرسمية واختصاصه بها :

         اقتضى المشرع التونسي بالفصل 442 من م.إ.ع. على غرار جل التشريعات الأجنبية         و العربية[42] أنه لا يكفي لصحة الحجة الرسمية أن تكون صادرة عن مأمور عمومي، بل لا بد من أن يكون هذا الأخير منتصبا لذلك قانونا في محل تحريرها، و هو ما يفترض أن تندرج عملية التحرير في حدود سلطته (أولا) واختصاصه (ثانيا).

أولا : سلطة المأمور العمومي في إصدار  الحجة الرسمية و اختصاصه بها :

         تفترض سلطة المأمور العمومي في تحرير الحجة الرسمية ثبوت أمرين اثنين و هما :  ولايته لذلك و تمتعه بالأهلية اللازمة لإصدارها.

        (1 ثبوت الولاية القائمة للمأمور العمومي :

إن ثبوت ولاية المأمور العمومي عند تحريره للحجة الرسمية أمر بديهي و مفروض باعتبار أن صفة المأمور العمومي في حد ذاتها لا تكون موجودة في من تولى إصدار الحجة الرسمية إلا إذا كانت لهذا الأخير ولاية قائمة عند كتابتها.

و يتوفر هذا الشرط بعد صدور القرار بتعيين المأمور العمومي و أدائه لليمين القانونية[43]       و إتمام بعض الموجبات القانونية بالنسبة لبعض الأصناف الأخرى، كالترسيم بالجدول بالنسبة لعدول الإشهاد و عدول التنفيذ و إيداعهم لنموذج من إمضاءاتهم بوزارة العدل مقابل وصل في ذلك[44].

و هكذا فإن الأعمال التي يقوم بها المأمور العمومي قبل إتمام تلك الإجراءات تكون باطلة لصدورها عن غير ذي صفة.

و تستمر مبدئيا ولاية المأمور العمومي ابتداء من تاريخ تعيينه و أدائه اليمين القانونية إلى حين عزله أو استقالته ما لم تقع في الأثناء نقلته أو إيقافه عن العمل أو إحالته في أقصى الحالات على عدم المباشرة في صورة العجز البدني أو بناء على قرار تأديبي اتخذ بشأنه. ففي مثل هذه الحالات يفقد المأمور العمومي صفته تلك، و تكون الكتائب الصادرة عنه باطلة إلا إذا كان غير عالم بقرار العزل أو الإيقاف أو النقل، فتصبح تلك الكتائب حينئذ صحيحة و نافذة     و ذلك تطبيقا لنظرية الموظف الفعلي المتعارفة في القانون الإداري[45].

كما تعتبر صحيحة و نافذة - حماية للوضع الظاهر - الكتائب الصادرة عن المأمور العمومي المعين تعيينا باطلا كأن يكون قرار تعيينه مختلا من حيث الشكل أو صادرا عن سلطة غير مختصة بإصداره.

و إلى جانب ولاية المأمور العمومي من حيث إصدار الحجة الرسمية لا بد لهذا الأخير من أن تتوفر فيه صفة الأهلية حتى تثبت سلطته الكاملة بإصدارها.

        (2 ثبوت الأهلية اللازمة للمأمور العمومي :

إن المقصود بتوفر الأهلية في جانب المأمور العمومي عند تحرير الحجة الرسمية ليس أن يكون مميزا و أن تتوافر فيه أهلية الوجوب و الأداء المتعارف عليهما في مجال الالتزامات عموما، و إنما مناط الأهلية في هذه الصورة هو أن لا تتوافر في المأمور العمومي موانع قانونية تحول دون إصداره الحجة الرسمية.

و تجدر الإشارة كذلك إلى أن هذه الموانع القانونية لا صلة لها بالتحاجير التي يمكن أن يتعرض إليها المأمور العمومي فيما يتعلق ببعض التصرفات القانونية الأخرى كالشراء أو البيع و المنصوص عليها بمجلة الالتزامات و العقود بالفصول 566 و 567 و 568، و كذلك ببعض النصوص الخاصة مثل القانون المنظم لمهنتي عدول الإشهاد و عدول التنفيذ[46].

فالمأمور العمومي لا بد أن يكون أهلا للتصرف الذي يقوم به، فلا يجوز له أن يباشر كتابة حجة رسمية تخصه شخصيا أو تربطه و أصحاب الشأن فيها صلة مصاهرة أو قرابة طبقا لما يقتضيه القانون، و أساس هذا المنع رفع مظنة المحاباة أو التأثير على أحد المتعاقدين.

و تتحقق مصلحة الموثق الشخصية ليس فقط إذا كان هو أحد أصحاب الشأن في الحجة و إنما أيضا إذا كان وكيلا أو كفيلا أو شريكا لأحد أصحاب الشأن في تلك الحجة أي كلما توفرت فيه بعض القوادح القانونية أو الفعلية[47].

و لقد اعتبر جانب من الفقه[48] أن انعدام الأهلية في جانب المأمور العمومي في الصور المذكورة أعلاه، هي في الحقيقة "عدم أهلية خاصة"، باعتبار أن المبدأ هو تمتعه بأهلية كاملة لمباشرة شتى أنواع التصرفات بما في ذلك عملية إصدار الحجج الرسمية التي هي من طبيعة اختصاصه، و الاستثناء هو تقييد مجال أهليته كلما وجد مانع من الموانع السالف ذكرها يحول دون ذلك.

إلا أن سلطة المأمور العمومي في تحرير الحجج الرسمية بما تفترضه من ولاية و أهلية في جانبه غير كافية بمفردها لصحة الوثيقة الصادرة عنه باعتبارها حجة رسمية، بل لا بد من أن يكون هذا الأخير مختصا بإصدارها.

ثانيا : اختصاص المأمور العمومي بإصدار  الحجة الرسمية :

         تختص كل فئة من المأمورين العموميين في نوع معين من الحجج الرسمية و هو ما يعبر عنه بالاختصاص النوعي (1) كما تختص محليا في دائرة ترابية محددة و هو ما يعرف بالاختصاص الترابي (2).

        (1 الاختصاص النوعي :

يكون المأمور العمومي مختصا نوعيا بإصدار الحجة الرسمية "إذا كان ذلك مما يدخل في عمله من حيث نوع الحجة"[49]، فكل فئة من المأمورين العموميين تتخصص في نوع معين من الحجج الرسمية.  و بذلك لا تكون لها سلطة مجردة في إصدار جميع الحجج و إنما تكون لها سلطة إصدار الحجج التي تختص بها نوعيا أو موضوعيا.

فلئن كان اختصاص عدل الإشهاد يبدو في ظاهره عاما و مبدئيا في مجال تحرير الحجج الرسمية، و ذلك بتحريره للاتفاقات و التصريحات و إعداده للفرائض و إجرائه  للاستجوابات المنشئة للالتزامات[50] و إبرامه لعقود الزواج[51]، فإنه غير مؤهل بالمقابل لتحرير غيرها من الحجج الرسمية التي تدخل في اختصاصات بقية المأمورين العموميين. كما أن كاتب الجلسة يختص بتحرير محاضر الجلسات، و القاضي يختص بتحرير الأحكام القضائية و الولائية على حد سواء[52] أما تنفيذها فإنه موكول إلى عدل التنفيذ الذي يختص كذلك بتحرير محاضر الاستدعاءات و الإعلامات و المعاينات و التنابيه...[53]

         و يختص ضابط الحالة المدنية بتحرير رسوم الحالة المدنية من ولادات و وفيات       و عقود زواج دون غيرها من العقود المدنية الأخرى. أما أعوان الضابطة العدلية فإن مهامهم مذكورة حصرا بالفصل 9 من م.إ.ج. و لا يمكن لهم تحرير محاضر في شأن ما عادها من الأعمال.

و حافظ الملكية العقارية مهامه محددة بالفصل 358 (جديد) و ما يليه من م.ح.ع. مثلما تم تنقيحه بالقانون عدد 35 لسنة 2001 المؤرخ في 17 أفريل 2001، و لا تعبر بذلك الوثائق الصادرة عنه خارج نطاق صلاحياته حججا رسمية.

ذلك هو شأن قابض التسجيل الذي يتولى تسجيل العقود و إعطاء نسخا منها مطابقة لأصلها[54] دون إمكانية تجاوز هذه المهام.

و هكذا فإنه إذا ما تجاوز المأمور العمومي صلاحياته المحددة قانونا و حرر كتائب لا تدخل في اختصاصاته فإن ما يحرره يعتبر باطلا و لا يعتد به قانونا. و مثال ذلك الصورة التي تمضي فيها إدارة الأشغال العاملة اتفاقا يخص إدارة أملاك الدولة الخاصة[55].

و يترتب على ما تقدم أنه لا يجوز وفقا لقواعد الاختصاص النوعي أن يحرر القاضي عقودا أو يصدر عدل الإشهاد أو التنفيذ أحكاما قضائية أو يحرر قابض التسجيل أو حافظ الملكية العقارية المحاضر.

كما يتجه التوضيح في هذا الخصوص أنه قد يكون تحرير الحجة داخلا في اختصاصات المأمور العمومي الذي باشرها إلا أنه يقحم فيها بيانات لا تدخل في تلك الاختصاصات، كأن يقوم عدل الإشهاد مثلا بتقدير حالة المتعاقد الأهلية، و قد اعتبر جانب من الفقه[56] أن مثل هذه التصريحات ليست لها قيمة و يمكن إثبات ما يخالفها بكل الطرق و لا تحتاج إلى الطعن فيها بالزور.

         و لا يكفي أن يكون المأمور العمومي مختصا نوعيا بتحرير الحجة الرسمية بل لا بد أن يكون عمله ذلك داخلا في إطار اختصاصه الترابي.

        (2 الاختصاص الترابي :

         لكل فئة من المأمورين العموميين دائرة ترابية محددة لا يجوز له تخطيها أثناء مباشرة أعماله و هو ما قصده المشرع التونسي بالفصل 442 من م.إ.ع. بعبارة "المأمورون العموميون المنتصبون لذلك قانونا في محل تحريرها".

فمحل التحرير أو الدائرة الترابية التي يعمل بها المأمور العمومي تحدد الاختصاص المكاني لهذا الأخير، و بذلك فإنه و بالنسبة للمأمورين المختصين بتحرير العقود يكون اختصاصهم النوعي محددا بالجهة الواقع تعيينهم بها و ليس بالجهة التي تقيم بها الأطراف المتعاقدة، أو الجهة التي يوجد بها موضوع التعاقد و بذلك فإنه يجوز لشخص مقيما بأحد ولايات الجمهورية أن يطلب تحرير عقد لدى عدل إشهاد كائن مكتبه بتونس العاصمة.

أما بالنسبة لبقية المأمورين العموميين فإن القانون حدد لكل فئة منهم دائرة ترابية يمارسون بها اختصاصاتهم، من ذلك أنه يقع تطبيق قواعد الاختصاص الترابي للمحاكم التونسية الواردة بمجلة المرافعات المدنية و التجارية و كذلك بمجلة الإجراءات الجزائية فيما يصدره القاضي و أعوانه من وثائق رسمية. 

ذلك هو شأن مساعدي القضاء من عدول التنفيذ و كذلك شأن عدول الإشهاد الذين أوجب عليهم القانون ممارسة أعمالهم بكامل دائرة المحكمة الابتدائية التي بها مركز انتصابهم[57].

و نفس هذا التحديد نجده في مجال اختصاص ضباط الحالة المدنية   و أعوان الضابطة العدلية و غيرهم من المأمورين العموميين.

و الملاحظ أنه و باستثناء قواعد الاختصاص الترابي للمحاكم التي لا تهم النظام العام   و يجوز للأطراف الاتفاق على مخالفتها و ما تمنحه هذه الفرصة من إمكانية صدور أحكام قضائية من غير السطلة القضائية المختصة ترابيا، فإن تحرير الكتائب.

من غير مأمور عمومي مختـص ترابيا ينجر عنه بطلانها بصفتها حججا رسمية و تفقد بذلك الحجية المفترضة في هذا النوع من الكتائب[58] و هكذا فإن الكتائب الصادرة عن أشخاص تتوافر فيهم صفة المأمور العمومي في حدود سلطتهم تكون حججا رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور لكن شريطة احترام محررها لبعض الشكليات.

الفقرة الثانية : الشروط  الشكلية أو مراعاة الشكليات المقررة لكتابة الحجة الرسمية :

لا يمكن مبدئيا تفسير قرينة الرسمية التي تتمتع بها الحجج الرسمية إلا بمراعاة المأمور العمومي عند إصدارها لجملة من الشكليات التي اقتضاها القانون لنوعها. لذلك و حتى تكون هذه القرينة ملازمة للحجج الصادرة عن المأمورين العموميين لا بد من أن تكون هذه الأخيرة تامة بالنسبة لمحتواها (أ) صحيحة بالنسبة لصورتها (ب).

أ‌- ضرورة أن تكون الحجة الرسمية تامة بالنسبة لمحتواها  

حتى تحافظ الحجة الرسمية على صيغتها الرسمية لا بد من أن تكون تامة من حيث المحتوى و ذلك سواء من حيث البيانات الشكلية (1) أو من حيث الإمضاء و اللغة المعتمدة لتحريرها (2).

(1 من حيث البيانات الشكلية :

أقر المشرع التونسي على غرار باقي التشريعات الأخرى، لكل نوع من أنواع الحجج الرسمية جملة من البيانات الشكلية التي يلتزم المأمور العمومي بمراعاتها عند إصداره للحجة الرسمية.

و تعتبر هذه البيانات من الضمانات الأساسية التي تضفي على الحجة الرسمية ظاهرا يدل على صحتها و يوحي بالثقة فيها و الاطمئنان إليها و تفضيلها في غالب الأحيان عن باقي الحجج الأخرى.

و قد كان مشرع 1906 حريصا على ربط رسمية الحجة بمدى احترام محررها لشكليات تحريرها و نلمس ذلك خاصة من خلال مقتضيات الفصل 448 من م.إ.ع. الذي ينزع عن الكتب صيغته الرسمية كلما حرر من غير ذي صفة لتحريره، أو لم تكن لمحرره الأهلية اللازمة، أو كلما كان هناك نقص في الصورة. و هذه العبارة الأخيرة أي "النقص في الصورة" تفيد وجود عيب في الشكل. و يتأكد هذا المعنى بالرجوع إلى النص الفرنسي للفصل 448 السالـف ذكره و الذي وردت به عبارة “Defaut de forme”، مما يتوجب معه على كل مأمور عمومي مراعاة شكليات الحجة الرسمية المختص بتحريرها و إلا افتقد ذلك الكتب لصيغته الرسمية.

و قد حدد المشرع التونسي البيانات الشكلية للحجج الرسمية المحررة من قبل عدول الإشهاد و ذلك بالقانون عدد 60 لسنة 1994 المؤرخ في 23 ماي1994  المتعلق بتنظيم مهنة هذا الصنف من المأمورين العموميين، و هي بيانات متعلقة أساسا بالعدل الذي باشر عملية التحرير، فيجب حينئذ ذكر اسمه الشخصي و مكان إقامته[59] و بيانات متعلقة بمكان العقد          و تاريخه[60]، و بيانات أخرى لها صلة بهوية أطراف التعاقد[61]، و بيانات أخرى متعلقة بهوية الشهود مع التنصيص على رقم بطاقة التعريف الوطنية لكل شاهد و تاريخ و مكان تسليمها[62]     و بيانات أخرى لها صلة بهوية المترجم الذي حضر أثناء التعاقد إذا كان أحد الأطراف لا يحسن اللغة العربية[63] كما يتوجب على عدل الإشهاد أن يذكر بأنه أطع الأطراف على محتوى الكتب   و أن يبين بأسفله مقدار الأجر المقبوض مع بيان مفصل في جميع المصاريف[64].

أما إذا تعلق موضوع الاتفاق بعقار مسجل فإن القانون فرض على عدل الإشهاد مراعاة مقتضيات الفصلين 373 و 377 ثالثا (جديد) من م.ح.ع. الذين يستوجبان بالنسبة للعقود الواجبة الترسيم بدفاتر الملكية العقارية اعتمادا على ما تثبته بيانات الرسم العقاري و هو ما يفترض بيان هوية أطراف العقد و اسم العقار و مساحته و عدده الرتبي بالسجل العقاري مع ضرورة التنصيص على اسمه الكامل و أنه اطلع على رسم الملكية و أشعر الأطراف بالحالة القانونية الواردة برسم الملكية، و لا بدّ له من الاستناد كذلك إلى المعطيات الواردة بنموذج يضبط بأمر.

كما يتحتم عليه ذكر عدد و تاريخ رخصة الولاية كلما كان أحد أطراف العقد أجنبيا[65] إلا أنه جرى العمل لدى عدول الإشهاد على عدم التنصيص على عدد و تاريخ الرخصة بل يتركون لها فضاءا أبيض بالعقد في انتظار ورود الرخصة من الولاية و لا يقع تسليم العقد عادة إلا بعد إضافة عددها و تاريخها صلبه.

و مهما يكن موضوع الحجة العادلة، فإنه يتحتم على عدل الإشهاد أن يحررها بسجل واحد و بخط واضح و دون اختصار في الحروف و لا بياض و لا فراغ و لا إقحام و لا تشطيب، و متى وقع ذلك لا بد له من توضيحه بذكر عدد التغيرات التي أدخلت على تلك الحجة و نوعها مع المصادقة عليها بوضع إمضائه أسفلها. كما لا يقبل منه أي إصلاح و لا إقحام و لا برش و لا زيادة في صلب الحجة و إلا اعتبرت باطلة. أما المخرجات و الملحقات فلا يمكن كتابتها إلا بالطرة ما لم يتعذر ذلك فتلحق بآخر الحجة. و لا بد لعدل الإشهاد من الإمضاء بها كما يجب أن تكون مقبولة و ممضاة ممن أمضى في العقد و إلا بطلت تلك الملاحق.

و الملاحظ أن شرط الكتابة بخط واضح لا يعني ضرورة أن تكون الحجة العادلة محررة بخط يد العدل، و إنما تجوز كتابتها عن طريق الرقن شرط احترام الشروط السالفة الذكر.

و لا تختلف هذه الشروط في القوانين المقارنة بالنسبة للبيانات الشكلية للحجج العادلة[66]    قد ذهب الفقه الفرنسي إلى اعتبار الشرط المكتوب بخط اليد على ظهر الحجة العادلة لا قيمة إثباتية له إذا لم تقع المصادقة عليه من قبل عدل الإشهاد[67].

أما فيما يتعلق بعقود الحالة المدنية فإن المشرع فرض على ضابط الحالة المدنية أو عدلي الإشهاد المباشرين لتحرير عقود الزواج ضرورة ذكر جميع البيانات المتعلقة بالزوجين   و الوالدين و تصريح الشاهدين بأن كلي الزوجين خلوا من الموانع الشرعية طبق أحكام الفصل 32 من قانون الحالة المدنية المؤرخ في غرة أوت 1957. كما يجب التنصيص على الحالة المدنية للزوجين قبل الزواج. و إذا كان من بينهما أرملا أو مطلقا، و جب ذكر اسم و لقب القرين السابق مع ذكر تاريخ انقطاع الحياة الزوجية بينهما (تاريخ الوفاة أو تاريخ الطلاق).

و أما إذا كان أحد الزوجين قاصرا فإنه يجب التنصيص على إذن الولي أو القاضي لإتمام الزواج كما يجب ذكر اسم وكيل الزواج عند الاقتضاء مع بيان المهر و قيمته.

و علاوة على البيانات السالفة الذكر فقد فرض المشرع ضرورة التنصيص صلب عقد الزواج على نية اعتماد الزوجين لنظام الاشتراك في الأموال أو الإعراض عليه و ذلك بعد تذكيرهم بفحوى الفصلين الأول و الثاني من القانون عدد 94 لسنة 1998 المؤرخ في 9  نوفمبر1998  المتعلق بنظام الاشتراك في الأملاك بين الزوجين[68].

أما فيما يتعلق بالبيانات الشكلية التي من المفروض أن تحتوى عليها الأحكام القضائية على اختلاف أنواعها و درجاتها فإنها تخص بالأساس بيان المحكمة التي أصدرت الحكم واسم الهيئة الحاكمة و كاتب الجلسة و تاريخ الحكم و عدده الرتبي بكتابة المحكمة مع إضافة اسم ممثل النيابة العمومية إذا تعلق الأمر بحكم جزائي[69].

و في نفس الإطار اقتضى الفصل 6 من م.م.م.ت. أن المحاضر التي يحررها عدول التنفيذ تحتوي وجوبا على تاريخ الإعلام باليوم و الشهر و السنة و الساعة، كما تتضمن الهوية الكاملة للطالب و الموجه إليه الإعلام مع ذكر مقرهما و اسم عدل التنفيذ الذي حرر المحضر، مع ذكر المحكمة التي يعمل بدائرتها و اسم من تسلم الإعلام مع إمضاء العدل المنفذ أسفل المحضر و بيان جملة المصاريف المبذولة و الأجرة المقبوضة بصورة مفصلة[70]، و لا بد كذلك من ذكر العدد الرتبي للمحضر.

و قد اعتبرت محكمة التعقيب التونسية أن "مجرد التنصيص بنسخة الحكم المدلى بها على وقوع الإعلام بتاريخ معين دون تحديد كيفية إنجاز ذلك لا يمكن اعتماده ضرورة أن عملية تبليغ الإعلام بالحكم المشار إليه بالفصل 141 من م.م.م.ت. لا يمكن قانونا اعتبارها إلا متى تمت بواسطة عدل تنفيذ و بموجب محضر مشتمل على جميع البيانات التي أوجبها الفصل الخامس من مجلة المرافعات المدنية و التجارية".[71]

كما تخضع الرسوم العقارية و الشهائد التي يمسكها حافظ الملكية العقارية إلى بيانات شكلية تتعلق بالصكّ و تاريخه و مراجع تسجيله بالقباضة المالية و نوع العملية المقبولة و بيانات أخرى متعلقة بهوية كل من الطرف الذي يمسّ بحقوقه الترسيم و الطرف المستفيد منه، و بيانات أخرى لها علاقة بموضوع الترسيم و مراجعه بالرسم العقاري و بالتحملات و الارتفاقات الموظفة لفائدة العقار أو عليه و بالثمن أو بقيمة المعاملة و نسبة الفائض و مدته بالنسبة إلى الرهن و بمراجع إيداع الترسيم المقبول و عدد و تاريخ سند الملكية الملقى و المسلّم[72]. كما تحتوي الشهائد المسلمة من إدارة الملكية العقارية سواء كانت شهادة ترسيم أو شهادة اشتراك في الملكية أو شهادة في مراجع تسجيل عقد محفوظ لديها. و قد فرض المشرع التونسي بالفصل 404 من م.ح.ع. على حافظ الملكية العقارية أن ينص بدفاتره و على التعاقب على جميع ما يقع إيداعه دون بياض و لا إقحام و إلا استهدف لعقوبات مالية و ذلك ضمانا لمصداقية السجل العقاري.

و في نفس هذا الاتجاه اعتبر الفصل 155 من م.إ.ج. أن المحاضر التي يحررها مأمور الضابطة العدلية لا تعتمد كحجة إلا إذا كانت من الناحية الشكلية محررة طبق القانون، و ضمن بها محررها ما سمعه أو شاهده شخصيا أثناء مباشرته لوظيفة في مادة من اختصاصه. و قد اعتبرت محكمة التعقيب التونسية أنه إذا كان محضر البحث محررا طبق القانون بذكر تاريخ المخالفة و ساعتها و الهوية الكاملة للمخالف واعترافه، و مذيلا بإمضاء رئيس المركز، فإنه يصبح معتمدا قانونا كوسيلة إثبات. و انتقدت بذلك موقف محكمة الموضوع فيما قضت به من بطلان إجراءات التتبع لمخالفة المحضر لمقتضيات الفصل 199 من م.إ.ج. لكونها أخطأت في تطبيق القانون باعتبار أن الفصل المذكور يتعلق ببطلان الأحكام و الأعمال أمام المحاكم و لا بمحاضر بحث مأموري الضابطة العدلية.[73]

إن ما تجدر ملاحظته في هذا النطاق هو أن التشريع التونسي المتعلق بالإثبات عموما ليس بالتشريع المغلق و المنزوي عن بقية التشاريع الأخرى بل هو تشريع ليّن و مرن، يقبل التأقلم مع باقي النظم العالمية عربية كانت أو أجنبية، لذلك جاءت مجلة القانون الدولي الخاص[74] ناصة على أن الشروط الشكلية للعقود تخضع إجمالا إلى مكان إبرامها ما عدا الشروط الشكلية للزواج التي أخضعها الفصل 46 من المجلة المذكورة إلى القانون الشخصي المشترك أو لقانون مكان إبرام الزواج.

إلا أنه و في المقابل و حرصا من المشرع على زجر جريمة تعدد الزوجات، فقد فرض على ضابط الحالة المدنية أو عدلي الإشهاد التونسيين أن لا يباشروا إبرام عقد الزواج الذي يكون أحد طرفيه من مواطني بلد يسمح بتعدد الزوجات إلا بناء على شهادة رسمية تثبت أن ذلك الزوج في حل من كل رابطة زوجية أخرى.

كما أخضع المشرع التونسي شكل الوصية و الهبة إلى القانون الشخصي للموصي أو للواهب  أو لقانون المكان الذين تمت فيهما[75].

أما العقود المتعلقة باستغلال العقارات فهي تخضع من حيث شكلها و مضمونها لقانون المكان الذي يوجد به العقار ما لم يحدد الأطراف القانون المنطبق[76]، و ما عدا هذه الأحكام الخاصة فإن المشرع التونسي اعتبر العقد صحيحا كلما توفرت فيه الشروط التي عينها القانون المنطبق على ذلك العقد أو قانون مكان إبرامه. أما إذا كان أطراف العقد موجودين بدول مختلفة فإنه يكون صحيحا إذا توفرت فيه الشروط المعينة بقانون إحدى هذه الدول[77].

كما تخضع الأحكام القضائية من حيث شكلها إلى قانون البلاد الذي صدرت به بشرط أن تكون السلطة التي أصدرتها مختصة وفق البلد الصادرة به[78]. على أن تنفيذها بالبلاد التونسية يبقى مرتبطا بضرورة إكسائها بالصبغة التنفيذية بمقتضى إذن صادر عن المحكمة الابتدائية المختصة ترابيا.

و يستروح من جملة هذه الأحكام أن الحجة الرسمية المحررة بالخارج سواء كانت اتفاقية أو قضائية، تخضع من حيث شروطها الشكلية إلى قانون مكان تحريرها، مع بعض الخصوصيات بالنسبة لعدد هام من العقود الشخصية كعقد الزواج و الهبة و الوصية. وبذلك فإنه لا مانع قانونا من اعتبار الحجج المحررة بالخارج حججا رسمية شأنها شأن الحجج الرسمية المحررة بتونس و ذلك كلما استجابت هذه الحجج إلى شروط تحريرها وفق القانون المختص بتنظيمها.

و هكذا يتأكد حرص المشرع الشديد على ضمان مصداقية هذا النوع من الكتائب باعتبار أن البيانات الشكلية المشترطة فيها تضفي عليها ظاهرا يدل على صحة ما تضمنته و توحي بالثقة فيها و الاطمئنان إليها. غير أن ذلك لا يتحقق واقعا إلا إذا كان تحرير الحجة الرسمية بلغة يفهمها المتعاقدان بشرط الإمضاء أسفلها.

(2 من حيث اللغة و الإمضاء :

* من حيث اللغة :

يعتبر شرط تحرير الحجة الرسمية باللغة العربية شرطا بديهيا و لئن لم يشترطه المشرع صراحة بالفصول المخصصة للإثبات بالكتابة عموما، و ذلك خلافا لبعض التشاريع العربية التي نصت بصفة صريحة على ضرورة التحرير باللغة العربية، من ذلك ما اقتضته المادة 11 من اللائحة التنفيذية لقانون التوثيق المصري الصادرة في 3 نوفمبر 1947 [79].

و قد جاء بالمذكرة الإيضاحية لهذه اللائحة  أنه "إذا كانت اللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية، فقد نصت المادة الحادية عشر على أن يكون توثيق المحررات بهذه اللغة، فإذا كان من المتعاقدين من يجهلها فليستعن بمترجم ملم بها على شرط أن يرتضيه الطرف الآخر حتى لا يكون ثمة مجال للطعن بوقوع تحريف في الألفاظ و المعاني التي كانت مقصودة من المتعاقدين"[80].

كما اعتبر القانون العراقي اللغة العربية هي اللغة الرسمية في تنظيم توثيق السندات، حيث جاء بالمادة 13 من قانون الكتاب العدول عدد 27 لسنة 1977 أن اللغة العربية و اللغة الكردية بطريقة كتابتها الحالية هي لغة تنظيم أو توثيق السندات داخل منطقة الحكم الذاتي العراقي غير أن القانون العراقي أجاز للكاتب العدل توثيق السندات المكتوبة باللغة أجنبية بعد الاطلاع على مضمونها بواسطة مترجم حلف اليمين[81].

و هذا بخلاف التشريع التونسي المنظم لمهنة عدول الإشهاد[82] الذي فرض أن تكون اللغة العربية هي المعتمدة في تحرير الحجج العادلة حتى و لو كان أحد طرفي العلاقة التعاقدية أجنبيا لا يحسن هذه اللغة. و في هذه الصورة انحصر الحل في الاستعانة بمترجم محلف يضع إمضاءه و ينصص على هويتة الكاملة، كل ذلك ما لم يكن لعدلي الإشهاد معرفة كافية بلغة ذلك الطرف الأجنبي فيتوليا تلقي تصريحاته بنفسيهما و ينصا على ذلك أسفل الكتب.

كما يتجلى حرص المشرع التونسي على اعتماد اللغة العربية في تحرير الحجج الرسمية من خلال تأكيده بالدستور على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد[83]، و طالما أن المأمور العمومي مثلما تم تعريفه في السابق هو الشخص الذي وكلته الدولة للقيام بعمل من أعمالها فإنه من المفروض أن يعتمد اللغة العربية التي هي اللغة الرسمية لمفوضته.

و يتأكد حرص المشرع التونسي على اعتماد اللغة العربية في تحرير الحجج الرسمية خاصة من خلال تفضيله العمل بالنص العربي كلما وجد تعارض بينه و بين النص الفرنسي. و في هذا الإطار أقرت محكمة التعقيب التونسية أنه في صورة تعارض مفهوم النص في اللغتين يجب اعتماد النص العربي لا الفرنسي[84].

و نفس هذا الشرط، أي شرط اللغة العربية، نلمسه في بقية الحجج الرسمية و خاصة منها القضائية حيث تصدر جملة الأحكام التونسية باللغة العربية و ذلك منذ تونسة القضاء        و توحيد المحاكم سنة 1957 و إلغاء المحاكم الفرنسية و محاكم الأحبار[85].

كما يتدعم شرط اللغة العربية بالرجوع إلى مجلة القانون الدولي الخاص و خصوصا الفصل 17 منها الذي يشترط لإسناد الإذن بتنفيذ الأحكام الأجنبية بتونس ضرورة تقديم نسخة قانونية معربة من الحكم المراد تنفيذه باعتبار أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد.

إلا أنه جرى العمل لدى المحاكم التونسية - في غير تلك الصور - على أن يوكل تقدير صلاحية الاحتجاج بورقة رسمية محررة بلغة أجنبية لقاضي الأصل الذي له أن يقبلها أو يرفضها و يطالب بتعريبها بواسطة مترجم محلف.

هذا و لا بد من أن تكون مضامين الحالة المدنية محررة هي الأخرى باللغة العربية.      و إن لم ينصص على ذلك صراحة بقانون الحالة المدنية فإن هذا الشرط وارد بالمنشور الصادر عن وزارتي الداخلية و العدل تحت عدد 101 في 3 جوان 1958 إلى كل من وكلاء الجمهورية و ضابط الحالة المدنية و الذي فرض ضرورة أن تكون أوراق الحالة المدنية من نسخ          و مضامين محررة باللغة العربية. و إذا دعت الحاجة إلى الإدلاء بها إلى سلطة أجنبية، فلا بد من أن يصحب الأصل المحرر باللغة العربية بترجمة فرنسية بمطبوعات مستقلة[86].

إضافة إلى ضرورة التحرير باللغة العربية التي هي اللغة الرسمية للبلاد فإنه و حتى تحافظ الحجة الرسمية على صيغتها الرسمية لا بد من الإمضاء عليها من كافة الأطراف المتداخلة فيها.

* من حيـث الإمضـاء :

إن شرط الإمضاء هو شكلية أساسية في جميع أنواع الحجج الرسمية سواء الاتفاقية أو القضائية أو الرسمية أو غيرها... و يستشف شرط الإمضاء من مجرد وجود علامة مميزة     و خاصة بالشخص الموقع تسمح بتحديد شخصيته و التعرف على هويته بكل سهولة.

و قد قدمه المشرع التونسي على أنه "يتمثل في وضع اسم أو علامة خاصة بخط يد العاقد نفسه مدمجة بالكتب المرسوم بها أو إذا كان إلكترونيا في استعمال منوال تعريف موثوق به يضمن صلة الإمضاء بالوثيقة الإلكترونية المرتبطة به". و بالمقابل فإن الطابع أو الختم لا يمكن أن يقوم مقام الإمضاء[87].

إن هذا التعريف الأخير للإمضاء يستجيب أكثر لشكل الحجج غير الرسمية، التي خصها المشرع بإحكام مرنة تتماشى و طبيعة و نسق المعاملات خاصة التجارية منها، و ذلك من خلال اعتماد الإمضاء الإلكتروني في الكتائب الخطية و تنزيله منزلة التوقيع بخط يد العاقد.

و يطرح الإشكال بخصوص جواز اعتماد هذا النوع من الإمضاء في الحجج الرسمية ؟

لئن كانت رسمية الحجة لا تمنع من أن تكون كتابتها بخط يد المأمور العمومي أو بواسطة الآلة الراقنة مواكبة للتطور العلمي، فإن الأمر يبدو على خلافه بالنسبة لإمضاء الحجة الرسمية من قبل المأمور العمومي أو الأطراف المتداخلة في الحجة إذ لا بد أن يكون التوقيع بخط يد المأمور العمومي أو العاقد نفسه، و لا سبيل إلى قبول مسألة الإمضاء الإلكتروني على الحجج الرسمية خاصة و أن طبيعة هذه التقنية الحديثة تفترض وجود صلة وطيدة بينها و بين النص الإلكتروني[88] الذي لا يمكن تنزيله إلا منزلة الكتب الخطي و ذلك تطبيقا لمقتضيات الفصل 453 (مكرر) من م.إ.ع[89] الذي اعتبر الوثيقة الإلكترونية  كتبا غير رسمي إذا كانت محفوظة في شكلها النهائي بطريقة موثوق بها و مدعمة بإمضاء إلكتروني.

و الإمضاء هو شكلية جوهرية مشروطة في جميع أنواع الحجج الرسمية على اختلافها لذلك كان لزاما على المشرع التونسي أن يشترط ضرورة تذييل لوائح الأحكام بإمضاء الهيئة التي أصدرتها، باعتبار أن هذه اللوائح هي حججا رسمية مثلما ومّأنا إليه في السابق.

و إذا ما تعذر على أحد القضاة على لائحة الحكم لمانع شرعي الإمضاء، فإنه يجب إعادة الترافع في القضية[90]. كما تخضع النسخ الأصلية للأحكام القضائية لنفس شكلية الإمضاء.   و إن تعذر إمضاؤها من أحد القضاة الذين أصدروا الحكم بعد التصريح به فإنه يقع الاكتفاء بإمضاء من بقي منهم و ينصص على ذلك التعذر المانع للإمضاء[91].

كما يشترط في المحاضر التي يحررها عدول التنفيذ بوصفها حججا رسمية ضرورة تذييلها بإمضاء عدل التنفيذ الصادرة عنه سواء تعلق الأمر بالأصل أو بالنظير[92].

و قد اعتبرت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة في قرارها المبدئي عدد 27728 بتاريخ 13 أفريل 1995 ما يلي : "حيث اقتضى الفصل 6 من نفس المجلة (م.م.م.ت.) وجوب تضمين محضر العدل المنفذ ببيانات منها ما جاء بالفقرة السادسة منه و المتعلقة بوجوب إمضاء العدل المنفذ على كل من الأصل و النظير، و هو إجراء أساسي باعتبار أن العدل المنفذ مأمور عمومي و أن محضر الاستدعاء هو حجة رسمية على معنى الفصل 442 من م.إ.ع. و أن عدم إمضائه من ذلك المأمور العمومي يفقده صبغة الحجة الرسمية و لو توفرت البيانات الأخرى..."[93] كما أنه من الواجب أن تشتمل رسوم الحالة المدنية على إمضاء ضابط الحالة المدنية و الماثلين لديه و الشهود أو يلاحظ بها السبب الذي يحول دون إمضاء الحاضرين       و الشهود[94]. كما تخضع نسخ الرسوم المطابقة دفاتر ضابط الحالة المدنية إلى نفس شكلية الإمضاء من قبل هذه السلطة[95].

و عدلي الإشهاد مطالبين من جهتهما بوصفهما مأمورين  عموميين بإمضاء الحجج العادلة التي يسلمانها إلى الطرفين بعد الإشهاد بمطابقتها للأصل الموجود بدفتر العمل[96] كما أنه من الواجب أن تكون المسودة ممضاة من قبل عدل الإشهاد و أطراف التعاقد و الشهود          و المترجمين إن وجدوا و ذلك بعد تلاوة مضمونها عليهم. و ينص عدل الإشهاد بآخر الكتب قبل الإمضاء على وقوع القراءة على المتعاقدين علنا بمحضر جليسه.

و إذا كان أحدهم غير قادر على الإمضاء فإنه يقع الاكتفاء بوضع بصمة إبهامه و يكتب العدل أسفل كل علامة إبهام اسم صاحبها[97] كما يتوجب إمضاء العدل و الأطراف المتعاقدة على المخرجات و الملحقات الموجودة بطرة الكتب و إلا اعتبرت لاغية[98].

إن اشتراط الإمضاء أسفل الحجج العادلة لم يتميز به المشرع التونسي بل إن هذه الشكلية فرضتها عديد التشاريع المقارنة كالتشريع الفرنسي[99] و القانون الجزائري[100] و القانون المصري[101].

و يحصل أن يسند بعض المأمورين العموميين كضباط الحالة المدنية و حافظ الملكية العقارية و قابض التسجيل تفويضا في الإمضاء إلى نائبيهم. و يعتبر الإمضاء ممن ذكر صحيحا و ناجزا في مثل هذه الصور. و لا يجوز تفويض الإمضاء بالنسبة لغيرهم مثل القضاة أو عدول التنفيذ أو عدول الإشهاد إذ لا بد من أن يكون الإمضاء واقعا بصفة شخصية بالنسبة لهؤلاء.

إن شروط صحة الحجة الرسمية لا تقف عند أصولها بل تمتد كذلك إلى صورها.

ب‌-     ضرورة أن تكون الحجة الرسمية صحيحة بالنسبة لنسخها :

إن تنوع النسخ المأخوذة من الأصل (1) يبرر تعدد شروط اعتمادها (2).

        (1 تنوع النسخ المأخوذة من الأصل :

لا تقف مهمة المأمور العمومي عند إصداره للحجة الرسمية بل إن أهم واجب محمول على هذا الأخير إثر تحريره للحجج الرسمية هو حفظ الأصول و تسليم النسخ منها طبق القانون.

فكاتب المحكمة ملزم بتسليم كل شخص صدر في منفعته حكم نسخة منه[102] كما أن عدل التنفيذ مطالب بتسليم نسخ من المحاضر التي يحررها إلى كل من يهمه الأمر، من ذلك أن نظير الاستدعاء يسلم إلى الشخص المعنى بالأمر نفسه أو في مقره الأصلي أو المختار طبق ما نص عليه الفصل 8 من م.م.م.ت. أما عدول الإشهاد فإنهم مطالبون بدورهم بحفظ أصول الحجج العادلة و تسليم النسخ منها طبق القانون[103].

ذلك هو شأن حافظ الملكية العقارية و قابض التسجيل بوصفهما مأمورين عموميين إذ أناط لهما المشرع الحق في تسليم المعنيين بالأمر نسخا من أصول الوثائق المودعة لديهم[104].  

و النسخ المأخوذة من الأصل متنوعة و يمكن تصنيفها إلى :

·        النسخ التنفيذية : وهي نقلة تامة من أصل الحجة الرسمية تتضمن الصيغة التنفيذية.

·        النسخ المطابقة للأصل : و هي أيضا نقلة تامة من أصل الحجج الرسمية إلا أنها لا تتضمن الصيغة التنفيذية، بل يكتفي فيها المأمور العمومي بالإشهاد بمطابقتها للأصل.

·        النسخ العادية : و هي »كتب يعاد به محتوى ما بكتب آخر بحجة أو رسم أو كتب مجرد يعبر عنه "فاصل"«[105]. و بذلك فإن النسخة العادية تفتقد إلى الخصائص المذكورة آنفا بالنسبة للنسخ التنفيذية و المطابقة لأصلها، باعتبارها مجرد صورة من أصل الكتب.

·        المضمون أو المستخرج : و هو عبارة عن صورة جزئية للأصل لا غير. حيث يقع الاقتصار على بعض الفقرات المقصودة التي تتعلق بها مصلحة طالبها. و قد اعتبرت محكمة التعقيب التونسية أن المضمون المسلم من إدارة التسجيل هو تلخيص مختصر للعقد[106]. و المضمون المستخرج من أصل الحجة الرسمية يسلمه عديد المأمورين العموميين كحافظ الملكية العقارية و قابض التسجيل[107] و عدول الإشهاد و ضابط الحالة المدنية.

·        النسخ المنجزة وفق وسائل فنية : هذه النسخ مستحدثة في القانون التونسي إذ أنها أدخلت حيز التطبيق بموجب تنقيح الفصلين 470 و 471 من م.إ.ع. و يستوجب هذا النوع الجديد من النسخ "تصوير الوثائق و توثيقها في أفلام و الاكتفاء بالتوثيق الفيلمي المصغر. هذا فضلا عن ظهور تقنيات جديدة للميكروفيلم مثل مخرجات الحاسوب الإلكتروني (les sorties d'ordinateur) التي تتضمن لا فقط نتائج المعالجة الآلية للبيانات و إنما تتميز عن الميكروفيلم العادي بعدم وجود نسخة أصلية سابقة (computer out put microfilm)"[108]. و قد توخى المشرع التونسي صياغة عامة عند حديثه عن الوسائل الفنية التي يمكن استخراج نسخ منها و ذلك لفسح المجال إلى القضاء للاجتهاد بحسب تطور تلك الوسائل عبر العصور.

و يقصد بالوسائل الفنية "جميع الوسائل المعلوماتية و الإلكترونية، و جميع ما يمكن أن يحدثه التطور الحاصل في عالم الإعلامية و الاتصالات و نقل المعلومة بدءا بإنشائها   و مرورا بتسجيلها و حفظها نهاية بخلاف الحجج الكتابية الورقية"[109] شرط أن توفر هذه الوسائل الفنية الضمانات لمطابقتها لأصلها. و نذكر على سبيل المثال الميكروفيلم و الميكروفيش و كل وسيلة خزن إلكتروني أو ضوئي.

و يثار التساؤل بخصوص مختلف أصناف الصور المأخوذة من الأصل حول الشروط التي من المفروض أن تتوافر فيها ليقع اعتمادها قانونا ؟

(2 تعدد الشروط المتعلقة بالنسخ :

         يحتفظ المأمور العمومي بأصل الحجة الرسمية الصادرة عنه، و لا يسلم إلى كل من يهمه الأمر إلا نسخا منها و ذلك بناء على طلب منه و بشروط هامة قد تكون متعلقة بالنسخة ذاتها أو بتسليمها إلى الأطراف المعنية أو إلى الغير.

·        الشروط المتعلقة بالنسخة ذاتها : تختلف الشروط المتعلقة بنسخة الحجة الرسمية باختلاف نوعها. فإذا كانت تلك النسخة تنفيذية وجب أن تتضمن الأمر الصادر إلى عدول التنفيذ لإجراء تنفيذ السند و إلى أعضاء النيابة العمومية و سائر أمري القوة العامة للإعانة على تنفيذ ذلك السند و لو باستعمال القوة العامة. و هو ما يعبر عنه بالصيغة التنفيذية.

و الجدير بالملاحظة أن المشرع التونسي لا يمنح الصيغة التنفيذية إلا للأحكام           و القرارات القضائية و الرقيم التنفيذي و بعض السندات الإدارية.

و قد جاء الفصل 253 من م.م.م.ت. ناصا على أن "كل نسخة تنفيذية يكتب بطالعتها ما يأتي :

-         الجمهورية التونسية

-         باسم الشعب التونسي أصدرت محكمة كذا الحكم الآتي نصه

و يذكر بآخره ما يأتي :

         و بناء على ذلك فإن رئيس الجمهورية التونسية يأمر و يأذن سائر العدول المنفذين بأن ينفذوا هذا القرار (أو الحكم) إن طلب منهم ذلك و وكيل الجمهورية العام و المدعين العموميين   و وكلاء الجمهورية بأن يساعدوا على ذلك وسائر آمري و ضباط القوة العامة بالإعانة على تحقيق تنفيذه عندما يطلب منهم ذلك بصفة قانونية و بموجب ذلك أمضي هذا القرار           (أو الحكم)[110].

         و خلافا للتشريع التونسي فإن بعض القوانين المقارنة مثل الجزائر و فرنسا تمنح الصيغة التنفيذية إلى بعض الحجج الرسمية الأخرى إلى جانب الأحكام القضائية من ذلك الحجج العادلة التي تحرر و تنتهي بنفس عبارات الأحكام القضائية من قبل عدل الإشهاد[111] كما تعتبر سندات تنفيذية في التشريع الفرنسي قرارات عدل التنفيذ المتعلقة بالصكوك البنكية الراجعة بدون رصيد ضد الملتزمين بها. و يلحق بالسندات التنفيذية في مصر محاضر الصلح بين الخصوم الواقعة لدى المحكمة[112].

         و تنفذ النسخ التنفيذية بكامل تراب الجمهورية و لا تسلم إلا نسخة تنفيذية واحدة إلى الصادر لمنفعته الحكم و تكون ممضاة و مختوما عليها بطابع المحكمة[113].

         كما تتضمن النسخة التنفيذية التنصيص على تسليمها مع بيان تاريخ التسليم و اسم الشخص الذي سلمت له و ذلك بسعي من كاتب المحكمة[114].

         هذا و إذا ما تولت المحكمة المتعهدة إصلاح حكمها بناء على وجود غلط في الرسم أو غلط مادي في الاسم أو الحساب أو غير ذلك من الإخلالات التي لا تمس بأصل الحق المكتسب بواسطة ذلك الحكم، فإنه لا بد من التنصيص على ذلك الحكم الصادر بالإصلاح بطرة النسخة المعطاة منه سواء كانت تنفيذية أم مجردة[115] .

         أما فيما يتعلق بالنسخ الأصلية من الأحكام القضائية فإنها تكون ممضاة من القضاة الذين أصدروا تلك الأحكام. و إذا ما تعذر إمضاء أحدهم بعد التصريح بالحكم، فإنه يقع الاكتفاء بإمضاءات من بقي منهم. و ينص بها على ذلك العذر المانع للإمضاء[116].

و تجدر الملاحظة إلى أن النسخة الأصلية من الحكم القضائي لا يمكن تسليمها إلى الأشخاص المعنية بها، بل يتم الاحتفاظ بها بخزينة المحكمة و تعطى منها نسخا مجردة أو تنفيذية طبق القانون. أما في خصوص الأحكام القضائية الأجنبية، فقد اكتفى المشرع التونسي صلب مجلة القانون الدولي الخاص باشتراط أن تكون نسخ تلك الأحكام قانونية حتى يتسنى تنفيذها بتونس[117] و عبارة "نسخة قانونية من الحكم أو القرار الأجنبي". نعني أن تكون تلك النسخة مستوفاة لشروطها القانونية طبق قوانين البلد الصادرة فيه سواء من حيث محتواها أو شروط تسليمها.

         و قد اشترطت محكمة التعقيب التونسية في خصوص نسخ الأحكام المقدمة إلى المحكمة ضرورة أن تكون مطابقة للأصل معتبرة خلو تلك النسخ من إمضاء المأمور العمومي بخط يده لاغية و لا عمل بها[118]. كما اعتبرت النسخ المذيلة بآثار الطابع فقط دون إمضاء المأمور العمومي عليها بخط يده مجرد ورقة بلا أية قيمة عاملة. و ذلك حتى و لو كانت بها عبارة "نسخة طبق الأصل"[119].

كما يشترط في نسخة الحكم العقاري الصادر بالتسجيل أن تكون موقعا عليها من طرف رئيس المحكمة العقارية[120].

         أما في خصوص النسخ المستخرجة من بقية الحجج الرسمية فهي خاضعة ضرورة إلى إمضاء المأمور العمومي الصادرة عنه.

ذلك هو شأن نظير المحاضر التي يحررها عدل التنفيذ و الذي يسلمه إلى الأشخاص المعنية طبق الفصول 9 و 10 و 11 من م.م.م.ت.، حيث فرض المشرع ضرورة إمضاء عدل التنفيذ على كل من الأصل و النظير و إلا كان محضره معرضا للإبطال[121].

         كما أنه من المحتم على عدل التنفيذ التنصيص صلب نسخة كل محضر يحرره على مقدار الأجر المقبوض مع بيان مفصل في جميع المصاريف[122].

         و كبقية المأمورين العموميين، فإن حافظ الملكية العقارية ملزم بتسليم المعنيين بالأمر نسخا من الحجج الرسمية الصادرة عنه و كذلك نسخا من الوثائق المودعة بإدارة الملكية العقارية و التي لا بد من أن تكون مشهودا بمطابقتها للأصل و بصحة تاريخ إيداعها[123].

         أما فيما يتعلق بنسخ رسوم الحالة المدنية، فقد فرض المشرع أن تتضمن تاريخ تسليمها بلسان القلم، و تحلى بإمضاء وختم السلطة التي سلمتها و تتضمن مضامين رسوم الحالة المدنية علاوة على بيان الدائرة التي حرر بها الرسم، النسخة الحرفية لذلك الرسم و ما ضمن به من ملاحظات و ترسيمات موجودة بالطرة باستثناء تصريحات الشهود و الوثائق المدلى بها لدى ضابط الحالة المدنية[124].

         أما إذا تعلق الأمر بحجج عادلة، فإن من واجب عدل الإشهاد أن يسلم إلى الطرفين الكتب الذي باشر تحريره بعد مطابقته للأصل الموجود بدفتر العمل. كما يمنح المعنيين بالأمر نسخا مشهودا بمطابقتها للأصل. ويجب أن يذكر بالنسخة اسم و صفة القاضي الذي أذن بتسليمها، واسم الشخص الذي سلمت له، و الغرض من تسليمها، و بيان عدد النسخ المسلمة[125]. كما ينصص بالنسخة على مقدار الأجر المقبوض مع بيان مفصل في جميع المصاريف.

 

·        الشروط المتعلقة بتسليم النسخ :

لئن كانت النسخ التنفيذية لا تخضع عند تسليمها أول مرة إلى أي شكلية شأنها شأن تسليم النسخة المجردة من الحكم، فإن إسناد نسخة تنفيذية ثانية إثر تلف النسخة التنفيذية الأولى يخضع ضرورة إلى الحصول على حكم استعجالي من رئيس المحكمة التي أصدرت الحكم المراد استخراج نسخة تنفيذية منه، و ذلك بعد استدعاء الخصوم كما يجب و بشرط إعطاء ضامن مالي إذا تعلق ذلك الحكم بأداء مال إلا في حالات استثنائية[126].

و تخضع نسخ الوثائق المودعة لدى إدارة الملكية العقارية إلى شكلية الحصول على إذن من رئـيس المحكمة الابتدائية المختصة ترابيا بناء على مجرد مطلب، و ذلك كلما كان طلب تلك النسـخ ممن له مصلحة في ذلك من غير المتعاقدين أو ورثتهم أو من انجر له حق منهم. أما تسليم نسخ الرسوم العقارية أو شهادات الملكية أو شهادات في عدم الملكية فإنه لا يتم إلا بناء على طلب صريح من المعني بالأمر (في شكل مطبوعة معدة سلفا من قبل إدارة الملكية العقارية)[127].

كما يخضع تسليم نسخ رسوم الحالة المدنية المطابقة للأصل إلى غير وكيل الجمهورية أو صاحب الرسم و أصوله و فروعه و زوجه غير المطلق أو الأرمل و وليه أو نائبه القانوني، إلى ضرورة الحصول على إذن في ذلك من حاكم الناحية المختص ترابيا، شرط أن يكون مطلب تسليم النسخة ممضى من صاحبه. و في صورة الامتناع فإن المطلب يحال على رئيس المحكمة الابتدائية الذي يبتّ في ذلك بحكم استعجالي[128].

أما في خصوص تسليم نسخ العقود المسجلة بالقباضة المالية أو مضامين من الدفتر المخصص لإجراء التسجيل لغير المتعاقدين أو من ينوبهم فلا يتم إلا بعد الحصول على إذن من الحاكم المختص[129] الذي يمكن أن يكون رئيس المحكمة أو حاكم الناحية بحسب اختصاصهما الحكمي.

إن تعدد الشروط التي فرضها القانون سواء بالنسبة لأصل الحجة الرسمية أو بالنسبة لنسخها يعكس بوضوح أهمية هذا السند على المستوى العملي، لذلك فإن الإخلال بأحد شروطه يترتب عنه جزاءات هامة و متفاوتة.

المبحث الثاني : الجزاءات المترتبة عن تخلف شروط الحجة الرسمية 

         إن الشروط و الشكليات التي فرض المشرع مراعاتها عند إصدار الحجة الرسمية تتصل اتصالا وثيقا برسميتها، لذلك فإن تخلف إحدى تلك الشروط تترتب عنه جزاءات تختلف بحسب طبيعة الإخلالات المتصلة بتلك الشروط (فقرة أولى)، و تؤثر بدرجة أولى على قيمة الحجة الرسمية (فقرة ثانية).

فقرة أولى : طبيعة الإخلالات المتصلة بالحجة الرسمية

         قد تؤدي الإخلالات المتصلة بشروط الحجة الرسمية إلى فقدان هذه الأخيرة لصفتها تلك مع الحط من قيمتها الإثباتية (أ)، و قد تفقدها صفتها و قيمتها الإثباتية معا (ب) فلا تكون لها بذلك أية قيمة قانـونية، كما يمكن أن لا تؤثر تلك الإخلالات سواء على صحة الحجة الرسمية أو على قيمتها الإثباتية (ج).

 

 

 

أ‌- الإخلالات التي تفقد الحجة الرسمية صفتها و تحط من قيمتها في الإثبات :

يفرق الفقه[130] لتحديد الجزاء المترتب عن فقدان الصيغة الرسمية للحجة الرسمية بين ما إذا كان الإخلال ماسا ببيان أو بشكلية جوهرية أو متعلقا بشكلية أو إجراء غير جوهري فيرتب جزاء البطلان في الصورة الأولى بينما يبقي على صحة الحجة الرسمية في الصورة الثانية.

         و قد تعرضت هذه التفرقة إلى النقد من قبل جانب آخر من الفقه[131] الذي اعتبرها تفرقة مصطنعة و غير صائبة باعتبارها لا تستند إلى معيار دقيق و ثابت.

و قد ذهب من تبنى هذا الموقف الفقهي إلى اعتبار أن "ما هو جوهري ليس الوضع أو الشكل بل العيب الذي يشوبه عند الإخلال به"[132] و "العيب الجوهري (في نظرهم) هو الذي يحول دون تحقيق الغاية من الوضع الذي أدى بخلقه إلى وجود العيب... فإذا ترتب على عدم مراعاة وضع من الأوضاع عدم تحقق الغاية منه فإن المحرر يكون معيبا بعيب جوهري يحول دون اعتباره محررا رسميا.

أما إذا تحققت الغاية من وجوب مراعاة وضع معين رغم تخلف هذا الوضع فإن المحرر لا يكون معيبا بعيب جوهري و من ثمة يعدّ من المحررات الرسمية بالرغم من ذلك الوضع"[133].

إلا أنه و مهما يكن من أمر، فإن تقدير ما يترتب على العيوب المادية التي ترد على الحجة الرسمية مسألة موكولة لاجتهاد القضاء الذي له وحده تقدير قيمة الدليل وفقا لما يمليه عليه اجتهاده الخالص مستأنسا في ذلك بأحكام الفصل 448 من م.إ.ع. الذي حدد الإخلالات التي يترتب عنها بطلان الحجة الرسمية بصفتها تلك مع الحط من حجيتها في الإثبات و ذلك بتنزيلها منزلة الكتب العرفي.

إذ يقتضي هذا الفصل أنه : " إذا كان الكتب لا يعتبر رسميا لكون تحريره من وظيفة غير الذي حرره أو لعدم أهلية أو لنقص في الصورة اعتبر كتبا غير رسمي إن كان به إمضاء المتعاقدين الواجب رضاهما لصحة العقد".

و لنحقق فهما واضحا و ضافيا حول أحكام هذا الفصل، لابد من الرجوع إلى صياغته الفرنسية حتى يتسنى لنا الوقوف على مفاهيم بعض العبارات الواردة به و تحديد المقصود منها بالضبط.

إذ جاء بهذا الفصل حسب صياغته الفرنسية ما يلي :

« L'acte qui ne peut valoir comme authentique, par suite de l'incompétence ou l'incapacité de l'officier, ou d'un défaut de forme, vaut comme écriture privée, s'il a été signe des parties dont le consentement est nécessaire pour la validité de l'acte ».

إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند استقراء هذا الفصل هو أن أحكامه لا تنطبق إلا على الحجج الرسمية الاتفاقية كالحجج العادلة. و يستشف ذلك خاصة من خلال ما ورد في مؤخرته من عبارات توحي بذلك إذا جاء به ما يلي : "... إن كان به إمضاء المتعاقدين (des parties) الواجب رضاهما (consentement) لصحة العقد (l'acte)."

و عليه، فإنه لا بد من استبعاد تطبيق أحكامه على باقي الحجج الرسمية القضائية أو الإدارية أو غيرها باعتبارها لا تتضمن اتفاقات أو تصرفات قانونية تستدعي رضاء أطرافها.

إلا أن القول بأن أحكام الفصل 448 من م.إ.ع. تقف عند الحجج الرسمية التي تتضمن تصرفات قانونية تستوجب رضاء أطرافها، من شأنه أن يثير التساؤل بخصوص بعض التصرفات القانونية التي تشرف عليها المحكمة و تحرر في شأنها أحكاما قضائية مثل محضر التبتيت الذي يتضمن نتيجة التبتيت و يكون مصاغا في الشكل العادي للأحكام[134].

فهل أن هذه الأحكام المتعلقة بالبيوعات القضائية تنطبق في شأنها مقتضيات الفصل المشار إليه أعلاه باعتبارها تتضمن تصرفات قانونية ؟

لئن كان البيع القضائي هو بيع جبري يرد إثر عقلة أموال المدين الذي تلدّد في الخلاص، فإن المشرع فرض أن تصاغ نتيجة عملية التبتيت صلب محضر يأخذ الشكل العادي للحكم القضائي و ينصص به على الإجراءات المتبعة و على مبلغ المصاريف و الأجور المسعرة و على البتة الواقعة على التصاريح المذكورة بالفصل 428 من م.م.م.ت.

إذ لا بد لصحة محضر التبتيت من إمضاء آخر مزايد من المحامين حال انعقاد الجلسة بأسفله بعد ذكر الثمن بلسان القلم و تمكين منوّبه (المبتت له) إذا كان حاضرا بجلسة التبتيت من الإمضاء بالمحضر، و عند التعذر وجب عليه تقديم تصريح في بيان الهوية الكاملة للمبتت له مع تقديم الأوراق التي تفيد قبوله أو تقديم توكيل و ذلك في ظرف ثلاثة أيام من وقوع البتة و إلا اعتبر التبتيت واقعا للمحامي الذي أرسى عليه المزاد[135].

فمحضر التبتيت و إن كان يتضمن تصرفا قانونيا و هو البيع، و يتطلب ضرورة توقيع المبتت له و محاميه بأسفله للتدليل على رضائهما التام، فإنه لا يمكن اعتباره عقد بيع عادي، نظرا و أنه خاضع لإجراءات و بيانات خاصة، فضلا عن أن المشرع حدد طبيعته القانونية باعتباره "حكما قضائيا". لذلك فإن اشتمال محضر التبتيت على أحد الإخلالات الوارد ذكرها بالفصل 448 من م.إ.ع. يجعله باطلا و لا يمكن تنزيله منزلة الكتائب الخطية بالرغم من اشتماله على إمضاء المبتت له و محاميه نظرا لكونه حكما قضائيا و أن مجال انطباق ذلك الفصل محصور في العقود الرضائية المضمنة في حجة رسمية.

كما تجدر الإشارة إلى أن مقتضيات الفصل المذكور سابقا لا تكون عاملة في الحجج الرسمية الاتفاقية إلا إذا كانت الصيغة الرسمية غير مشترطة لصحة التصرف المضمن بها     و بشرط أن تكون الإخلالات الواردة بها من نوع ما ذكر بذلك الفصل.

بما يعني أن تتعلق هذه الإخلالات إما بعدم اختصاص محرر الحجة الرسمية بإصدارها (l'incompétence) أو بعدم أهليته (l'incapacité) أو بنقص في الصورة أي عيب في الشكل (Défaut de forme).

فالحجة العادلة الصادرة عن شخص لا تتوفر فيه صفة المأمور العمومي (كأن تكون محررة من قبل خبير أو مترجم محلف) لا يمكن اعتبارها كذلك و لو توفرت فيها بقية شروط صحة الحجة الرسمية، بل إنها تعد من قبيل الكتائب الخطية و ذلك كلما تضمنت إمضاء ذوي الشأن و كانت الصيغة الرسمية غير مشترطة لصحة التصرف.

كما تعتبر الحجج العادلة التي يباشر تحريرها مأمور عمومي ليست له سلطة في إصدارها (كأن تكون الحجج المحررة من قبل مأمور عمومي قبل أدائه اليمين القانونية مثلا أو بعد عزله أو استقالته أو إحالته على عدم المباشرة) باطلة بصفتها تلك لتحريرها من غير ذي صفة.

كل ذلك ما لم يكن الذي حررها غير عالم بقرار عزله أو إيقافه أو إحالته فتصبح حينئذ تلك الكتائب صحيحة و نافذة بوصفها حججا رسمية و ذلك تطبيقا لنظرية الموظف الفعلي.

كما تخرج عن قاعدة البطلان الحجج المحررة من قبل مأمور عمومي معينا تعيينا باطلا كان يكون القرار الصادر بتعيينه مختلا شكلا أو صادرا عن سلطة غير مختصة بإصداره.

و خلافا لهذه الصور فإن اختلال شرط الأهلية في جانب المأمور العمومي ينزع عن الحجة الرسمية الصادرة عنه الصيغة الرسمية لتردّ في عداد الكتائب الخطية.

من ذلك مثلا الحجج الرسمية التي تكون للمأمور العمومي الذي حررها مصلحة شخصية فيها أو تربطهم و أصحاب الشأن فيها صلة قرابة أو مصاهرة أو إذا كان كفيلا أو وكيلا على أحدهما.

كما تعدّ الحجج الرسمية المحررة من مأمور عمومي غير مختص بإصدارها ترابيا باطلة و تفقد بذلك الحجية المفترضة في الكتائب الرسمية، مع ضرورة التحفظ في خصوص المأمور العمومي المأذون بمباشرة مهامه خارج دائرته الترابية مثل ما أجازه القانون لعدلي الإشهاد و التنفيذ من إمكانية مباشرة النشاط بصفة استثنائية في حدود الدائرة الاستئنافية بعد الحصول على رخصة معللة من الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف الراجعين له بالنظر[136].

غير أن هذا الاستثناء غير وارد بالنسبة للاختصاص النوعي للمأمور العمومي خصوصا إذا تعلق الأمر بحجج رسمية غير اتفاقية (كأن يتولى عدل التنفيذ مثلا تحرير محاضر الجلسات أو تحرير لوائح الأحكام القضائية) إذ في هذه الصورة تكون الحجة الرسمية باطلة مطلقا لتحريرها من غير ذي صفة.

و علاوة على ذلك فإن الحجج الرسمية الاتفاقية التي تخلو من ذكر هوية محررها أو أطراف التعاقد أو هوية الشهود أو المترجم (عند الاقتضاء)، و كذلك التاريخ تعتبر باطلة بصفتها تلك و لا تكتسب إلا حجية الكتب الخطي إذا تضمنت إمضاء المتعاقدين.

كما تنزل منزلة الكتائب الخطية الحجج الرسمية التي تكون خالية من إمضاء محررها. و يثار التساؤل بخصوص شرط الإمضاء أسفل الحجج الرسمية حول القيمة القانونية للحجة العادلة إذا كان دفتر المسودات[137] أو دفتر العمل[138] خلوا من الإمضاءات ؟

أجابت الفقرة الثانية من الفصل 22 من القانون عدد 60 لسنة 1994 المنظم لمهنة عدول الإشهاد، على هذا التساؤل و ذلك باعتبار أن "خلو دفتر المسودات من الإمضاء أو علامة الإبهام يمكن أن ينجر عنه بطلان الكتب نهائيا، إذا كان الكتب المضمن بدفتر العمل خاليا أيضا من الإمضاءات أو العلامات نفسها".

وانطلاقا من هذه الأحكام يمكن القول أنه إذا كان دفتر المسودات خاليا من الإمضاء     و كان دفتر العمل ممضى به، فإن ذلك لا يرتب مبدئيا بطلان الكتب و نفس ذلك الحكم يسري على الصورة المعاكسة التي يكون فيها الإمضاء متواجدا بدفتر العمل و غير متواجد بدفتر المسودات و يستروح ذلك من خلال التأويل العكسي لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 22 المشار إليه أعلاه (لو أنها صورة نادرة جدا).

كما أن وفاة عدل الإشهاد أو انقطاعه عن المباشرة لأي سبب من الأسباب لا يحول دون صحة الحجة العادلة إذا تم تسجيل التزام الطرفين بدفتر المسودات و أدرجت به جميع الإمضاءات.

ففي هذه الصورة يعين الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف نائبا له من بين عدول نفس الدائرة و يعلم بذلك وزير العدل.

و يقوم العدل النائب بإكمال جميع الأعمال العالقة التي لم يتسنى للعدل الأصلي مباشرتها.

و السؤال المطروح في هذا الإطار يتعلق بقيمة الحجة العادلة الباطلة في صورة عدم وجود الإمضاء بدفتر العمل و دفتر المسودات، هل تنزّل منزلة الكتب الخطي أو تكون باطلة أساسا و يبطل معها التصرف المضمن بها ؟

إن الجواب عن هذا التساؤل يختلف بحسب ما إذا كانت الحجة العادلة ممضاة من طرفي التعاقد أم لا. ففي الصورة الأولى لا مانع قانونا من اعتبارها كتبا خطيا و كلما لم تكن الرسمية مشترطة لصحة التصرف. و الأمر على خلافه في الصورة الثانية حيث تبقى قيمته الإثباتية خاضعة لاجتهاد قاضي الأصل الذي يمكنه أن يعتمدها كبداية حجة بالكتابة أو لا يعتمدها أصلا كوسيلة إثبات و ذلك استنادا إلى أحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 22 من قانون عدول الإشهاد التي جاءت في صياغة مرنة تسمح بإعمال القضاء لاجتهاده في خصوص تقدير تلك الحجة إذ تقتضي أنه "يمكن أن ينجر عن خلو دفتر المسودات من الإمضاء أو علامة الإبهام بطلان الكتب نهائيا إن كان الكتب المضمن بدفتر العمل حاليا أيضا من الإمضاءات أو العلامات نفسها".

إن موقف التشريع التونسي المتمثل في تحديد الحالات التي ترتب بطلان الحجة الرسمية لتأخذ منزلة الكتب الخطي من حيث قوتها الإثباتية غير صائب لأنه يقيد سلطة القاضي في تقدير قيمة الدليل المعروض أمامه و لا يغطي بالمقابل جميع حالات بطلان الحجة الرسمية.

لذلك كان من المتجه إدخال تعديل على أحكام الفصل 447 من م.إ.ع. في اتجاه ترك مجال واسع للقضاء للاجتهاد حول تقدير قيمة الحجة الرسمية إذا اختلت إحدى شروطها القانونية، و ذلك أخذا بعين الاعتبار بخصوصية كل حجة رسمية. فيتقرر بحسب الحالات ما إذا كان الإخلال  الذي يعيبها يرتب بطلانها بصفتها تلك دون أن يفقدها كل حجية في الإثبات أو أن ذلك الإخلال يبطلها و يبطل التصرف المضمن بها أو أنه لا يؤثر على صحتها فتبقى محتفظة بصفتها و حجيتها المتصلة بتلك الصفة.

ب‌-  الإخلالات التي لا تفقد الحجة الرسمية صفتها و لا تحط من قيمتها في الإثبات :

إن الجزاء المترتب عن مثل هذه الإخلالات حتمتة بساطتها من جهة، حيث أنها إخلالات غير ذات بال و لا تؤثر على صحة الحجة الرسمية، كما فرضته قاعدة "لا بطـلان بدون نص" المتعارفة في القانون التونسي[139] من جهة ثانية، هذه القاعدة التي حدت بصفة جدية من حرية القاضي في إعمال سلطته التقديرية واجتهاده لتقدير قيمة الدليل القضائي عموما، و لتقدير صحة الحجة الرسمية المختلة أو المعيبة بصفة خاصة.

و تعد إخلالات ثانونية لا تؤثر على صحة و حجية الحجة الرسمية، الإخلالات التي يكون جزاؤها عادة خطية مالية يتحملها المأمور العمومي، من ذلك ما اقتضاه الفصلين 28     و 30 من القانون عدد 29 و القانون عدد 60 المنظم لمهنتي عدول التنفيذ و عدول الإشهاد من أن عدم التنصيص أسفل الأصل على الأجر المقبوض يعرض عدل التنفيذ أو عدل الإشهاد إلى عقوبة مالية تساوي ضعف معلوم هذا الأجر.

و بذلك فإن عدم التنصيص على الأجر المقبوض صلب تلك الحجج الرسمية أو نسخها لا يترتب عنه بطلانها بل تبقى صحيحة و محتفظة بصيغتها الرسمية و بحجتها المقترنة بتلك الصيغة. و نفس هذا الحكم يسري على الحجج الرسمية المحررة خلافا لمقتضيات الفصل 377 ثالثا (جديد) من م.ح.ع. إذ اكتفى المشرع بموجب التنقيح المدخل على أحكام هذا الفصل في 17 أفريل 2001 بإعمال مسؤولية المحرّر في مثل هذه الصورة مع تغريمه للمتضرر عند الاقتضاء.

و قد اعتبر جانب من الفقه الفرنسي[140]  أن مخالفة القواعد و الشكليات المتعلقة بحفظ النسخ يترتب عنه عقوبة مالية تسلط على المأمور العمومي دون أن تؤدي إلى إبطال الحجة الرسمية.

كما اعتبر البعض[141] أنه إذا "تحققت الغاية من وجوب مراعاة وضع معين رغم تخلف هذا الوضع، فإن المحرر لا يكون معييا بعيب جوهري و من ثمة يعد من المحررات الرسمية بالرغم من تخلف ذلك الوضع".

و في هذا الاتجاه اعتبرت محكمة التعقيب التونسية[142] أن عدم ذكر عنوان و حرفة الشخص الواقع استدعاؤه بمحضر عدل التنفيذ لا تأثير له على صحته طالما أنه تبيّن من محضر الاستدعاء المضاف للملف المجرى بواسطة عدل التنفيذ أنه بلّغ لشخص المستدعي نفسه.

و بذلك لم يبق معه أي وجه للتمسك بعدم ذكر العنوان و الحرفة خاصة و أن المقصود من ذكر العنوان و الحرفة هو التحري في بلوغ العلم للمقصود بالإعلام و قد تم ذلك فعلا.

كما يعتبر الإخلال ببعض شكليات الحجة الرسمية في حالات محدودة عديم الأثر على صحتها، من ذلك عدم ترقيم صفحاتها أو احتوائها على تشطيبات أو إقحامات على غير الصور التي يقتضيها القانون.

و يضيف بعض الفقهاء[143] "عدم دفع الرسم و عدم تثبت الموثق من شخصية المتعاقدين عن طريق شاهدين أو عن طريق مستلزم رسمي و مجاوزة الورقة لحدود الوكالة إذا كان التعاقد بوكيل". ففي مثل هذه الصور يقتصر البطلان على تلك الشكلية المعيبة دون أن يشمل كامل الحجة الرسمية[144].

و يأخذ عدم احترام عدول الإشهاد لمقتضيات الفصلين 377 و 377 ثالثا (جديد) من  م.ح.ع. عند تحرير حجة عادلة تتعلق بعقار مسجل نفس حكم الإخلالات المذكورة سابقا، و ذلك كلما تعلق الإخلال بالأعمال أو بالبيانات الواجب ذكرها في الحجة العادلة كالنقص أو العيب في هوية الأطراف المتعاقدة أو في تواريخ ولادتهم أو في العدد الرتبي للعقار موضوع التعاقد بالسجل العقاري، أو السهو عن ذكر أن محرر العقد اطّلع على رسم الملكية أو أنه أشعر الأطراف بالحالة القانونية الواردة برسم الملكية.

حيث أن الجزاء المترتب عن مثل هذه الإخلالات هو ثبوت مسؤولية عدل الإشهاد إزاء أطراف العقد الذين يمكنهم القيام ضده في غرم الضرر، و لا يمكن أن تؤدي مثل هذه الإخلالات إلى بطلان الحجة العادلة.

بل إن طالب الترسيم يجد نفسه مضطرا إلى إبرام عقد تكميلي يكون تام الموجبات القانونية لتدارك السهو أو العيب الموجود في الحجة الأصلية، أو أنه يضطر إلى الالتجاء إلى المحكمة العقارية لتذليل الصعوبة في الترسيم و تجاوز ذلك العيب في إطار السلطات التي خولها لها الفصل 13 من قانون 1992 المتعلق بتحيين الرسوم العقارية.

كما تعد إخلالات ثانوية لا تمس من صحة الحجة الرسمية و لا تخدش من حجيتها، الغلطات الواقعة في الرسم أو الغلطات المادية في الاسم أو في الحساب أو غير ذلك من الإخلالات المبينة من نوع ما ذكر، إذ تكتفي المحكمة في مثل هذه الصور بإصلاحها سواء بطلب من المعني بالأمر أو من تلقاء نفسها.

و يجب التنصيص بطرة أصل الحكم و بالنسخ المعطاة منه على الحكم الصادر بالإصلاح[145]. و نفس هذا الحكم يسري على الغلطات أو السهو الواقع في رسوم الملكية العقارية أو في الترسيمات المدرجة بالرسوم العقارية.

كما يسري على الغلطات المادية الحاصلة في العقود التي يحررها حافظ الملكية العقارية أو الأعوان المكلفين بمهمة التحرير، حيث يتم إصلاح تلك الإخلالات سواء بطلب من المعني بالأمر أو بمبادرة من حافظ الملكية العقارية أو بإذن من رئيس المحكمة العقارية في صورة رفضه لعملية الإصلاح[146].

و بذلك فإن مثل هذه الإخلالات يقع تداركها بالإصلاح دون أن تؤدي إلى البطلان.

كما اعتبرت محكمة التعقيب التونسية[147]، أن الغلط في شخص المستدعي لا يوجب بطلان الاستدعاء المحرر من قبل عدل التنفيذ، إلا إذا تسبب عن ذلك عدم حضور المعني بالأمر.

و بذلك فإن  حضور المطلوب بالجلسة يصحح الإجراءات، و نفس ذلك الحكم ينطبق على الغلط في المقر أو في تاريخ الجلسة و ذلك طبقا لمقتضيات الفصل 71 من م.م.م.ت.

و في قرار آخر لها[148] اعتبرت محكمة التعقيب التونسية ”الإعلام مستوفيا لشكلياته القانونية إذا اتضح أنه ينص على اليوم و الشهر و السنة و الساعة، و لا لزوم في ذلك لتسمية اليوم باسمه مع وقوع رد فيه بمكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ طبق الفصل 6 من م.م.م.ت".

و تجدر الإشارة إلى أن حكم الإخلالات الثانوية من نوع ما ذكر سابقا لا يختلف بحسب ما  إذا كان الإخلال متمثلا في تعيّب بعض الشكليات أو تخلفها تماما، ففي كلتا الحالتين يقع الاكتفاء إما بحذف الجزء الباطل أو إصلاحه إن أمكن أو التغافل تماما عن عدم وجوده.

و تبقى بذلك الحجة الرسمية محتفظة بصيغتها الرسمية و بحجّيتها في الإثبات.

إن هذا الحل يدعم موقف المشرع التونسي من عدم تشدده بخصوص الصيغة الشكلية لبعض أصناف الحجج و ذلك حتى و إن تعلق الأمر بالحجج الرسمية التي من المفروض أن تستجيب لشكليات تحريرها.

غير أن هذا الحل ليس على إطلاقه إذ أنّ هذا الحرص التّشريعي على انتشال الحجج الرسمية من الإبطال يضاهيه موقف تشريعي آخر متشبث بالشكل و يرتّب جزاء البطلان المطلق للحجة الرسمية المعيبة أو المختلّة و ذلك سواء كان ذلك العيب جوهريا أو ثانويا. ففيما يتجلى هذا الموقف الصّارم ؟

ج- الإخلالات التي تفقد معها الحجة الرسمية لصفتها           و لقيمتها في الإثبات :

تقوم فلسفة التشريع التونسي على مبدأ هام ينظم تعامل القاضي مع الحجج و الوثائق المحتج بها أمامه و هو أن لا بطلان بدون نص.

هذا المبدأ الذي و إن كان يحد من حرية القضاء في إعمال سلطته التقديرية، فإنه ضروري بالنظر إلى النتائج الخطيرة و الوخيمة التي يمكن أن تترتب عن الحكم ببطلان الكتائب كلما شابها شائب، خاصة إذا تعلق الأمر بحجج رسمية مفترض في محررها الصدق و النزاهة.

لذلك إرتئى المشرع التونسي أن ينص صراحة على حالات بطلان الحجج الرسمية بصفة مطلقة و ذلك سواء بمجلة الالتزامات و العقود أو في بعض النصوص المتفرقة.

من ذلك ما اقتضاه أمر 4 جوان 1957 المنظم لرخصة الولاية مثلما تم تنقيحه و إتمامه بالنصوص اللاحقة من ضرورة الحصول على الترخيص الإداري المسبق إذا كان أحد أطراف العلاقة التعاقدية أجنبيا، و رتب عن مخالفة هذه الأحكام جزاء البطلان المطلق باعتبار أن المسألة تهم النظام العام.

إلا أنه طرحت إشكالية في فقه القضاء التونسي أنتجها اختلاف اجتهاد المحاكم في خصوص تأويل الفصل الثالث من أمر 4 جوان 1957 المذكور، و الذي يقتضي أنه "عند التفويت في العقار على يد عدلين فإنه يمكن تسجيل الاتفاق بدفتر المسودات و تتوقف صحة العقد و ترسيمه بدفتر العمل و تمكين المتعاقدين من نظير منه على الحصول على رخصة الموافقة من الولاية".

لقد أثار هذا الفصل إشكالا جدّيا تعلق بقيمة الحجة الرسمية التي أدرجت بدفتر مسودات العمل لعدلي الإشهاد دون الحصول على الرخصة الإدارية هل تكون باطلة أم صحيحة ؟

و هل بالإمكان تدارك هذا الخلل و ذلك بالحصول على ترخيص يقع تضمينه بدفتر العمل لاحقا خصوصا و أن أحكام القانون المنظم لتلك الرخصة يهم النظام العام و قد نص بصفة صريحة على جزاء البطلان عند تخلف الرخصة بصفة مسبقة ؟

لقد طرح هذا الإشكال بمناسبة قضية مدنية طرحت على المحاكم التونسية تتلخص وقائعها في أنه بتاريخ 28 نوفمبر 1968 قام مورث المدعين بالتفويت بالبيع للمدعى عليه في عقار راجع له بالملكية، و قد ضمّن هذا البيع في حجة عادلة محررة في دفتر مسودات عدلي إشهاد.

إلا أن البائع في قضية الحال رأى أن معاقده ماطل في تنفيذ التزامه، لذلك اعترض لدى الولاية على الرخصة الإدارية التي وردت بتاريخ 31 ديسمبر 1969 بالرفض.

ثم توفي البائع، و قام المشتري بخلاص باقي ثمن المبيع إلى أحد ورثته، و سعى من جديد في التحصيل على ترخيص بالموافقة من الولاية، و حصل له ذلك في 12 فيفري 1976.

إلا أن ورثة البائع قاموا ضده بقضية قصد إبطال العقد الرابط بينه و بين مورثهم استنادا إلى أن رخصة الولاية الممضاة من مورثهم وردت بالرفض، و أصبح بذلك العقد لاغيا و باطلا وفقا لأحكام أمر 4 جوان 1957 المذكور أعلاه، و أن الحصول على رخصة ثانية لم يوقّع عليها البائع أو ورثته بعد مدة طويلة من العقد يجعل هذا الأخير باطلا مطلقا.

إزاء هذه القضية صدر الحكم الابتدائي ببطلان عقد البيع الرابط بين مورث المدعين        و المدعى عليه استناد إلى أن الترخيص الإداري وقع بعد وفاة البائع بعدّة سنوات، و بذلك فإن البيع لم تتوفر أركانه من تاريخ الوفاة تطبيقا لأحكام أمر 4 جوان 1957 المتمم بالقانون عدد 13 المؤرخ في 8 أوت 1961.

ضرورة أن الفصل الثاني من ذلك الأمر صريح في وجوب التنصيص على الرخصة الإدارية في العقد و إلا يكون باطلا مطلقا، و أن الترخيص يهم النظام العام و لا يمكن عند وروده أن يكون له مفعولا رجعيا و لو بالنسبة للعقود التي تعرّض لها الفصل الثالث من الأمر المذكور. و استندت محكمة البداية إلى القرار التعقيبي عدد 6938 المؤرخ في 15 جويلية 1969 الذي اعتبر منح الترخيص بعد وفاة الملتزم بالبيع لا يصحح العقد.

أما محكمة الاستئناف فقد أقرت نفس الحكم الابتدائي معللة قرارها بأن أمر 4 جوان 1957 خوّل للعدول تضمين البيوعات العقارية بدفتر المسودات، إلا أنه علق صحتها على ترخيص الولاية.

و معنى ذلك أن صحتها معلقة على شرط واقف لا يستكمل البيع وجوده القانوني الكامل إلا بحصوله، و لما رفضت الولاية الموافقة على البيع في مرة أولى فإن العقد يكون قد انحل تماما و أن الترخيص الوارد بعد ذلك بالموافقة لا يعتد به.

أما محكمة التعقيب فقد كان موقفها مغايرا إذ نقضت القرار الاستئنافي المذكور و أحالت القضية من جديد على محكمة الاستئناف للنظر فيها بهيأة أخرى، استنادا إلى أنه عند القيام بدعوى الفسخ في 3 ماي 1976 كانت الولاية قد رخصت في حصول هذا البيع بتاريخ 12 فيفري 1976.

و تمسكت بأحكام الفصل الثالث من أمر 4 جوان 1957 الذي أتاح إمكانية تسجيل الاتفاق بدفتر المسودات دون توقف على الإدلاء بالرخصة الإدارية.

إلا أن محكمة الإحالة قررت من جديد رفض الاستئناف موضوعا و إقرار الحكم الابتدائي في ما قضى به معتمدة في تعليلها على الاستفادة من الفصل الثاني من الأمر المذكور الذي اشترط الرخصة الإدارية المسبقة لصحة العقد.

و اعتبرت الاستثناء الوارد بالفصل الثالث من ذلك الأمر لم يغير في شيء من طبيعة ذلك الشرط و لا من طبيعة البطلان في صورة حصوله، ذلك أن العقد المحرر بدفتر المسودات بتاريخ 28 نوفمبر 1968 يعتبر باطلا من أصله و لا يعمل به و الالتزام الباطل من أصله لا يقبل أي تصحيح حسب صريح الفصل 329 من م.إ.ع.

و قد حسم الخلاف حول هذا الإشكال القانوني بتدخل الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب و ذلك باعتبار "أن المشرع فرق في خصوص العقود المحررة على غير يد العدول و خصص لها الفصل الثاني و حسم الحكم فيها بالبطلان المطلق إن لم تكن مسبوقة بالترخيص الإداري.

و بين العقود التي يتولى تحريرها العدول و هي ما شملها الفصل الثالث، فبين أن تحرر بدفتر المسودات بدون توقف على لزوم سبق الاسترخاص.

و لكن صحة العقد و ترسميه بدفت9ر العمل واستخراج نظير منه موقوفة كلها على ضرورة التحصيل على رخصة الموافقة من الولاية.

كما أن المشرع لم يحدد أجلا معيّنا ينتهي عنده العقد المحرر من العدول بدفتر المسودات كما أنه لم يقرر تاريخا مضبوطا أو محدّدا للإحراز على الترخيص الإداري بالموافقة.

و إزاء ذلك فإن العقد الغير محدد اتفاقا بأجل لا يعتبر منحلا من ذاته و لا باطلا و لكنه يبقى موقوفا و صحته معلقة على ورود رخصة الموافقة. ( و هو ما سعى المشتري إلى إتمامه حيث قام) بإدراج الترخيص الإداري بدفتر العدول فأكمل به للعقد صحته و نفاذه و أمكن ترسيم العقد بدفتر العمل واستخراج نظير منه مكتمل الموجبات"[149].

و انتهت بذلك محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة إلى نقض القرار المطعون و حسم الخلاف نهائيا في خصوص هذه الإشكالية.

كما يؤدي الإخلال بأحد شكليات الحجة الرسمية إلى بطلانها و ذلك كلما كانت الصيغة الرسمية شرطا لازما لصحة التصرف المضمن بها.

ذلك هو شأن الإخلال بأحد شكليات تحرير بعض العقود المتعلقة بالحالة الشخصية كعقد الزواج و التبني و الكفالة و عقد الاشتراك في الأملاك بين الزوجين الذي يكون لاحقا لعقد الزواج.

حيث أن الإخلال بأحد شروط تحرير مثل هذه العقود ينتج عنه بطلانها بصفة مطلقة،     و لا يمكن بذلك الاحتجاج بها و لو بصفة كتائب خطية أو بداية حجة كتابية نظرا لتعلقها بالنظام العام.

على أنه يتعيّن الأخذ بعين الاعتبار بخصوصية عقد الزواج الذي و إن كان البطلان هو الجزاء الطبيعي و الحتمي لقاء الإخلال بأحد شروط تحريره، فإن المشرع رتّب بعض الآثار القانونية عنه بالرغم من التصريح ببطلانه من ذلك ثبوت النّسب و وجوب العدة بالنسبة للزوجة و موانع الزواج الناتجة عن المصاهرة.

كما يشترط في التوكيل بالزواج أن يحرر في حجة رسمية و إلا عد باطلا[150]، و هذا بخلاف التوكيل العادي الذي نظم أحكامه الفصل 1104 و ما بعده من م.إ.ع.

و يعتبر عقد الهبة أيضا من العقود الشكلية التي لا تصح إلا بالحجة الرسمية السليمة من حيث شكليات تحريرها و ذلك باستثناء الهبة التي يكون موضوعها منقولات مادية. حيث تصح بمجرد مناولة الشيء الموهوب[151].

كما يعد عقد الكفالة من العقود الشكلية التي لا تصح إلا بالحجة الرسمية مع ضرورة التصديق عليه من قبل حاكم الناحية[152]. و على هذا الأساس يعتبر الإخلال بأحد شروط تحريره سببا موجبا لبطلان العقد بصفة مطلقة.

و يشترط في التبني ما يشترط في الكفالة من ضرورة أن يكون مضمنا في حجة رسمية غير أن هذه الأخيرة ليست اتفاقية و إنما هي قضائية إذ يصدرها قاضي الناحية المختص مكانيا في شكل حكم قضائي[153] بعد التحقق من توفر الشروط القانونية للتبني و موافقة الحاضرين عليه.

و قد حرص المشرع التونسي على حماية بعض العقود الخاصة بمجلة الالتزامات      و العقود نظرا لأهميتها و ذلك باشتراط أن يقع تضمينها في حجج رسمية سليمة الشكل قانونا.

من ذلك عقد التوكيـل علـى الخصـام الـذي اشترط المشرع أن يكون بالإشهاد[154] “Acte authentique”.

كما يشترط في عقد المغارسة ضرورة تحريره برسم صحيح[155] و هو ما يعني حجة رسمية حسب التأويل الذي ذهبت إليه محكمة التعقيب التونسية في قرارها المؤرخ في 24 جانفي 1960[156] حيث اعتبرت أن "نية المشـرع في استعمال كلمة "رسم صحيح" إنمـا يقصـد بها الكتب الرسمي" إذ أن هذا الحل هو نتيجة منطقية للعبارة الفرنسية “acte authentique”[157].

وانطلاقا من جملة الأحكـام المنظمـة لهذه العقود الشكلية، يكون الإخلال بأحد شـروط تحريرها مؤديا بصورة حتميـة إلـى بطـلان التصـرف القانوني المضمن بها      و بذلك يكـون البطـلان شـاملا لشكـل التصـرف القانوني و مضمونه و هو ما  اصطلح على تسميته بـ “La règle forma dat esse rei”[158]  فلا يترتب عنه شيء و لو مجرد بداية حجة بالكتابة باعتبار أن صحة الدليل في مثل هذه العقود غير منفكة عن صحة التصرف نفسه.

و نفس هذا الجزاء رتبه المشرع عن خلو دفتر المسودات و العمل الذين يمسكهما عدول الإشهاد من الإمضاء أو علامة الإبهام، حيث اعتبر الحجة العادلة المضمنة بدفتر العمل دون إمضاء عدلي الإشهاد و جميع أطراف التعاقد صلب ذلك الدفتر و دفتر المسودات باطلة نهائيا[159].

كما أنه و بالنسبة لبعض أنواع الحجج الرسمية يكون جزاء البطلان فيها مطلقا و لا يترتب عنها أي أثر قانوني، من ذلك المحاضر التي يحررها عدول التنفيذ و التي تكون خالية من إمضاء محررها.

فغياب إمضاء عدل التنفيذ على محضره يجعله معرضا للبطلان و لو توفرت فيه بقية البيانات الأخرى و لو كان ذلك المحضر يحمل طابع محرره.

وقد اعتبرت محكمة التعقيب التونسية في قرار لها[160] أن الاقتصار من قبل العدل المنفذ على ذكر اسم من تسلم محضر الإعلام دون صفته يعيبه و يعرضه للبطلان.

و هكذا فإنه إذا ما تقرر بطلان المحاضر التي يحررها عدل التنفيذ لعيب في شكليات تحريرها، فلابدّ من إعادة تحرير محاضر أخرى تكون مستوفية لجميع تنصيصاتها القانونية،    و لا عبرة بذلك بالمحاضر الباطلة التي تعد لاغية و لا عمل عليها.

و علاوة على  ما ذكر فقد اعتبرت محكمة التعقيب[161] أن من بين الواجبات التي نصت عليها مجلة التسجيل و الطابع الجبائي هو حمل نسخة الحكم المطعون فيه لطابع جبائي و أن عدم حملها لذلك الطابع يعد مخالفة و إخلالا بالفصل 118 من تلك المجلة، و انتهت بذلك إلى عدم إمكان اعتماد مثل تلك النسخة و اعتبرتها كأنها لم تقدم أصلا.

كما تبطل الحجة الرسمية و لا يترتب عنها شيء و لو قرينة، إذا تضمنت شهادة استغفال أو إيداع و ذلك تطبيقا لأحكام الفصل 447 من م.إ.ع. الذي يقتضي أنه "إذا تضمن الكتب الرسمي شهادة الاستغفال بطل قانونا و لم ينبن عليه شيء و لو قرينة.

كما يبطل الكتب الرسمي و لا يعمل به إذا تضمن إيداعا". و "شهادة الاستغفال" أو ما يعبّر عنها باللغة الفرنسية : “Temoignage de surprise” هي الوثيقة التي تتضمن شهادة شخص بثبوت واقعة أو باستقرار ملكية عقار بيد صاحبه، دون أن يكون عالما بأن تصريحاته تلك سيقع تدوينها في حجة مكتوبة للاحتجاج بها.

و عمليا يتم تحرير شهادة الاستغفال بواسطة عدل إشهاد يكون منزوي في غرفة مستقلة أو وراء ستار بطريقة تجعله يسترق السمع إلى الحديث الذي دور بين المستفيد من تلك الشهادة و الشاهد الواقع استغفاله بدون أن تكون لهذا الأخير علم أو شعور بوجود العدل أو بأن تصريحاته تلك سيتم تدوينها في حجة مكتوبة لتستعمل كشهادة.

و طالما أن شهادة الاستغفال هي شهادة لا إرادية، فقد سعى المشرع إلى إبطالها و عدم ترتيب أي أثر عليها و لو مجرد قرينة.

و نفس هذا الحكم يسري على ما يسمى "بشهادة الإيداع" أو "الاسترعاء"، و هي وثيقة يشهد فيها ثقات باستقرار ملكية عقار من العقارات بيد صاحبه بدون منازع منذ مدة كافية عادة لاكتساب الحق بمرور الزمن و لإقامة هذا النوع من الوثائق إجراءات خاصة (مثل الإشهار بالرّائد الرسمي) غير أن هذه الوثائق لم يعد يعمل بها بعد صدور مجلة الالتزامات و العقود التي اعتبرتها باطلة و نفت عنها كل قوة ثبوتية، و قد تأكد هذا المنع بصدور مجلة المرافعات المدنية و التجارية التي فرضت ضرورة تلقي شهادة الشهود مباشرة من قبل القضاء و بإجراءات      و شروط خاصة.

و تجدر الإشارة إلى أن بعض المحاكم التونسية[162] اعتمدت وثائق الاسترعاء القديمة تاريخا و اعتبرتها تقوم مقام الحبس القديم المتلاشي، كما اعترفت للنسخ المأخوذة منها بالحجّية التي للأصل إذا ما تلاشى بقدم الزمان.

إلا أن موقف القضاء التونسي من حجية وثيقة الاسترعاء في هذه الصورة، غير مخالف لأحكام الفصل 447 من م.إ.ع. باعتبار أن الاعتراف بالحجية لمثل هذه الوثائق تقتصر على تلك التي تكون قديمة التاريخ أي محررة قبل صدور مجلة الالتزامات و العقود، أما الوثائق المحررة بعد دخول هذه المجلة حيز التطبيق فلا يمكن الاعتداد بها قانونا.

لكن إذا كانت الحجة الرسمية تعتبر باطلة نتيجة الإخلالات السالف ذكرها فهل معنى ذلك أنها تعتبر مجرّدة من كل قيمة ؟

الفقرة الثانية : مآل الحجة الرسمية الباطلة :

         باستثناء حالات البطلان المطلق التي ترد على الحجة الرسمية فتفقدها صفتها الرسمية   و قيمتها الإثباتية و تجعلها هي و العدم سواء من حيث الآثار القانونية التي تنتجها، فإن بقية حالات بطلان الحجة الرسمية تكون نسبية بأن يقتصر مفعول البطلان فيها على نزع الصيغة الرسمية منها و الحط من حجيتها الإثباتية لتتحول إما إلى كتب غير رسمي (أ) أو بداية حجة بالكتابة (ب) عند توفر الشروط القانونية.

أ‌- تحول الحجة الرسمية إلى كتب غير رسمي :

اقتضى الفصل 448 من م.إ.ع. أنه "إذا كان الكتب لا يعتبر رسميا لكون تحريره من وظيفة غير الذي حرره أو لعدم أهلية أو لنقص في الصورة اعتبر كتبا غير رسمي إن كان به إمضاء المتعاقدين الواجب رضاهما لصحة العقد"، يعتبر هذا الفصل تطبيقا لنظريـة التحول “La conversion” المتعارفة في ميدان التصرفات القانونية و التي تتيح إمكانية تحول الالتزام الباطل إلى تصرف آخر صحيح إذا توافرت فيه أركانه و شروطه القانونية[163].

فالحجة الرسمية الباطلة لسبب من الأسباب الواردة بهذا الفصل تتحول إلى كتب غير رسمي إذا كان بها إمضاء المتعاقدين.

و لسائل أن يتساءل هل أن هذا التحول من كتب رسمي إلى كتب غير رسمي هو تحوّل في طبيعة العقد ذاته أم أنه تحوّل مقتصر على القيمة الإثباتية للكتب الرسمي فحسب دون أن يشمل طبيعته القانونية ؟

لا شك أن المشرع التونسي أراد من خلال أحكام الفصل 448 من م.إ.ع. نزع الصيغة الرسمية عن الحجة الرسمية الباطلة و تنزيلها منزلة الكتب غير الرسمي.

و يستروح ذلك بالخصوص من خلال استعماله لعبارات دالة على ذلك منها عبارة "إذا كان الكتب لا يعتبر رسميا" و عبارة "أعتبر كتبا غير رسمي" التي تفيد حتما تحولا في طبيعة الكتب ذاته من كتب رسمي إلى آخر غير رسمي.

و لا يمكن بذلك حصر مفعول التحول في القيمة الإثباتية للحجة الرسمية فحسب.

إلا أن هذا التمشي يفضي بنا إلى طرح تساؤل آخر يتعلق بالغاية من سنّ أحكام الفصل 448 المذكور أعلاه، خصوصا و أن مسألة تحول الحجة الرسمية الباطلة إلى كتب عرفي حكم بديهي في القانون التونسي و لا يحتاج إلى التنصيص عليه بنص خاص.

فهل أن نص هذا الفصل ما هو إلا تطبيق للقواعد العامة ؟ و بذلك يكون سنه من باب التزيد،  أم أنه يحمل خصوصية هامة تسترعي التنصيص عليه صلب أحكام خاصة ؟

تبدو أحكام الفصل 448 من م.إ.ع قبل تنقيح 13 جوان 2000 غير مجدية على الصعيد العملي و القانوني، باعتبار أن الكتب غير الرسمي لا تشترط فيه شروط خاصة، إذ يكفي فيه إمضاء المتعاقدين طبق أحكام الفصل 452 من نفس المجلة.

و هذا بخلاف التشريع الفرنسي الذي يشترط تعدد النسخ الأصلية في العقود الملزمة للجانبين و كتابة كل الالتزام بالحروف لا بالأرقام مع اعتماد المدين لها بخطه في العقود الملزمة لجانب واحد[164].

إلا أن ما أقره المشرع التونسي بمقتضى تنقيح مجلة الالتزامات و العقود و خصوصا بالفصلين 453 و 453 (مكرر) من م.إ.ع. من وسائل إثبات حديثة قوامها الوثائق الإلكترونية، تفرض بشدة تواجد نص مماثل لنص الفصل 448.

إذ باعتماده للإمضاء الإلكتروني[165] و للوثائق الإلكترونية و تنزيلها منزلة الكتائب الخطية بشرط أن توفر الضمانات الفنية التي تربط الصلة بين الإمضاء و النص الإلكتروني الذي وسمت به، يكون المشرع التونسي قد خرج عن المفهوم التقليدي للكتب الخطي و توسع في مفهوم الإمضاء، مما يجعنا في حاجة ماسة إلى أحكام الفصل 448 الذي ينحصر مجال انطباقه في المفهوم التقليدي للكتب الخطي و للإمضاء الذين يفترضان وثيقة مادية مدعمة بتوقيع بخط يد العاقد نفسه إن كان رضاه لازما لصحة العقد و لا مجال للإستعاضة عن هذا الإمضاء بالطابع أو بالإمضاء الإلكتروني.

و الإمضاء قد يكون صادر عن المدين فقط إذا كان العقد ملزما لجانب واحد، و قد يكون صادرا عن طرفي العلاقة التعاقدية في العقود الملزمة للجانبين.

و في هذا الإطار اعتبر جانب من الفقه[166] أنه إذا كانت الورقة الرسمية الباطلة صادرة من عدة مدينين متضامنين و لم يوقع عليها إلا بعض هؤلاء، فإنها لا تصلح ككتب غير رسمي.

و لا يحاجج بها الطرف الذي لم يوقعها لعدم التوقيع، كما لا يعارض بها من وقعها لأنه لم يوقع إلا كمدين متضامن مع آخرين. "فلو صلحت مستندا ضده لفقد الرجوع على من لم يوقع من هؤلاء المدنين. و تبقى الورقة باطلة في هذه الحالة حتى و لو نزل الدائن عن حقه قبل المدنيين الذين لم يوقّعوها".

و شرط الإمضاء أسفل الحجة الرسمية الباطلة شرط جوهري بتخلفه لا يمكن اعتبار تلك الحجة كتبا غير رسمي و ذلك حتى و لو شهد المأمور العمومي الذي حررها بعجز المدين عن الإمضاء لأن ذلك التنصيص لا قيمة قانونية له في حجة رسمية باطلة، هذا فضلا عن كون عجز المدين عن الإمضاء لا يعفيه من التوقيع ببصمة إبهامه أسفل الحجة الرسمية.

لكن إذا اعتبرنا الحجة الرسمية الباطلة الموقع عليها من أطراف العقد الواجب رضاهم لصحته كتبا غير رسمي ولها ما لهذا الأخير من الحجية و القوة الثبوتية، فهل أن الاحتجاج بها تجاه أطراف العلاقة التعاقدية و الغير يكون من يوم صدورها أم من تاريخها الثابت المحدد بالفصل 450 من م.إ.ع ؟

إن بطلان الحجة الرسمية و تحولها إلى كتب عرفي يفقدها كل حجية متصلة بتلك الصيغة بما في ذلك تاريخ الاحتجاج بها تجاه طرفي العقد و الغير، و تخضع بذلك إلى الأحكام المنظمة للكتب العرفي في كل ما يتعلق بقوتها الثبوتية.

و عليه يكون تاريخها ثابتا وفقا للفصل 450 المذكور إبتداءا من يوم صدورها و ذلك تجاه طرفيها و كل من انجر له حق منهم.

أما بالنسبة للغير فلا تكون ثابتة التاريخ إلا ابتداء من يوم تسجيل الكتب أو إيداعه تحت يد المأمور العمومي أو من يوم الوفاة أو العجز الثابت أو من يوم الاطلاع على الكتب أو التعريف به من المأمور العمومي أو من يوم تضمينه بالعقد المحرر من المأمور العمومي أو كلما كان التاريخ ناتجا من بيانات أخرى يترتب عليها الثبوت التام.

غير أنه من المشروع أن نتساءل عن مآل الحجة الرسمية الباطلة التي لا يمكن اعتبارها كتبا غير رسمي كأن تكون خالية من توقيع طرفي العقد الواجب رضاهما لصحته فهل تركها المشرع بدون حماية و أفقدها كل حجية في الإثبات أم أن الأمر على خلافه ؟

ب‌-     تحول الحجة الرسمية الباطلة إلى بداية حجة بالكتابة :

لئن لم ينص المشرع التونسي بصفة صريحة على تحول الحجة الرسمية الباطلة التي لا تدخل تحت طائلة الكتائب الخطية إلى بداية حجة بالكتابة، فإن ذلك أمر طبيعي باستثناء بعض الحالات التي تبطل فيها الحجة الرسمية بصفة مطلقة كأن تكون الرسمية مشترطة لصحة التصرف و كذلك في صورة الفصل 447 من م.إ.ع. مثلما سبقت الإشارة إليه آنفا.

و يتدعم هذا الرأي خاصة بالرجوع إلى مفهوم "بداية الحجة الكتابية"[167] ذاتها التي لا تشترط شروطا خاصة لصحتها و ذلك بخلاف الكتب الخطي.

إذ اعتبرها الفصل المذكور استثناء المبدأ الوارد بالفصل 473 من م.إ.ع. القائل بعدم قبول شهادة الشهود لإثبات التزام تتجاوز قيمته ألف دينار، و عرفها بكونها "عبارة عن كل كتب صدر من الخصم أو من نائبه أو مما انجر له حق فيه يقرب به احتمال ما تضمنته الدعوى".

و اعتبر المشرع التونسي الكتب صادرا عن الخصم" إذا حرره عن مطلبه مأمور عمومي مأذون في ذلك على الصورة التي يقتضيها القانون لصحة الاحتجاج به.

كما يعتبر كتبا صادرا من الخصم ما صدر منه شفاهيا و ضمن بحجة حكمية أو بحكم تامّي الصورة".

فالحجة الرسمية التي لا يمكن اعتبارها كتبا غير رسمي تنضوي مبدئيا تحت طائلة بداية الحجة الكتابية و يعتمدها القاضي كوسيلة إثبات إذا عززتها شهادة الشهود أو أية وسيلة إثبات أخرى.

و في هذا الإطار اعتبرت محكمة التعقيب التونسية "أن إثارة بطلان محضر الاستجواب لعدم تلقيه من طرف عدلين حسبما اقتضاه الفصل 12 من قانون 23 ماي 1994 لا تأثير له طالما أن هناك إقرار من طرف المعقب بالعلاقة الكرائية التي أصبحت من الأمور المتفق عليها من الطرفين[168]".

كما اعتبرت محكمة التعقيب الفرنسية أنه يجوز لحكام الأصل أن يأخذوا بعين الاعتبار المحضر الباطل المحرر من طرف العدل و ذلك على سبيل الاسترشاد[169].

و تجدر الملاحظة في الختام إلى أنه إذا ما تقرر بطلان الحجة الرسمية نتيجة الطعن فيها بالزور، فإنه لا يمكن اعتمادها لا بصفة كتب غير رسمي و لا بصفة بداية حجة كتابية لزور البيانات التي تضمنتها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الجزء الثاني 

القيمة القانونية للحجة الرسمية

 

 

 

 

 

 

 

إذا توافرت للحجة الرسمية كافة مظاهر الصفة الرسمية  تصبح لها قيمة إثباتية متميزة (مبحث أول) كما تعتمد في بعض الحالات كوسيلة تنفيذية و حمائية هامة (مبحث ثاني).

المبحث الأول : الحجة الرسمية وسيلة إثبات متميزة

         متى توافرت في الحجة جميع الشروط القانونية التي تكسبها صفة الرسمية و كانت تحوف بها كافة ظواهر هذه الصفة، و جب اعتبارها كذلك إلى حين إثبات العكس.

         و بهاته الصفة تكتمل للحجة الرسمية السليمة في مظهرها الخارجي قرينتان : قرينة بسلامتها المادية و أخرى بصدورها من الأشخاص الذين وقّعوا عليها و هم المأمور العمومي   و ذوي الشأن فيها. و هاتان القرينتان توفّران للحجة الرسمية قيمة إثباتية هائلة سواء تجاه الأطراف و الغير (فقرة أولى) أو تجاه القاضي (فقرة ثانية).

الفقرة الأولى : القيمة الإثباتيّة للحجة الرسمية تجاه الأطراف و الغير :

         إن القيمة الإثباتيّة المتصلة برسمية الحجة تثبت للحجج الرسمية الأصلية (أ) أو الصور المأخوذة منها على حد سواء (ب)

أ‌- القيمة الإثباتيّة لأصل الحجة الرسمية :

تعتبر الحجة الرسمية حجة على الناس كافة، بما دوّن فيها من أمور قام بها محررها في حدود مهمته، أو وقعت من ذوي الشأن في حضوره ما لم يتبين تزويرها بالطرق القانونية.      و عليه تعتبر الحجة الرسمية وفقا لأحكام الفصل 444 من م.إ.ع. حجة بالنسبة لأصحاب الشأن و الغير على حد سواء.

لكن إذا كان أصحاب الشأن هم من تمس بحقوقهم الحجة الرسمية بصفة مباشرة كالأطراف الملتزمة في العقد، أو الأشخاص الذين تحدد الحجة الرسمية حقوقهم المالية أو المدنية  أو شخصيتهم القانونية مثل أطراف الدعوى القضائية أو الأشخاص المعنيين برسوم الحالة المدنية، فإن مفهوم الغير قد أثار إشكالا حول تحديد مضمونه. خصوصا و أن المشرع التونسي قد استعمل هذه العبارة في مواقع مختلفة في القانون و مفاهيم متفاوتة. فمن هو الغير المقصود بالفصل 444 المذكور أعلاه ؟

أولا : البيانات التي يطعن  فيها بالزور :

         تفترض قرينة الرسمية التي أضافها المشرع التونسي على الحجة التي اكتملت لها كافة ظواهر الصفة الرسمية، الاعتراف لهذه الأخيرة بحجية مستقلة في الإثبات و ذلك دون حاجة إلى الإقرار بها.

         و هذا الموقف التشريعي مخالف لموقف الفقه الإسلامي من أدلة الإثبات الكتابية عموما إذ يشترط فيها أن تكون مؤيدة بشهادة أو إقرار "و في كلتا الحالتين فإن مرجع الحكم إلى هذين الدليلين و ليس على الخط نفسه"[170] و مردّ ذلك طبعا يعود إلى عدم انتشار الكتابة في ذلك الوقت واعتماد الفقهاء على الإقرار و الشهادة كأهمّ و سائل إثبات مدنية.

         كما أن هذا الموقف التشريعي من الحجة الرسمية و من قوتها الإثباتية لا نجد له صدى في خصوص الحجج غير الرسمية.

         إذ خلافا لقرينة الرسمية التي تتمتع بها الحجة الرسمية السليمة و التي تعفي المتمسك بها من إثبات تلك الصفة و يكون على من يخدش فيها بالزور إقامة الدليل على ذلك، لا يعتبر الكتب الخطي حجة إلا إذا حصل الإقرار به صراحة أو دلالة بعدم إنكار التوقيع المضمن به من أحد الخصوم. و بذلك يصبح المتمسك بهذا الكتب في صورة الإنكار في موقف صعب إذ عليه إثبات نسبة ذلك الإمضاء إلى الطرف الذي أنكر صدوره عنه. و هذا بخلاف الحجة الرسمية التي تكون حجة بكل ما يلحق به وصف الرسمية فيها و ذلك دون حاجة إلى الإقرار بها.

و عليه، فإن الحجية التي أضفاها المشرع على الحجة الرسمية لا تشمل كافة البيانات المدوّنة بها، بل إنها قاصرة على الاتفاقات و الأمور التي أشهد بها المأمور العمومي الذي حررها أنها وقعت بمحضره.

و في هذا الإطار اقتضى الفصل 444 من م.إ.ع. أن "الكتب الرسمي معتمد و لو في حق غير المتعاقدين حتى يقع القيام بدعوى الزور فيه و ذلك في الاتفاقات و الأمور التي أشهد بها المأمور العمومي الذي حرره على أنها وقعت بمحضره..." من ذلك ذكره بأن أحد الأطراف قام بتسليم مبلغ من المال إلى الطرف الثاني. فما شهد به في هذه الصورة يكون ثابتا حتى و لو اتفق الأطراف على القيام به بصفة صورية[171].

         كما تكون الحجة الرسمية حجة على تاريخها، و على هوية من حضر من الأطراف أو الشهود و على ما أدلوا به للمأمور العمومي من وثائق، و على التصريحات و الشروط المنسوبة إليهم، و على الأمور الأخرى المتصلة بجوهر العقد، و على يثبته المأمور العمومي عند تنصيصه على الكيفية التي عرف بها تلك الأمور[172]

         و هذه الحجية التي تنصبّ على جملة البيانات و التنصيصات المذكورة قد أقرتها عديد التشاريع الأجنبية. من ذلك المادة 146 من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني التي تقتضي أن "للسند الرسمي قوة تنفيذية، و هو حجة على الكافة بما دوّن فيه من أمور قام بها الموظف العام أو وقعت من ذوي العلاقة في حضوره فمن حدود سلتطه و اختصاصه. و يمتد أثر السند الرسمي إلى ورثة أطرافه و خلفائهم. إن الإدعاء بتزوير السند الرسمي يوقف قوته في الإثبات و التنفيـذ"[173].

و تقابل هذا النص المادة 22 من قانون الإثبات العراقي[174]، و المادة  11 من قانون الإثبات المصري رقم 25 لسنة 1968 المقابلة للمادة 391 من القانون المدني المصري[175]،       و الفصل 1319 من المجلة المدنية الفرنسية[176].

أما المشرع الجزائري فإنه أغفل التنصيص على قوة البيانات المدونة بالحجة الرسمية إذ اقتصر بالمادة 324 من القانون المدني على الحديث عن حجّية الصورة الرسمية لورقة الإثبات دون التعرض إلى حجية السند ذاته واكتفى بالمـادة 14 من قانون التوثيق المـؤرخ في 15 ديسمبر 1970 بالتنصيص على أن ما ورد في العقود الموثقة تعتبر حجة ما لم يثبت تزويرها و هي صياغة عامة تشمل جميع ما دوّن في الحجة الرسمية من بيانات[177].

على أنّ البيانات السالفة الذكر لا تقبل إثبات العكس و الطعن فيها لا يكون إلا عن طريق دعوى الزور تبعا لما في إنكارها من مساس بالأمانة المفترضة في محررها و خدش في نزاهته إذ يعد هذا الأخير "بمثابة شاهد ممتاز على حد تعبير الأستاذين "ريبيرو" "بولانجية"      و تكون لشهادته بنظر القانون قيمة استثنائية"[178].

و في هذا الإطار اعتبرت محكمة التعقيب التونسية أن الكتب الرسمي معتمد و لو في حق غير المتعاقدين حتى يقع القيام بدعوى الزور فيه... و طالما أن الطاعنة لم تقدم ما يفيد قيامها بقضية في التدليس فإن التنبيه المطعون فيه و الحالة تلك بات سليما و مستوفيا لشكلياته القانونية".[179]

و في قرار آخر ذهبت محكمة التعقيب إلى اعتبار أن العدل المنفذ مؤتمن على سلامة     و صحة الأعمال التي يقوم بها بصفته مأمورا عموميا. باعتبار أن محضر التبليغ الذي يحرره يعد من قبيل الحجج الرسمية التي لا يطعن في صحة البيانات الواردة بها إلا بالزور. و عليه فإن تعمّده تغيير الحقيقة و ذلك بتغير التاريخ الحقيقي للمحضر يجعله عرضة للطعن بالزور[180].

         و نفس هذا التوجه استقرت عليه محكمة التمييز الأردنية التي اعتبرت أن "الضبوطات الرسمية التي ينظمها الموظفون الذين من اختصاصهم تنظيمها طبقا للأوضاع القانونية حجة على الناس كافة بما دوّن فيما من أفعال مادية قام بها الموظف العام في حدود اختصاصه أو وقعت من ذوي الشأن في حضوره، ما لم يتبين تزويرها بالطرق القانونية عملا بنص المادتين 6  و 7 من قانون البيانات"[181].

كما ذهبت المحاكم الفرنسية إلى اعتبار أن البيانات الموجودة بنص الحكم و المتعلقة بتصريحات ذوي الشأن الواقعة أمام القاضي المتعهد بالنزاع، تعتبر حجة إلى أن يقع الطعن فيها بالزور[182].

غير أنه و بخصوص الإقرارات الصادرة أمام المأمور العمومي رغم صحتها لا تعتبر دليلا على صحة مضمونها فما هو ثابت في الحجة الرسمية هو حصول الإقرار فعلا أمام المأمور العمومي و ليس صحة الواقعة محل ذلك الإقرار، إذ قد تكون هذه الأخيرة مخالفة للحقيقة.

         و في هذا السياق قضت محكمة النقض المصرية بأنه "إذا كان ما دوّن بالمستندات الرسمية المقدمة من الطاعن إثباتا لحيازته عين النزاع منذ سنة 1955 من بيان يفيد اتخاذه منها مقرا لأعماله إنما تم بناء على ما أدلى به تحت مسؤوليته و ليس نتيجة قيام محرريها بتحري صحة هذا البيان و من ثم لا تلحقها الحجية"[183].

         على أن القول بأن البيانات التي يثبتها المأمور العمومي بالحجة الرسمية لا يقع دحضها إلا عن طريق الطعن بالزور، لا يعني أن كل ما يصدر عن هذا الأخير يعتبر حجة ثابتة تجاه الأطراف و الغير. بل إن هذه القاعدة تقتصر على البيانات التي تدخل في اختصاصه دون غيرها من البيانات الأخرى التي يكون محررها غير مطالب بالتحقق منها شخصيا وقت إصدار الحجة الرسمية، كذكره مثلا بأن المتعاقدين تربطهم صلة قرابة أو إلحاقه لصفة "البكر" على من لم يسبق لها الزواج صلب عقد القران. أو تنصيصه بأن ذوي الشأن يتمتعون بكافة قوّاهم العقليّة و ليس بهم عته[184] أو أنهم أمضوا العقد بحسن نية.

فهذه البيانات و غيرها من البيانات الأخرى التي لا تدخل في اختصاص محررها لا قيمة قانونية لها و يجوز تفنيدها طبق وسائل الإثبات المعتمدة قانونا دون حاجة إلى القيام بدعوى الزور.

         و في هذا السياق اعتبرت المحاكم الفرنسية أن ما ضمنه عدل الإشهاد بالحجة العادلة من كون الموصي يتمتع بكافة قواه العقلية، هي تنصيصات لا تدخل في اختصاصاته و عليه فإنه يمكن دحضها دون ضرورة إلى اللجوء إلى إجراءات الطعن بالزور[185].

و هكذا يخص بأن الطعن بالزور لا يتسلط إلا على البيانات المتعلقة بالأمور التي قام بها المأمور العمومي، أو بالأمور التي وقعت من ذوي الشأن في حضوره و بشرط أن تكون داخلة في اختصاصاته. و عليه بذلك فإن من أراد دحض إحدى هذه البيانات فما عليه إلا الطعن فيها بالزور. و ليس له تبعا لذلك أن يستجوب خصمه تمهيدا للحصول على إقرار منه و لا أن يوجه له اليمين الحاسمة و لا أن يطلب إثبات وقائع تتعارض مع البيانات الثابتة بالحجة الرسمية، حتى و لو كانت بحوزته بداية حجة كتابية و أراد استكمالها بالشهادة أو بالقرائن. و هذا بخلاف البيانات التي تصدر عن الأطراف و التي يقتصر المأمور العمومي على تضمينها بالحجة الرسمية.

ثانيا : البيانات التي تقبل  الدليل المعاكس :

         إن المأمور العمومي غير مطالب بإجراء تحقيق للتثبت من حقيقة التصريحات التي تصدر عن الأطراف أمامه بخصوص الوقائع التي حدثت في غير حضوره، كإقرار البائع مثلا بأنه سبق له أن قبض الثمن، أو إقرار المشتري بتقليب المبيع و رؤيته و التحويز به.

و حكم هذه التصريحات و غيرها من البيانات التي لا تدخل في اختصاصات المأمور العمومي، كإشهاده بأن المتعاقدين سليمي المدارك العقلية أو رشداء، لا يختلف عن البيانات التي تتضمنها الحجة غير الرسمية من حيث قيمتها الإثباتية. إذ لا تطالها قرينة صحة الصفة الرسمية. فطالما أن محررها لا يملك تحرّي صحتها و أن الخدش فيها لا يمس في شيء من نزاهته و أمانته، باعتباره غير مسؤول عن مجانبتها للحقيقة و الواقع، فإن حجيتها لا تصل إلى حد الطعن فيها بالزور. بل تعتبر هذه التصريحات صحيحة في ذاتها إلى أن يثبت صاحب المصلحة سواء كان أحد طرفي التصرف القانوني أو الغير مطلقا ما يخالفها بالطرق المقررة في قواعد الإثبات.

         و يجدر بنا قبل التطرق إلى إبراز هذه القواعد توضيح مسألة على غاية من الأهمية في خصوص حجية الإقرارات و التصريحات الصادرة من ذوي الشأن، و هي تتعلق بالتفرقة بين واقعة التصريح أو الإقرار الصادر بحضور المأمور العمومي و صحة مضمونه أو محتواه.

إذ لا شك في أن ذلك التصريح قد حصل فعلا أمام المأمور العمومي حتى و لو كان ما صرح به أمامه غير مطابق للحقيقة. فمن ينازع في حصوله من الأطراف أو الغير ما عليه إلا الطعن فيه بالزور باعتبار أن محرر الحجة الرسمية قد أدرك هذا التصريح بحسه، و ذلك سواء بالاستماع أو بالرؤية. و هو بذلك مسؤول عن كون تلك الواقعة قد حصلت أمامه.

فلو فرضنا أن زيدا و عمرا حضرا لدى عدلي إشهاد و أشهدهما الأول بأن عقاره موظف عليه راتب إنزال سنوي لفائدة الثاني. فإذا صرّح هذا الأخير أنه لم يحصل منه هذا الإقرار، وجب عليه سلوك إجراءات الطعن بالزور لأن هذه الواقعة (أي واقعة صدور الإقرار) قد تحقق منها المأمور العمومي الذي حررها بنفسه.

أما مضمون تصريحات الأطراف فيقتصر فيها دور محررها على تدوينها تحت مسؤوليتهم بناء على ما سمعه منهم دون أن يكون قد تحقق من صحتها لذلك فإنها قابلة لإثبات العكس بالطرق المعتمدة قانونا فإذا أقر البائع مثلا أنه تسلم الثمن نقدا من المشتري و كان في الواقع لم يتسلمه أو تسلم قسطا منه نقدا و القسط الآخر بواسطة كمبيالات، فإنه يجوز له إثبات عدم صحة الإقرار الصادر عنه بكل الطرق المقبولة لذلك، كأن ينازع مثلا في صوريته. في حين أن تمسكه بعدم صدور ذلك الإقرار منه يقبل إلا باتباع إجراءات الطعن بالزور. و عليه يكون المأمور العمومي الذي تلقى تلك التصريحات غير مسؤول عن صحتها و إنما هو مسؤول فقط عن كونها حصلت أمامه بالفعل.

و قد كانت لمحكمة التعقيب التونسية فرصة النظر في حجية البيانات الواردة بورقة صادرة عن متفقد جهوي للشغل، فميزت بين البيانات التي ضبطها هذا الأخير بنفسه و التي تتمتع بحجية لا تدحض إلا بالزور، و بين البيانات التي تلقاها من الأطراف و التي يمكن إثبات خلافها بالدليل المعاكس[186]. "وقد جرى القضاء المصري و الفرنسي على ذلك و تقرر أنه يجب قصر ما لا يمكن الطعن فيه إلا بالتزوير على الأمور التي تحقق منها الموظف المحرر بنفسه، أما باقي مرويات الحجة فإنه من المتفق عليه أنه يصح الطعن فيه بالأدلة و القرائن المعتادة"[187].

         كما أنه لا ضرورة للطعن بالزور فيما استنتجه المأمور العمومي استنتاجا مثل ذكر عدل التنفيذ المكلف بتبليغ الاستدعاء بأن المعني بالإعلام مجهول المقر مثلا، أو كذكر عدلي الإشهاد لبيانات استنتجاها من إشارات المتعاقد الأبكم الأصم. فكل هذه الأمور لا تحتاج إلى الطعن فيها بالزور، بل يجوز إثبات خلافها بكل الطرق.

لكن ما هي  التي يقرها القانون لإثبات عدم صحة أو عدم جدية مثل هذه البيانات ؟

         لقد جاءت الفقرة الثانية من الفصل 444 من م.إ.ع. ناصة على أنه "إذا وقع الطعن في الرسم بسبب إكراه أو تدليس أو توليج أو غلط مادي جازت البنية بشهادة الشهود و يحصل الثبوت أيضا و لو بالقرائن القوية المنضبطة المتلائمة بغير احتجاج إلى القيام بدعوى الزور     و يجوز أن تكون هاته البينة من كل من الفريقين و من غيرهما ممن له مصلحة مقبولة قانونا".

         و إعمالا لأحكام هذه الفقرة، فإن الإتفاقات التي شهد المأمور العمومي بأنه باشرها      و عاين وقوعها و إن كانت لها حجية ثابتة لا تتزعزع إلا بالطعن فيها بالزور، فإن صحة مضمونها و محتواها خاضع لإثبات العكس بشهادة الشهود أو حتى بالقرائن.

         و تكون الشهادة في مثل هذه الحالات حجة المدعي في الإثبات الذي يتمسك بسبب من الأسباب المتاحة قانونا للطعن في الحجة الرسمية و قد عرفها جانب من الفقه[188] لغة بأنها "خبر قاطع و شرعا إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء".

و خلافا للإقرار الذي يكون صادرا عن صاحب الحق، تكون الشهادة صادرة عن شخص أجنبي عن الدعوى هو الشاهد و تتضمن إخبار عن حق لشخص على غيره أو عن واقعة شاهدها أو سمعها أو اتصلت بعلمه.

         كما يمكن أن يحصل الثبوت أيضا بالقرائن و بغير احتياج إلى القيام بالطعن بالزور كلما وقع الطعن في الحجة الرسمية بسبب الإكراه أو التدليس أو التوليج أو الغلط المادي.

و القرائن هي "ما يستدل به القانون أو الحاكم على أشياء مجهولة"[189]، و طريقة الاستنباط بالقرينة تكون إما قانونية بأن يفترض المشرع بنفسه ثبوت واقعة معينة من ثبوت واقعة أخرى[190]. و قد تكون قضائية أي من عمل القاضي الذي يصل من خلال وقائع الدعوى المطروحة أمامه إلى الاقتناع بصحة وقائع أخرى واعتبارها ثابتة.

غير أنه و نظرا لقيامها على تقدير القاضي الذي يحتمل الصحة و الخطأ، فإنه يشترط فيها أن تكون قوية منضبطة، متعددة، متضافرة، و أن يساندها يمين من تمسك بها.[191]

         و مما لا شك فيه أن القرائن المتحدث عنها بالفصل 444 من م.إ.ع. تنضوي تحت طائلة هذا المفهوم الأخير للقرائن.

لكن هل يكفي لاعتماد القرينة، في حالة الفقرة الثانية من الفصل 444 توفر شروطها الواردة بذلك النص و هي أن تكون قوية و منضبطة و متلائمة دون حاجة إلى تدعيمها بيمين من تمسك بها ؟

         لئن كان هذا الإجراء الأخير غير وارد بصفة صريحة صلب أحكام الفصل 444 السالف الذكر إلا أنه يستفاد من صريح عبارات الفصل 487 من م.إ.ع. الذي اقتضى أنه "لا تعتمد القرائن و لو كانت قوية ظاهرة متضافرة إلا مع يمين من تمسك بها."

و عليه فإنه يتحتم على المحكمة المتعهدة بالطعن في حجة رسمية طبق أحكام الفقرة الثانية من الفصل 444 من م.إ.ع. اتباع الإجراءات و الشروط المعمول بها لتلقي البينـة.    كما يتعين عليها احترام جملة الأحكام التي تنظم القرائن القضائية شروطا و آثارا.

         إلا أنه من المشروع أن نتساءل هل أن اعتماد البينة و القرائن يكون بالنسبة لجميع أوجه الطعن في الحجة الرسمية، أم أنه مقصور على حالات معينة دون غيرها ؟ و هل يفضي بنا الأمر في مثل هذه الحالة إلى مخالفة أحكام الفصل 474 (جديد) من م.إ.ع. الذي يقتضي أنه "لا تقبل بينة الشهود فيما بين المتعاقدين لمعارضة ما تضمنه الكتب أو لإثبات ما ليس به و لو كان ذلك في قدر من المال أقل من ألف دينار..." ؟

         لقد حددت أحكام الفقرة الثانية من الفصل 444 من م.إ.ع. مختلف أوجه الطعن المقبولة في الحجة الرسمية و هي تتعلق بالإكراه أو التدليس أو التوليج أو الغلط المادي. و تندرج في أغلبها ضمن العيوب المبطلة للرضاء و التي نظمت أحكامها الفصول من 43 إلى 61 من م.إ.ع. باستثناء التوليج أو ما يسمى بدعوى الصورية الذي تكفل الفصل 26 من نفس المجلة بتنظيم أحكامه.

و تطبيقا لمقتضيات الفصل 444 السالف الذكر، فإنه يجوز لأحد طرفي العلاقة التعاقدية أو للغير إثبات صورية التصرف القانوني الذي اكتفى المأمور العمومي بتدوينه صلب حجة رسمية كأن يثبت مثلا أن البيع موضوع الحجة العادلة هو في الحقيقة هبة مستترة و أن المال المدفوع بمحضر العدلين قد اتصل به الموهوب له من الواهب إثر إتمام العقد.

         كما يجوز إثبات خلاف ما جاء بتصريحات الأطراف المضمنة بالحجة الرسمية إذا كانت مبنية على إكراه أو غلط أو تدليس و يتم الإثبات في هذه الحالات بالشهادة أو بالقرائن. إلا أنه من المتجه التوضيح في خصوص التدليس أن المقصود به هو التدليس أو التزوير الواقع من ذوي الشأن و ليس التدليس الصادر عن المأمور العمومي، إذ أن هذا التدليس الأخير خاضع لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 444 من م.إ.ع. الذي لا يقبل الطعن فيه إلا بالزور لأنه ماس بشخص المأمور العمومي و بالبيانات التي هي من صميم عمله أو التي أشهد بوقوعها بمحضره.

         و تجدر الإشارة إلى أن أوجه الطعن الوارد ذكرها بالفقرة الثانية من الفصل 444 السالف الذكر إنما تتعلق بوقائع مادية بحتة يجوز إثباتها بشتى الطرق.

و في هذا الإطار اعتبرت محكمة التعقيب التونسية أن "الإكراه مبطل للعقد لانعدام الرضاء و لا لزوم في إثباته للقيام بدعوى الزور و يمكن إثباته بجميع الطرق القانونية"[192].  

و هكذا يكون المشرع التونسي قد حصر إثبات ما يخالف الحجة الرسمية بالشهادة      و القرائن في حدود الوقائع المادية التي صدرت عن طرفي التعاقد أو أحدهما دون أن يتعداه إلى إثبات ما يخالف التصرف القانوني ذاته من حيث وقوعه من عدمه. من ذلك أنه لا يجوز مثلا لأحد المتعاقدين إثبات عدم وجود عقد بيع محرر بالحجة العادلة بينهما بمقتضى شهادة الشهود بل كل ما يمكنه هو إثبات صورية ذلك العقد أو تعيب الرضا الصادر عنه.

و هذا ما حرص المشرع على تأكيده بالفصل 478 من م.إ.ع. عندما استثنى من قاعدة الفصل 474 (جديد) من نفس المجلة ما إذا كانت الدعوى في وجود غلط في كتابة الحجة أو وقوع الإكراه أو التوليج أو التدليس في ذلك، و عليه فلا وجود لتعارض بين أحكام هذا الفصل الأخير و الفقرة الثانية من الفصل 444 من م.إ.ع.

         و تجدر الإشارة في الختام إلى أن المشرع التونسي و إن فرّق في خصوص القوة الثبوتية للبيانات المضمنة بالحجة الرسمية بين البيانات التي هي متعلقات المأمور العمومي أو التي أشهد على أنها وقعت بحضوره، و بين البيانات التي تكون من صميم عمل الأطراف       و يقتصر فيها دور المأمور العمومي على تضمينها بالحجة الرسمية، و جعل لكل منها حجية خاصة في الإثبات، فإنه بالمقابل لم يجعل لجميع التنصيصات الواردة بالحجة الرسمية قوة ثبوتية، بل إنه حصر هذه الحجية على البيانات و الشروط الواقعة بين الفريقين و في الأسباب المنصوص عليها و غيرها من الأمور التي لها علاقة متصلة بجوهر العقد و فيما يثبته المأمور العمومي (كالعدل و نحوه) عند تنصيصه على الكيفية التي عرف بها تلك الأمور و ما عدا ذلك من التنصيص لا عمل عليه[193].

و الشروط الأصلية هي التي تتعلق بالشيء الأصلي الذي أريد إثباته بحيث أنه إذا حذفت من العقد يتغير جوهره، و هذه الشروط هي التي تكون لها الحجية اللازمة في الإثبات، أما غيرها التي لا يكون أدنى تأثير على صحة العقد فإنها تعتبر كأنها لم توجد أصلا. و قد أوكل المشرع مهمة تحديد البيانات الأجنبية للتصريحات المضمنة بالحجة الرسمية و التي لا يكون لها أدنى اعتبار إلى جهاز القضاء. فإذا صرح مثلا بعقد البيع أن المال الموهوب يمثل قرضا تحصل عليه الواهب من شخص آخر، فالشرط الأصلي هو الهبة و مصدر المال الموهوب مجرد بيان لا صلة له بالموضوع.

و هذا الموقف التشريعي مخالف لما ذهب إليه المشرع الفرنسي الذي اعتبر بالفصل 1320 من المجلة المدنية الفرنسية أن البيانات الأجنبية عن العقد تصلح أن تكون بداية حجة كتابية.

         إن القوة الثبوتية للحجة الرسمية و إن كانت متفاوتة بحسب نوع البيانات المضمنة بها    و ما إذا كانت من عمل المأمور العمومي أو من عمل الأطراف، فإن أهم ما يتميز به هذا النوع من الكتائب هو امتداد حجيته في الإثبات إلى الصور المأخوذة منه طبق القوانين.

ب‌-     القوة الثبوتية لنسخ الحجة الرسمية :

إن الفرق بين أصول الحجة الرسمية و نسخها يتمثل في كون الأولى هي التي صدرت مباشرة عن المأمور العمومي، و هي التي تحمل توقيعات جميع الأطراف المتداخلة فيها. أما الثانية فهي منقولة عنها و لا تحمل إلا إمضاء الشخص المختص بتسليمها.

و قد اعترف لها المشرع التونسي من هذه الناحية بالصيغة الرسمية، لكن رسميتها في كونها نسخا لا في كونها أصولا. و يحتفظ المأمور العمومي بأصل الحجة الرسمية و لا يسلم لذوي الشأن إلا نسخا رسمية منها بعد الإشهاد بمطابقتها للأصل، و تثبت لها بذلك الحجية المفترضة في أصولها.

غير أن هذه الحجية تختلف بحسب ما إذا كان الأصل موجودا (أولا) أو مفقودا (ثانيا).

أولا : حجية النسخة إذا كان أصلها موجودا :

         لقد أكد الفصل 470 (جديد) من م.إ.ع. على حجية نسخ الحجج الرسمية و غير الرسمية إذ اقتضى أن "نسخ الحجج الرسمية و غير الرسمية المأخوذة من الأصل تعتبر كأصولها إذا شهد بصحتها المأمورون العموميون المأذونون بذلك بالبلدان المأخوذة بها النسخ، أو إذا اقر بصحتها الطرف المحتج بها ضده أو إذا كانت ممضاة من طرفه، أو إذا تم إنجازها وفق وسائل فنية توفر كل الضمانات لمطابقتها لأصولها.

         و في صورة عدم توفر هذه الشروط يتم عرضها على الاختبار لبيان مدى صحتها".   أما في ما يتعلق بنسخ الحجج الخاصة أو العمومية الموجودة بخزائن المكاتيب العمومية فقد اعتبرها المشرع بالفصل 471 من نفس المجلة كأصولها إذا كانت مستخرجة طبق القانون.

إذ جاء به أن"الحجج الخاصة أو العمومية الموجودة بخزائن المكاتيب العمومية إذا أخذ المكلف بها نسخا منها طبق القوانين اعتبرت كأصلها و تجري هذه القاعدة على النسخ المأخوذة من دفاتر المحاكم المنتسخ بها الحجج إذا شهد بمطابقتها لأصلها أو إذا تمّ إنجاز تلك النسخ وفقا للوسائل المشار إليها بالفصل المتقدم..."

         فالمكلف بالخزينة العامة يقوم مقام المأمور العمومي و يشهد بمطابقة نسخ الحجج للأصـل المضمـن بدفاتـر القضـاة، أمـا أوراق الحالة المدنية فإن ضابط الحالة المدنية يحتفظ بأصولها المضمنة بدفاتره (دفتر الولادات و دفتر الوفيات و دفتر الزواج) و لا تسلم منها لذوي الشأن إلا نسخا يعبر عنها "بالمضامين" و هي شهادات رسمية تتضمن أهم البيانات الموجودة بالدفتر.

         كما يحتفظ حافظ الملكية العقارية بالرسم العقاري الذي أنشأه تنفيذا لحكم التسجيل و لا يسلم إلى ذوي الشأن إلا نسخا مطابقة للأصل منه.

و علاوة على ذلك فإن حافظ الملكية العقارية مطالب بحفظ الصكوك المقدمة للترسيم على أن لا تقبل الصكوك من صنف الحجج الخطية إلا إذا كانت أصولا أما الصكوك من نوع الحجج الرسمية فإنه يجوز قبولها و لو كانت نسخا، و لا تسلم لمن يهمه الأمر إلا نسخا من الوثائق المودعة بالخزينة تكون مشهودا بمطابقتها للأصل و بصحة تاريخ إيداعها[194]. و تأخذ هذه النسخ الحجية التي لأصلها سواء كانت حججا رسمية أو غير رسمية.

         غير أن رسوم الملكية المدلى بها إلى المحكمة العقارية تأييدا لمطلب التسجيل تقع إحالتها رفقة نسخة الحكم العقاري على حافظ الملكية العقارية الذي يتولى وضعها بخزينة أوراقه بعد إبطالها.

و لا يمكن له بذلك تسليم النسخ منها باعتبارها صارت لاغية بموجب المفعول التطهيري  للحكم العقاري ما لم يكن الصك متعلقا بعقارات أخرى إلى جانب العقار المسجل فيتم تسليمه إلى الأطراف المعنية[195].

         كما أن قابض التسجيل مؤهل لتسليم النسخ الرسمية من الحجج المودعة بإدارته بعد الإشهاد بمطابقتها للأصل.

         و الملاحظ أن النسخ تستمد حجيتها في التشريع التونسي من افتراض مطابقتها للأصل.   و هذه القرينة لا تتوفر إلا إذا كانت النسخة مشهودا بمطابقتها للأصل من قبل المأمور العمومي المختص بذلك قانونا.

و في هذا الإطار اعتبرت محكمة التعقيب التونسية أن النسخ المذيلة بآثار الطابع فقط دون إمضاء المأمور العمومي عليها بخط يده لا يعتد بها و لو كانت بها عبارة "نسخة طبق الأصل" و تبقى بذلك مجرد ورقة بلا أية قيمة عاملة[196].

و في قرار آخر اعتبرت محكمة التعقيب أن "أحكام الفصل 470 من م.إ.ع. عامة تسري على جميع نسخ الحجج الرسمية و غير الرسمية المأخوذة من أصولها و التي شهد بصحتها المأمورون العموميون المأذونون بذلك سواء أكان الأصل محررا و موحدا بتونس أو ببلد أجنبي و سواء أكان اصل الحجة مودعا بخزينة عمومية أم غير مودع بها"[197].

         غير أن المشرع التونسي  أقرّ بالفصل 470 (جديد) من م.إ.ع. عديد الحالات الأخرى التي بتوفر إحداها تكون للنسخة المحتج بها القيمة التي لأصلها دون ضرورة إلى الإشهاد بمطابقتها للأصل، فهل أن هذه الحالات تنطبق على نسخ الحجج الرسمية أم إنها حكرا على الحجج الغير الرسمية دون سواها ؟

إن طرح هذا التسـاؤل يصبح مشروعا خصوصا و أن المشـرع لم يفرق بين نسخ الحجج الرسمية و نسخ الحجج غير الرسمية من حيث شروط اعتمادها قانونا. و قـد تبدو الإجابة عنه بسيطة باعتبار أن عبارة القانون جاءت مطلقة و يجب أن تؤخذ على إطلاقها. كما أن المشرع لم يفرّق بين النسختين لذلك لا يجب التفريق حيث لم يفرّق القانون، غير أنّ الإجابة الأقرب للصواب لا تتضح معالمها إلا بعد وضع نص الفصل 470 من م.إ.ع. في إطاره التاريخي و فهم عباراته بحسب مراد واضع القانون.

تندرج أحكام هذا الفصل في إطار مواكبة التشريع التونسي إلى التحديث في مجال التقنيات المعلوماتية التي تميّزت بغياب سند ورقي و ما أفرزته هذه التقنيات من إشكاليات تطبيقية بخصوص حجيتها في الإثبات خاصة و أنها معمول بها في الميدان التجاري             و الصيرفي.

و بإقراره للوثيقة الإلكترونية و للإمضاء الإلكتروني يكون التشريع التونسي قد توصل إلى استيعاب هذا التطور العلمي و التقني في مجال الاتصالات و ذلك بتوفير الأدوات القانونية اللازمة للإثبات، غير أن ذلك لم يكون كافيا للتصدي إلى المشاكل التي أفرزتها هذه الآليات الحديثة في الإثبات خصوصا و أنها قد لا تتطلب وجود أصل يمكن الرجوع إليه عند الحاجة، إذ أن الأصل يتمثل في جملة المعلومات المسجلة في ذاكرة الحاسوب أو الحامل الإلكتروني و ما المطبوعة المستخرجة منه إلا نسخة من ذلك التسجيل.

لذا كان لزاما على المشرع أمام غياب ذلك الأصل أن يتغاضى عن شرط الإشهاد بالمطابقة للأصل بالنسبة لنسخ الوثائق الإلكترونية مكتفيا بشرط إنجازها وفق وسائل فنية توفر كل الضمانات لمطابقتها لأصلها أو بإقرار الخصم لصحتها أو إذا كانت ممضاة منه أو بعرضها في أقصى الحالات على الاختبار لبيان مدى صحتها، و يتأكد هذا التمشي خاصة بالنظر إلى طبيعة هذه الشروط التي لا تتلاءم قانونا إلا مع الكتائب غير الرسمية سواء الإلكترونية منها أو المادية.

فإقرار الخصم مثلا بصحة النسخة المحتج بها ضده يجعل هذه الأخيرة نافذة في حقه حتى و لو خلت من الإشهاد بمطابقتها للأصل.

كما أن مجرد المنازعة في مطابقة النسخة للأصل كافيا للإلزام بتقديم الأصل و لو لم يكن هذا الإنكار معززا بدليل، إذ أن مجرد الإنكار يقلب عبء الإثبات ليصبح هذا الأخير محمولا على من يتمسك بالنسخة.

         كما تعبر النسخة كأصلها من حيث قوّتها الثبوتية كلما كانت ممضاة من قبل الخصم المحتج بها ضده، ذلك أن هذه الصور تتماشى و طبيعة الحجج الخطية التي يجوز إثبات خلافها بشتى الطرق. و لذلك فإنه لابدّ من ربطها بأحكام الفصول 749 و 458 و 453 (مكرر) من م.إ.ع. التي يستروح من إجمالها أنّ أصل الكتب غير الرسمي يكون له الحجّية اللازمة إذا اعترف به الخصم أو لم ينكر خطّه أو إمضاءه بوجه صريح، و طالما أنّ النسخة تكتسب الحجّية التي لأصلها فإنّه من المنطق أن تكون وسائل إثباتها أو نفعها هي نفسها التي تكون مقبولة لإثبات أو لنفي الأصل.

كما أن إقرار المشرّع في آخر الفصل470  (جديد) من م.إ.ع. للاختبار كوسيلة لإثبات صحّة النسخة إذا خلت من أحد الشروط السالفة الذكر، لا يمكن اعتماده بخصوص نسخ الحجج الرسمية طالما أنه من غير الجائز قانونا قبول نسخ الحجج الرسمية التي تكون محتفظة بأصولها ما لم تكن مشهودا بمطابقتها للأصل من قبل المأمور العمومي المختص، و أن جملة القوانين المتفرّقة المتعلّقة بالحجج الرّسميّة اتفاقية كانت أو قضائيّة أو إداريّة تنصّ بصورة واضحة على كيفية استخراج النسخ من الأصول التي يقع حفظها بخزائن المأمورين العموميين أو بخزائن المكاتيب العموميّة، و لم يقع النيل من أحكامها و لا تنقيحها تماشيا مع ما تمّ إقراره بالفصل 470 (جديد) من م.إ.ع.

و هو ما يقيم الدليل على أن شرط المطابقة للأصل لا يزال هو الشرط الوحيد          و الأساسي للقبول نسخ الحجج الرسمية و لا مجال لاعتماد بقية الشروط الواردة بذلك الفصل بالنسبة لهذا النوع من النسخ.

غير أن قرينة المطابقة للأصل التي تتمتع بها نسخ الحجج الرسمية غير قاطعة بل هي قرينة بسيطة قابلة للدحض بإثبات العكس إذ بإمكان الخصم المحتج بها ضده أن ينازع في صحتها و يطلب مقابلتها بأصلها الموجود بخزنة المكاتيب.

و في هذا الإطار اقتضى الفصل 472 من م.إ.ع. أنه لا يسوغ للخصوم في الصور المقررة الفصلين أعلاه أن يطلبوا تقديم أصل الحجة الموجودة بخزينة المكاتيب بمجلس الحكم    و إنما لهم الحق أبدا في طلب مقابلة النسخة بالأصل أو بالنسخة الموجودة بخزينة المكاتيب إذا عدم الأصل و لهم أيضا أن يطلبوا أخذ نسخة فوتوغرافية مما ذكر و أجر ذلك عليهم..."

         و انطلاقا من أحكام هذا الفصل يكون طلب مقابلة النسخة بأصلها من حق الخصم المحتج بها ضده و ذلك حتى لو استجابت للشروط الواردة الفصلين 470 و 471 من م.إ.ع.     و يتم ذلك عادة بتعيين المحكمة لخبير فني قصد مباشرة المطابقة بالخزينة التي يوجد بها الأصل أو النسخة[198].

         و هكذا نتبيّن أنه و لئن نزّل المشرّع نسخ الحجج الرسمية منزلة أصولها فيما لهذه الأخيرة من حجية وقوة إثبات، فإنّه بالمقابل كان حريصا على إحاطتها بجملة من الضمانات التي تربطها بأصلها كما جعل قرينة المطابقة قرينة بسيطة قابلة للدحض بالمقابلة للأصل.

         و لعمري، إن هذا الموقف التشريعي بديهي جدا، باعتبار أن النسخة تستمدّ رسميّتها      و حجّيتها في الإثبات من مطابقتها للأصل، فهي إذن حجية مستمدة من الأصل لا من النسخة لذلك فإذا ما انعدم التطابق بين النسخة و أصلها فإن قرينة المطابقة تسقط و تصبح النسخة عديمة الفائدة قانونا.

         لكن كانت هذه حقيقة الحجية التي أضفاها المشرع على النسخ التي تكون محتفظة بأصلها، فما هو حكم تلك النسخ إذا كان أصلها مفقودا ؟

ثانيا : حجية النسخة إذا كان أصلها مفقودا :

         قد ينعدم الأصل بفعل القوة القاهرة كالكوارث الطبيعية أو الثورات أو الحروب، و قد يتلف بسبب إهمال أو عدم احتياط الشخص المؤتمن على حفظها، ففي مثل هذه الصور و غيرها يمكن لمن له مصلحة الاحتجاج بنسخة الأصل التالف على أن يتحمل بعبء إثبات فقدان ذلك الأصل.

         و قد اعتبر المشرع التونسي بالفصل 472 من م.إ.ع. أنه "إذا لم يوجد الأصل و النسخة المحفوظة بخزينة المكاتيب العمومية اعتمدت النسخ الرسمية المحررة على مقتضى ما قرر بالفصل 470 و 471 إن لم يكن بها تشطيب و لا تغير و لا شيء آخر يقتضي الريبة".

و عليه، فإن النسخة التي فقد أصلها تكون لها ما لهذه الأخيرة من حجية في الإثبات،    و ذلك كلما كانت محررة طبقا للوضعيات التي تتوفر فيها قرينة المطابقة للأصل (و هي بالنسبة لنسخ الحجج الرسمية الإشهاد بالمطابقة للأصل)، و بشرط أن يكون مظهرها الخارجي لا يسمح بالشك في مطابقتها للأصل، و ذلك أمام غياب أصل يمكن الرجوع إليه عند الاقتضاء.

         و لا توحي النسخة بمطابقتها للأصل من حيث مظهرها الخارجي إلا إذا كانت خالية من التشطيب أو التغيير أو أي شيء آخر يقتضي الريبة كالمخرجات أو الملاحق المقحمة فيها بصفة غير قانونية.

أما التقنين المصري فإنه يفرّق في خصوص حجية النسخة التي فقدت أصلها بين النسخ الرسمية الأصلية أي الصور الرسمية المستخرجة مباشرة من الأصل (مثل الصورة التنفيذية    و الصورة الأصلية و الصورة الأصلية البسيطة و الصورة الرسمية) و التي أناط لها الحجية المفترضة في أصلها متى كان مظهرها الخارجي لا يسمح بالشك في مطابقتها الأصل و إلا سقطت حجيتها في الإثبات، و بين النسخ الرسمية المأخوذة من النسخ الرسمية الأصلية ( و هي صور رسمية نقلت من الصور الرسمية الأصلية) و التي لا يمكن مضاهاة النسخة الثانية عليها إذا كانت الصورة الأصلية غير موجودة. فلا تكون للنسخة الثانية حجية محددة و لا يعتدّ بها إلا لمجرد الاستئناس شأنها شأن النسخ المأخوذة من النسخ الأصلية[199].

         و القانون الفرنسي لم يحد بدوره عن هذا التوجه، فقد ميّز بين النسخة الأولى تنفيذية كانت أو غير تنفيذية و النسخة التي يحررها القاضي و يضعها محل الأصل عند سحبه لضمه إلى ملف إحدى الدعاوى بناء على قرار من المحكمة، و بين النسخة الأخرى التي تعطى بعد النسخة الأولى.

فقـرر للنسخـة الأولى حجية الأصـل بشـرط إثبات فقـد الأصـل، و قـرر للنسخة المواليـة حجيـة الأصل مـدة ثلاثين عاما و إلا اعتبرت مبـدأ ثبوت بالكتـابة    (un commencement de preuve par écrit). أما النسخة الأخيرة فقد نزع عنها الحجية التي في الأصل إذ لا يؤخذ بها إلا لمجرد الاستئناس.

         و تعتبر النسخ الثابتة و الدائمة في القانون التونسي، كأصلها في صورة تلف ذلك الأصل إذ جاء بالفقرة الثانية من الفصل 471 (جديد) من م.إ.ع. و تنطبق أحكام الفقرة السابقة (التي تعتبر النسخة كأصلها في حالات خاصة) إذا لم يحتفظ طرف ما أو مؤتمن على الوثائق بأصل السند و قدم نسخة ثابتة و دائمة".

لكن هل يجوز تطبيق أحكام هذه الفقرة على نسخ الحجج الرسمية في صورة فقدان الأصل ؟

إنّ الإجابة عن هذا التساؤل ترتبط بدورها بفهم كنه النسخة الدائمة و الثابتة و ربطها ببقية قواعد الإثبات الموضوعية التي تتلاءم معها.

تعدّ نسخة دائمة و ثابتة على معنى الفقرة الأخيرة من الفصل المذكور "كل منتسخ يؤدي إلى تغيير في شكل السند المادي غير قابل للرجوع فيه مثل الميكروفيلم و الميكروفيش و كل وسيلة خزن إلكتروني أو ضوئي أخرى"، و يستروح من هذه الفقرة أن النسخة الثابتة و الدائمة لا تتمتع بالحجية التي لأصلها إلا بتوفر شرطين : أولهما أن يكون الأصل قد فقد، و ثانيهما أن تكون النسخة المحتج بها ثابتة و دائمة.

         و قد تكفل المشرع بتعريف النسخة الثابتة و الدائمة مكتفيا بإعطاء أمثلة لبعض التقنيات الحديثة التي تتوفر فيها صفتي الثبات و الديمومة كالميكروفيلم و الميكروفيش و كل وسيلة خزن إلكتروني أو ضوئي أخرى، تاركا بذلك المجال واسعا أمام القضاء للاجتهاد حول تحديد مضمونها.

         إلا أنه مهما يكن من أمر، فإن هذه النسخ لا يمكن تصورها في الحجج الرسمية لأن التثبّت من توفر شرطي الديمومة و الثبات يتم اعتمادا على معايير فنية كالميكروفيلم             و الميكروفيش و هي وسائل نزّلها المشرّع بصريح عبارات الفصل 453 (مكرر) من م.إ.ع. منزلة الكتائب الخطية و بذلك يبقى شرط المطابقة للأصل بالنسبة لنسخ الحجج الرسمية هو الشرط الأساسي و الجوهري لقبول الاحتجاج بها سواء فقد أصلها أو لم يفقد.

على أنّ الفارق الوحيد بين هاتين الصورتين هو أن الخصم المحتجّ ضدّه بنسخة مطابقة للأصل من حجة رسمية فقد أصلها لا يمكنه التمسك بحقه في مقابلة النسخة بأصلها لتعذر هذه الإمكانية منطقية و ذلك بخلاف ما إذا كان أصل تلك الحجة موجودا إذ يجوز لهذا الخصم المطالبة بمطابقة الصورة للأصل بشرط أن تتم إثارة ذلك أمام محاكم الأصل و لا سبيل إلى قبول هذا الدفع لأول مرة أمام محكمة التعقيب باعتباره لا يعدو أن يكون إلا دفعا موضوعيا.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                               

الفقرة الثانية : القيمة الإثباتية للحجة الرسمية تجاه القاضي :

         يتمتع القاضي بسلطات هامة في الرقابة على مستندات الدعوى بالرغم من أنّ نظام الإثبات المقيد التي تخضع له قواعد الإثبات المدني التونسي يحدّ من دوره في تحقيق الدعوى المدنية، خاصة و أن هذا النظام يهم مسألة قبول واعتماد الأدلة و ضبط قوتها في الإثبات.

         غير أن القول بأن نظام الإثبات القانوني يحدّ من نفوذ القاضي في تحقيق الدعوى لا يمنع هذا الأخير عند تهيئة القضية للحكم من البحث عن الأدلة المقبولة قانونا، و في هذا المعنى يقول الأستاذ جاك نورمان (Jacque Normand) "إن تبني نظام الإثبات القانوني و لئن كان يقصي و جدان القاضي أو على الأقل يحدّ منه، فإنه لا يجرّده من كل نفوذ في اتخاذ مبادرة في البحث عن الحقيقة"[200].

         و لما كانت الحجة الرسمية وثيقة معدّة للإثبات سلفا، فإنه من البديهي أن يتم الاحتجاج بها أمام القضاء عند وجود منازعة.

         و هي بصفتها تلك تتمتع بقوة ثبوتية تجاه الجميع بما في ذلك القاضي التي تعرض أمامه ضمن مؤيدات الدعوى. و هذه الحجّية تثبت للحجة الرسمية إلى حين الطعن فيها بالزور.

         و عليه فإن بحث القوة الثبوتية للحجة الرسمية تجاه القاضي يستدعي التطرق في مرحلة أولى إلى إبراز قيمتها الإثباتية تجاه القاضي قبل إدعاء التزوير (أ) ثم و في مرحلة موالية يجدر بنا الحديث عن قيمتها الإثباتية تجاه القاضي بعد إدعاء التزوير.

 

 

أ‌- القيمة الإثباتية للحجة الرسمية قبل إدعاء التزوير :

إذا وقع الاحتجاج بحجة رسمية أمام القاضي المدني لتأييد الدعوى أو لنفيها و كان مظهرها الخارجي ناطقا برسميتها، فإن القاضي المتعهد بالنزاع يعمل مضمونها بين الأطراف المتنازعة كلما كانت تلك الحجة مؤيدا منتجا في الدعوى.

         غير أن أهمية الحجة الرسمية إزاء القاضي تبرز بالأساس على مستوى سير الدعوى القضائية سواء قبل البت في النزاع أو بعده، فمن المعلوم أن كل دعوى قضائية تمر بالمراحل الإجرائية الثلاثة الآتية :

-1 مرحلة النشر : و فيها تقع المناداة على القضية بالجلسة المعينة لها، و تتحقق المحكمة من حضور الأطراف و تتثبت من صفاتهم و من استفاء الإجراءات القانونية كما يتبادل محامو الأطراف ما لهم من ملحوظات أو تقارير أو مؤيدات فيما بينهم.

و في نفس هذه المرحلة المتقدمة للقضية يمكن للمحكمة إذا رأت موجبا لذلك أن تأذن للقاضي المقرر بإجراء أبحاث معينة مثل سماع البينة أو إجراء توجه أو اختبار أو تتبع دعوى الزور أو غير ذلك من الأعمال الكاشفة للحقيقة.

-2 مرحلة المرافعة : و تأتي إثر استنفاذ ردود الأطراف المتداعية. و فيها يحضر المحامون   و يتولون المرافعة الشفاهية على ضوء ما قدّموه من ملاحظات مدوّنة في تقاريرهم المظروفة بملف القضية.

و يكون الهدف من هذه المرافعة الشفاهية هو إيضاح بعض المسائل التي قد تكون غامضة على هيئة الحكم و لم يتسنى توضيحها كتابة.

-3 مرحلة المفاوضة (أو التأمل) و التصريح بالحكم : و فيها تحجز المحكمة القضايا للمفاوضة كلما تبيّن لها أنها أصبحت جاهزة للفصل. و لا تقبل في هذه المرحلة أية ملاحظات و لا حجج إلا بصفة استثنائية و بترخيص من المحكمة و يكون ذلك بناء على مطلب في حل المفاوضة لإعادة القضية إلى طور النشر و تبادل التقارير.

         و المفاوضة في شأن ملفات القضايا تكون سرية و لا يحرر فيها أثر كتابي و لا يشارك فيها غير القضاة الذين تلقوا المرافعة، و لا يصدر الحكم عقب المفاوضة إلا بحصول الأغلبية.

         و باستنفاذ هذه المراحل الثلاثة تكون الدعوى القضائية قد أخذت ما يكفي من الوقت          و الأبحاث ما يمكّن المحكمة من أن تصدر حكمها عن تبصر و رويّة.

         غير أن المشرع التونسي أجاز للمحكمة في بعض الحالات عدم التقيّد بهذه المراحل،     و ذلك بأن سمح لها بأن تأذن بالمرافعة حينا و دون لزوم لإجراءات أخرى كلما كانت القضية مؤسسة على اعتراف أو كتب رسمي أو على خط يد معرّف فيه بالإمضاء أو قرينة قانونية أو كلما كان هناك تأكّد يوجب النظر على وجه السرعة[201].

فامتياز وجود الكتب الرسمي ضمن أوراق الملف يجعل القضية مهيأة للفصل في الأصل، لذلك فإنّه يجوز للمحكمة الإذن بالمرافعة فيها حينا و دون لزوم لنشرها بجلسات تحضير أخرى.

و في ذلك دون شك اختصار للإجراءات و للوقت و تجنب لإثقال كاهل المحكمة بالقضايا المنشورة على ذمة الأبحاث و المعاينات. و علاوة على ضمانه لحسن سير الدعوى القضائية و سرعة و نجاعة البت فيها، فإن امتياز وجود الحجة الرسمية ضمن الوثائق المضافة لملف القضيّة له أهمية قصوى على مستوى صياغة نص الحكم الصادر في القضية، ذلك أنه يتوجّب على المحكمة المعتهدة عند وجود كتب رسمي، أن تأذن بتنفيذ حكمها مؤقتا بضامن مالي أو بدونه و بغض النظر عن الاستئناف[202].

          و خلافا لحالة الفصل 81 من م.م.م.ت. التي أتاحت للمحكمة إمكانية صرف القضية للمرافعة حينا إذا كانت القضية مؤسسة على كتب رسمي، فإن صياغة الفصل 125 من نفس المجلة لا تسمح بإعمال المحكمة لسلطتها التقديرية في خصوص الإذن بالتنفيذ الوقتي أو ما يسمى "بالتنفيذ على المسودة".

إذ يقتضي هذا الفصل الأخير أنه "على المحاكم الابتدائية أن تأذن بتنفيذ أحكامها مؤقتا بضامن أو بدونه و بدون التفات للاستئناف و ذلك إذا كان هناك كتب رسمي..." فعبارة "على" التي استهل بها المشرع نص الفصل 125 توحي بالوجوب و الإلزام، و تنفي حرية الاختيار بالنسبة للمحكمة.

لذلك فإنه و إذا ما أغفلت محكمة البداية طلب المحكوم له الإذن بالتنفيذ الوقتي طبق الفصل المذكور، فإنه بإمكانه طلب ذلك مجددا من رئيس المحكمة الاستئنافية و في هذه الصورة يقع النظر في مطلبه بجلسة إستعجالية تعقد في أسرع وقت بعد استدعاء الطالب لخصمه طبق القانون[203].

         و لا يخفى، أن الأحكام المأذون بتنفيذها الوقتي تكون متميزة من حيث قوّتها التنفيذية    و ذلك منذ صدورها، إذ تصبح سنداتا تنفيذية و تنفّذ مباشرة بعد تحليتها بالصيغة التنفيذية و لو لم تحرز على قوّة اتصال القضاء. و هذا بخلاف القاعدة العامة لإكساء الأحكام بالصبغة التنفيذية و التي تستوجب ضرورة أن تكون الأحكام القضائية غير قابلة للطعن بإحدى الوسائل المعطلة للتنفيذ.[204]

         إلا أن القول بأن الحجة الرسمية تحد من حرية القاضي في إعمال سلطته التقديرية إذا كان مظهرها الخارجي يوحي برسميتها، لا ينسحب على جميع أنواع الحجج الرسمية.

ذلك أن التقارير التي يحرّرها أعوان الضابطة العدلية أو الموظفون الذين أناط لهم القانون سلطة تتبع مقترفي بعض الجرائم كأعوان القمارق المحلفين تعتبر بالنسبة للمحاكم الزجرية مجرد تحريرات لبعض الوقائع ذات الصبغة الجزائية.

و هي قابلة للاجتهاد و التقدير من قبل القاضي الجزائي شأنها شأن باقي الحجج، و ذلك أخذا بعين الاعتبار بقرينة البراءة التي يتمتع بها المتهم، هذه القرينة التي تمنحه الحق في إثبات براءته بكل الوسائل رغم التقارير المحررة ضده حتى و إن كانت هذه التقارير تتضمن اعترافه بارتكاب الجريمة.

         غير أنه و إذا ما ثبت أن هذه التقارير كانت منجزة بصفة مدقّقة و سليمة من الناحية القانونية فإنه قد يحصل بها إقناع القاضي بثبوت التهمة الموجهة ضد المتهم فيحكم بإدانته من أجلها.

         و تتجه الملاحظة إلى أن التقارير تكون بوصفها حججا رسمية حجة على الأفعال المادية التي عاينها محررها بنفسه في حدود اختصاصه النوعي و الترابي، أما الأفعال التي استفادها من تصريحات الأطراف أو الشهود و كذلك الاستنتاجات الشخصية التي وصل إليها باجتهاده، فإنها لا تلزم القاضي، و لا تكون لها أية قيمة إثباتية.

فإذا تمّ حجز كمّية هامة من المخدرات، فهذا الحجز أمر مادي و ثبوته قاطع لاشك فيه إلا أن صفة المادة من كونها مادة مخدرة أم لا، لا تعتبر قاطعة بالنسبة للقاضي إلا بعد تحليلها في المخابر المعدة للغرض.

و فضلا على ما تقدم فإن القاضي يجد مجالا واسعا للاجتهاد في تقدير قيمة الحجة الرسمية إذا كانت من صنف الأحكام القضائية الأجنبية و ذلك بمناسبة نظره في طلب الإذن بالتنفيذ أو عدم الحجية أو التصريح بعدم المعارضة.

         ذلك أن البيانات المدوّنة بالحكم الأجنبي لا تكون حجّة تجاه القاضي التونسي إلا فيما نقله ذلك الحكم من الوثائق التي أضافها الخصوم و فيما تم سماعه من بيّنات. كما أنه لا يتعتد إلا بما شاهده القاضي الأجنبي بنفسه عند إجراء المعاينات أو توجيه اليمين و أدائها و إجراء الصلح بين الخصوم.

أما غيرها من الاستنتاجات التي يصل إليها القاضي الأجنبي عند إطلاعه على تلك الوثائق فإنها لا تشكل حجة أمام القاضي التونسي لأن ذلك من شأنه أن يؤول إلى اكتساب الحكم المراد تنفيذه أو التصريح بعدم حجيته أو عدم المعارضة به بحجية الأمر المقضي.

         و في هذا الإطار تقتضي الفقرة الأخيرة من الفصل 12 من مجلة القانون الدولي الخاص أنه "إذا لم تكن هناك منازعة من أحد الأطراف و توفرت شروط الإذن بالتنفيذ، فإن القرارات القضائية و الولائية الأجنبية يكون لمضمونها قوّة إثباتية أمام المحاكم و السلط الإدارية التونسية".

         و بسنّه لأحكام هذه الفقرة يكون المشرع قد ربط حجّية الأحكام القضائية الأجنبيّة تجاه القاضي التونسي بضرورة توفّر شرطين أساسيين و هما :

-         عدم وجود منازعة بين أطراف النزاع.

-         توفر شروط الإذن بالتنفيذ الوارد ذكرهما بالفصل 11 من مجلة القانون الدولي الخاص.

و بذلك تكون الفقرة الثانية من الفصل 12 السالف ذكرها، خارجة عن أحكام الفصل 443 من م.إ.ع. الذي يعترف للأحكام القضائية الأجنبية بقوة ثبوتيّة حتى و لو قبل اكتسابها صفة التنفيذ.

         فالحكم الأجنبي و لئن كان حجة رسمية في حد ذاته إلا أن رسميته لا تمنع القاضي التونسي من إجراء مراقبة عليه، و هي مراقبة شكلية تشمل التثبت من أن الوثيقة التي قدمت له قصد تنفيذها صادرة عن هيئة قضائية أجنبية، و أنّ ما أثبته ذلك الحكم لا يتنافى مع النظام العام التونسي. كما تمتد مراقبة القاضي التونسي على الحكم الأجنبي إلى التثبت من اختصاص المحكمة التي أصدرته و الإجراءات التي أتّبعت فيه.

         على أن الاختصاص بتنفيذ الحكم الأجنبي موكول إلى المحكمة الابتدائية بتركيبتها المجلسيّة التي يقع بدائرتها مقر الشخص المحتج به ضده. و إذا لم يكن لهذا الأخير مقرا معلوما بالبلاد التونسية فأمام المحكمة الابتدائية بتونس.

         كما أن القول بأن الحجة الرسمية حجة تجاه الجميع بما دوّن فيها من أمور قام بها المأمور العمومي الذي حررها أو وقعت من ذوي الشأن بمحضره، لا يمنع القاضي من إعمال اجتهاده في خصوص تقدير قيمتها الإثباتية كلما كان مظهرها الخارجي ناطقا بعدم رسميّتها.

من ذلك أن الفصل 448 من م.إ.ع. يمنح القاضي سلطة تقدير قيمة الحجة الرسمية كلما كان تحريرها من وظيفة غير الذي حررها أو لعدم أهليته أو لنقص في الصورة.

كما منحه إمكانية تقرير مآلها إثر القضاء بنزع صفة الرسمية عنها، بأن أجاز له اعتبارها كتبا غير رسمي إن كانت بها إمضاء المتعاقدين اللازم رضاهما لصحة التصرف.     و تصبح له بذلك سلطة واسعة في تقدير صحتها في صورة إنكار أحد طرفيها لخطه أو لإمضائه، إذ أجاز له القانون إمكانية الإذن بتحرير حقيقة الأمر سواء بنفسه أو بواسطة أهل الخبرة و ذلك حسب صريح أحكام الفصل 459 من م.إ.ع.

و هذه الإمكانية بعيدة كل البعد عن إجراءات الطعن بالزور إذ يكتفي القاضي في هذه الصورة باستبعاد الحجة الرسمية عند ثبوت العيب دون حاجة إلى إحالة الخصوم على حاكم التحقيق للتحقق من تزويرها.

         غير أن طلب إجراء الاختبار غير ملزم بالنسبة للقاضي إذ له رفضه كلما تراءت له عدم جديته، و في هذا المعنى يقتضي الفصل 229 من م.م.م.ت. أنه "إذا وقع طلب اختبار كتب أدلى به أحد الخصوم فالمحكمة تنظر هل المقصود من ذلك التطويل، و في هاته الصورة لها كل السلطة في رفضه، و إذا رأت قربه من الصدق و لم يمكنها الحكم فيه بدون بحث توقف النظر في أصل النازلة و تأذن بإجراء البحث".

و يتم اللجوء إلى الاختبار كلما كان المظهر الخارجي للحجة الرسمية ناطقا بعدم رسميتها و ذلك قصد إيضاح الأمر للمحكمة قبل البت في أصل النزاع. و يقتصر الاختبار على جزء العقد المطعون في صحته فسحب، أما الجزء المعترف به فإن القاضي يضع عليه علامة إمضائه، كما يتولى إمضاء أوراق التنظير[205].

         و إضافة إلى ذلك و إذا ما تقرر اعتبار الحجة الرسمية كتبا خطيا لأحد الأسباب المضمنة بالفصل 448 من م.إ.ع. فإنه يجوز للمحكمة أن تأذن في صورة المنازعة حول صحّتها بسماع شهادة الشهود الذين ربما عاينوا كتابة الحجة أو إمضاءها أو الذين لهم علم بأمور صالحة لكشف الحقيقة[206] بما في ذلك المأمور العمومي الذي حرّرها إن أمكن.

         و هكذا يكون للمحكمة سلطة واسعة في الحدّ من قيمة الحجة الرسمية أو حتى استبعاد تطبيقها نهائيا كلما ثبتت عدم صحتها بعد الإذن باختبارها من أهل الاختصاص عند الإقتضاء.

         و علاوة على ذلك تتمتع المحكمة بسلطة تقدير الإجراءات المترتبة على الكشط أو الإقحام أو الزيادة الواقعة بصورة غير قانونية في الحجة الرسمية، إذ خوّل لها الفصل 20 من القانون عدد 60 لسنة 1994 المنظم لمهنة عدول الإشهاد استبعاد تلك الإقحامات و الملاحق    و القضاء ببطلانها.

         كما أن القاضي مطالب بالنظر في الطعون الموجهة ضد الحجة الرسمية بسبب الإكراه أو التدليس أو التوليج أو الغلط المادي، و ليس له في هذه الحالة أن يرفض تلقي البينة بالشهادة لإثبات واقعة الإكراه أو التدليس أو التوليج الواقع من أحد الطرفين على الآخر.

بل إن القانون أجاز له استنباط حقيقة الأمر و لو بالقرينة القوية المنضبطة المتلائمة بغير احتياج إلى تتبع إجراءات الطعن بالزور.

         و تبعا لما تقدم يكون القاضي مطالب بالتحري في الحجة الرسمية سواء من الناحية الشكلية أو الأصلية لدفع كل شبهة تحوم حولها، و لابد له عند تقرير بطلان الملاحق أو الإقحامات أو عند تقرير بطلان الحجة الرسمية بصفة كلية من أن ينصص على سبب ذلك بحكمة و إلا كان معرضا للنقض.

         أما إذا تعذر على أحد الخصوم الإدلاء بأصل الحجة الرسمية و اكتفى بتقديم نسخة منها، فإنه يتعين على القاضي التحري في صحتها و تقدير قيمتها في الإثبات.

ففي مثل هذه الحالات يأذن القاضي بمقابلة النسخة بأصلها أو بالنسخة الموجودة بخزينة المكاتيب العمومية كلما وقع التمسك بذلك من قبل الخصم المحتج بها ضده و كان الأصل موجودا أما إذا عدم الأصل، فإن القاضي يجتهد في اعتماد النسخ المحتج بها أمامه مستنيرا بأحكام الفصل 472 من م.إ.ع. التي تشرّط لاعتماد النسخ في صورة فقدان الأصل أن تكون محررة وفقا لأحكام الفصلين 470 و 473 من نفس المجلة، و بشرط أن تكون خالية من كل تشطيب أو تغيير أو أي شيء يقتضي الريبة.

و لكن هل يجوز للقاضي أن يدعو من تلقاء نفسه المأمور العمومي الذي حرّر الحجة الرسمية لاستضاح الأمر إذا كانت صحتها محل شك لديه ؟

         لا مانع مبدئيا من جواز ذلك بالنسبة للقاضي خصوصا و أن الصياغة الجديدة للفصل 12 من م.م.م.ت. تسمح له بذلك. إذ جاء به أنه "ليس على المحكمة تكوين أو إتمام إحضار حجج الخصوم"[207]، بما يعني أنه بإمكان القاضي السعي في إتمام حجج الخصوم إن رأى ذلك لازما لتحقيق الدعوى.

و الملاحظ أن هذا الحل لم يقع اعتماده بصفة صريحة من قبل المشرع التونسي و ذلك خلافا لبعض التشاريع العربية مثل مصر التي مكّنت القاضي في قانون مرافعاتها من استدعاء الموظف الذي صدرت عنه الحجة الرسمية لإيضاح حقيقة الأمر فيها كلما كانت صحتها محل شك في نظره.

         و لعل مرد عدم تنصيص المشرع التونسي على هذه الإمكانية، هو إيمانه بعدم نجاعة هذا الحل و جدواه في بعض الحالات من ناحية، و استعاضته عنه ببعض الحلول التي رآها كفيلة بتوضيح صحة الحجة الرسمية من ناحية أخرى.

         و هذه الحلول تكمن بالأساس في عرضها على أهل الاختصاص كلما كان مظهرها الخارجي يوحي بعدم رسميتها، أو كلما تعلق الأمر بالنسخ المستخرجة منها عند وجود منازعة حول صحتها، أما الحجة الرسمية التي يكون مظهرها الخارجي سليما فإنها تتمتع بقرينة الرسمية التي تلازمها إلى حين ثبوت الطعن فيها بالزور.

ب‌-     القيمة الإثباتية للحجة الرسمية بعد إدعاء التزوير :

لئن كانت الحجة الرسمية تتمتع بقرينة قانونية على رسميتها و صحة ما دوّن بها        و تحرم بذلك المحتج بها ضده من الالتجاء إلى الطرق العادية قصد إثبات ما يخالف بياناتها خصوصا تلك التي هي من صميم عمل المأمور العمومي الذي حررها، فإن هذه القرينة غير قاطعة إذ يمكن الحد منها عن طريق الطعن بالزور.

و في هذا المعنى جاءت أحكام الفقرة الأولى من الفصل 444 من م.إ.ع. ناصة على أن "الكتب الرسمي معتمد و لو في حق غير المتعاقدين حتى يقع القيام بدعوى الزور فيه و ذلك في الإتفاقات و الأمور التي أشهد بها المأمور العمومي الذي حرره على أنها وقعت بمحضره".

و يختلف دور المحكمة المتعهدة بحسب ما إذا كان الطعن بالزور  واقعا في شكل دعوى جنائية أصلية و هو ما يعبر عنه "بالزور الجنائي" (أولا) أو أثناء النظر في قضية مدنية بصفة عرضية و هو ما يطلق عليه "بالزور المدني" (ثانيا).

أولا : دعوى الزور الأصلية أو الزور الجنائي :

لقد اكتفى المشرع التونسي بالفصل 172 من م.ج. بتحديد حالات التزوير و الأفعال المعتبرة زورا دون إيجاد تعريف له إذ يقتضي هذا الفصل بعد تعديله بمقتضى القانون عدد 89 لسنة 1999 المؤرخ في 2 أوت 1999 أنه "يعاقب بالسجن بقية العمر و بخطية قدرها  ألف دينار كل موظف عمومي أو شبهه و كل عدل يرتكب في مباشرة وظيفه زورا من شأنه إحداث ضرر عام أو خاص و ذلك في الصور التالية :

-         بصنع كل أو بعض كتب أو عقد مكذوب أو بتغيير أو تبديل أصل كتب بأي وسيلة كانت سواء كان ذلك بوضع علامة طابع مدلّس به أو إمضاء مدلس أو كان بالشهادة زورا بمعرفة الأشخاص و حالتهم.

-         بصنع وثيقة مكذوبة أو تغيير متعمًّد للحقيقة بأي وسيلة كانت في كل سند سواء كان ماديا أو غير مادي من وثيقة معلوماتية أو إلكترونية و ميكروفيلم و ميكروفيش     و يكون موضوعه إثبات حق أو واقعة منتجة لآثار قانونية".

و أمام هذا الفراغ التشريعي حاولت محكمة التعقيب التونسية تعريف التزوير بأنه هو "الذي يتم في محرر قصد إظهار الكذب في مظهر الحقيقة غشا لعقيدة الغير و أن يكون من شأنه الإضرار أو احتمال الإضرار بمن يحتج في مواجهته المحرر"[208].

و في قرار آخر لها عرّفت محكمة التعقيب التدليس بكونه "إنشاء عقد مكذوب بأي وسيلة كانت أو صنع كل أو بعض كتب و ذلك بنية إحداث ضرر عام أو خاص[209].

كما تعددت التعريفات الفقهية للتدليس من ذلك التعريف الذي أورده "إيميل قارسون" الذي اعتبره كل "تغيير للحقيقة بقصد الغش في سند بإحدى الطرق التي ضبطها القانون من شأنه إحداث ضرر"[210].

كما عرّفه جانب آخر من الفقه بأنه "تحريف مفتعل للحقيقة في الوقائع أو البيانات التي يراد إبقاؤها بسند يحتج به تجاه الغير و ينجم عنه ضرر مادي أو معنوي أو اجتماعي"[211].

و انطلاقا من جملة هذه التعريفات تتضح معالم أركان هذه الجريمة فهي ككل الجرائم القصدية تتطلب توفر الركن المعنوي و الركن المادي و يضاف إلى ذلك ركنا ثالثا و هو حصول الضرر.

و تنطق دعوى الزور الجنائي بإثارة التتبع من قبل النيابة العمومية التي تفتح فيها بحث تحقيقي باعتبار أن جريمة التزوير في حجة رسمية تعتبر من قبيل الجنايات التي يكون فيها التحقيق وجوبيا.

و تستثنى من هذه القاعدة بعض الحجج الرسمية التي رأى المشرع تنزيلها منزلة الجنح، من ذلك التدليس الواقع في الوثائق الإدارية كبطاقات السوابق العدلية و جوازات السفر و رخص حمل السلاح و الشهادات الطبية... حيث اعتبرها المشرع بالفصول من 193 إلى 200 من م.ج. من قبيل جرائم الافتعال التي لا تخرج طبيعتها عن الجنح.

إذا وقع رمي الحجة الرسمية بالزور في شكل دعوى أصلية، فإنه يتم إيداع تلك الحجة بكتابة المحكمة بسعي من كاتب المحكمة الذي يضع إمضاءه بكل صحيفة منها و يحرر تقريرا مفصلا في الحالة المادية التي وجدت عليها تلك الحجة، و يمضي معه من قدمها.

و إذا كانت الحجة الرسمية المرمية بالزور مأخوذة من مستودع عمومي، فعلى الموظف الذي سلمها أن يمضيها بالكيفية التي قام بها كاتب المحكمة.

و علاوة على ذلك فإن مأمور الضابطة العدلية و حاكم التحقيق و ذي الشبهة و القائم بالحق الشخصي يضعون إمضاءاتهم به و ينصص بالتقرير على العجز أو الامتناع عن الإمضاء في صورة وقوعه[212].

أما إذا وقع الطعن بالزور في وثائق الإجراءات التي هي من الحجج الرسمية أثناء سير الجلسة، فإن الفصل 287 من م.إ.ج. أجاز للمحكمة توقيف النظر في الدعوى بعد أخذ رأي ممثل النيابة العمومية و سماع الخصوم، ريثما يقع البتّ في الزور من قبل المحكمة المختصة. أما إذا انقضت الدعوى العمومية أو كان القيام بها من أجل الزور متعذرا و لم يتضح أن المدلي بالوثيقة قد تعمّد استعمال كتب مزوّر، فإن المحكمة المتعهّدة الدعوى الأصليّة تبتّ عرضا في صفة الوثيقة المدّعى تزويرها.

و القاضي مطالب أثناء تعهده بدعوى الزور في حجة رسمية بالتثبت من توفر ركنيها المادي و المعنوي، و إلا فإنه يقضي بعدم سماع الدعوى. إذ يتحتم عليه التثبت من كون إرادة المأمور العمومي اتجهت إلى تغيير الحقيقة مع علمه بأن ذلك التغيير واقعا بإحدى الطرق التي اعتبرها القانون من قبيل الأفعال المادية للتدليس، و أن ذلك من شأنه إحداث ضرر عام أو خاص.

كما يتوجب على القاضي التثبت من توفر عناصر الركن المادي لجريمة التدليس و ذلك بمراقبة تحقق التغيير في الحقيقة في حجة رسمية بإحدى الطرق المذكورة حصرا بالقانون      و تبيّن الضرر الناتج عن ذلك الفعل.

كما لابد له من التحقق من أن ذلك التغيير في الحقيقة قد انصبّ على البيانات التي لا تقبل الطعن إلا بالزور و نعني بذلك البيانات التي لها صلة بما هو من صميم عمل المأمور العمومي أو تلك المتعلقة بالوقائع الصادرة عن ذوي الشأن في حضوره و شاهدها بعينه أو سمعها بأذنه.

و التزوير يمكن أن يكون ماديا و هو الذي تغير فيه الحقيقة بطريقة مادية و محسوسة بأن يعمد المزوّر إلى إدخال تغيير في الحجة الرسمية من شأنه أن يترك أثرا يدركه الحس و تقع عليه العين، سواء كان ذلك بالإضافة أو بالحذف.

و في هذا المعنى تقول محكمة التعقيب في إحدى قراراتها أن التدليس المادي يتمثل في "صنع محرر لا و جود له في الواقع و نسبته للغير أو تغيير الحقيقة في محرر قائم الذات تغييرا يترك فيه أثر يدل عليه تدركه العين المجرّدة أحيانا و توضحه الخبرة الفنية أحيانا أخرى"[213].

كما يمكن أن يكون التزوير في الحجة الرسمية معنويا بأن يعمد المأمور العمومي أثناء تلقي تصريحات ذوي الشأن إلى "كتابة إتفاقات غير التي ذكرها أو أملاها الجانبان أو بذكر أمورا باطلة بصفة كونها صحيحة و أنها وقعت لديه أو أمورا معترفا بها و الحال أنه لم يقع الاعتراف بها أو بتعمد عدم كتابة ما تلقاه من تصريحات"[214].

         و لابد من الإشارة هنا إلى أن هذا النّوع الأخير من التدليس صعب الإثبات باعتباره لا يترك أثرا ماديا في الحجّة يكون دليلا على تغيير الحقيقة. فهو تدليس يتناول جوهر الحجة الرسمية، لذلك فهو يتميّز بغياب المصداقية و ذلك بخلاف التدليس المادي الذي يتميّز بغياب الرسمية، و هو بذلك سهل الاكتشاف من قبل المحكمة و لو بدون اللجوء إلى الاختبار الفني.

         غير أنه درج العمل لدى المحاكم الزجرية و قضاة التحقيق أن يقع الإذن بإجراء الاختبار سواء بطلب أو بدونه و يكون ذلك عن طريق آلية التسخير. و عمليا يعهد القاضي بالحجة المرميّة بالزور إلى المخبر الجنائي التابع لإدارة الأمن الوطني ليتم فحصها من أحد الخبراء التابعين للشرطة الفنية.

و قد اعتبرت محكمة أن الدفع بعدم الاستجابة لطلب إجراء الاختبار هو دفع جوهري موجب للنقض حماية لمصلحة المتهم الشرعية[215].

         و اعتبارا لتعلق الأمر بمسائل فنية بحتة فإن القاضي الجزائي يجد نفسه مضطرا إلى الأخذ بما جاء بنتيجة الاختبار و لو أن القانون لا يفرض عليه اتباع ما جاء بذلك التقرير.

         لكن هل يكفي أن يتسلط الطعن بالزور على البيانات التي هي من علائق وظيفة المأمور العمومي أو تلك التي وقعت من ذوي الشأن في حضوره حتى يمكن اعتبارها من قبيل التدليس الواقع في حجة رسمية حتى و لو كان الكتب المرمي بالزور مجرد نسخة ؟

         جوابا على هذه الإشكالية ينص الفصل 174 من م.ج. على أنه "يعاقب بالعقوبات المذكورة الموظف العمومي أو شبهه أو العدل الذي يسلم في صورة قانونية نسخة من عقد موهوم لا وجود له أو نسخة مخالفة لأصلها خيانة منه".

         و إعمالا لهذه المقتضيات، فإنه يمكن للقاضي البحث في دعوى الزور حتى و لو كان الكتب المرمي بالزور نسخة مسلمة طبق القانون من قبل المأمور العمومي.                    و يثبت التدليس في مثل هذه الحالة إما بالرجوع إلى أصل تلك النسخة و مقابلتها بها لاكتشاف الاختلاف بينهما، أو بالاطلاع على الدفتر الذي عادة ما يقع فيه تسجيل جميع العمليات التي يحررها المأمور العمومي.

         و قد أكدت محكمة التعقيب التونسية على أن "التدليس الواقع في نسخ العقود التي يحررها العدل كالتدليس في أصل العقد إذ يجب أن تكون تلك الحجج الرسمية محل ثقة المحاكم          و جمهور الناس"[216] .

         غير أن موقف فقه القضاء من اعتماد نسخ الحجج الرسمية في جريمة الزور كان متشددا بخصوص رفض النسخ التي لا تكون مشهودا بمطابقتها للأصل[217] و ذلك تماشيا مع صريح عبارات الفصل 174 من م.ج. الذي لا يتعتد إلا بالنسخ التي يتم تسليما من المأمور العمومي بصورة قانونية.

         و الرأي عندنا أن التنقيح المدخل على أحكام الفصل 470 من م.إ.ع. لن يكون له تأثير على موقف فقه القضاء مستقبلا، لأن هذا الفصل و إن سمح باعتماد نسخ الحجج الرسمية و غير الرسمية في الحالات التي تكون فيها تلك النسخ معترفا بصحتها من المحتج بها ضده أو إذا كانت ممضاة من طرفه أو إذا تم انجازها وفق وسائل فنية توفر كل الضمانات لمطابقتها لأصلها و في أقصى الحالات بعرضها على الاختبار لبيان مدى صحتها، فإن هذه الفرضيات غير جائزة بالنسبة لسنخ الحجج الرسمية المرمية بالزور، مثلما سبقت الإشارة إليه.

لكن إذا كان ذلك شأن نسخ الحجج الرسمية، فما هو تأثير حالة فقدان الكتب الأصلي المرمي بالزور على مآل القضية الجزائية ؟

تعرض جانب من الفقه[218] لحل هذا الإشكال في اتجاه الإقرار بإمكانية قيام التدليس بصفة مستقلة عن الكتب المرمي بالزور، معتبرا أن غياب هاته الوثيقة لا يمثل حاجزا أمام ممارسة الدعوى العمومية متى توافرت الأدلة على أن ذلك الكتب كان موجودا و مزوّرا.

         غير أن هذا الرأي لم يلق القبول من قبل جانب آخر من الفقه الذي يرى أن التتبع في جريمة الزور لا يجوز قانونا إلا بتوافر الكتب الأصلي المرمي بالزور.

و قد ساير فقه القضاء التونسي هذا التوجه معتبرا أن الركن المادي لجريمة التزوير لا يتوفر إلا إذا كان أصل الكتب الأصلي أو على الأقل نسخة مشهودا بمطابقتها للأصل منه موجودة بملف القضية[219].

         و يثار التساؤل حول إمكانية اعتماد المحكمة على البيانات المغلوطة الواقع نقلها بدفتر عمل عدل الإشهاد و المخالفة لما هو مدون بدفتر مسوداته كسند رسمي للنظر في دعوى الزور ؟ و بطريقة أخرى هل يعتبر تغيير الحقيقة في الدفتر الأول تدليسا واقعا في حجة رسمية ؟

         لقد طرح هذا الإشكال القانوني أمام فقه القضاء التونسي بمناسبة قضية تتلخص وقائعها في قيام عدل إشهاد بتغيير اسم المشتري إثر نقل عملية البيع من دفتر المسودات إلى دفتر العمل.

         و لحلّ هذا الإشكال اعتبرت محكمة الأصل أنّ ذلك الفعل يشكل الركن المادي في جريمة التدليس في حجة رسمية و قضت بناء على ذلك بإدانة عدل الإشهاد من أجل ارتكابه لجريمة التدليس.

         غير أن محكمة التعقيب كان موقفها مغايرا إذ اعتبرت أنّ ذلك الفعل لا يشكل تدليسا استنادا إلى أن دفتر العمل الذي يمسكه عدل الإشهاد ليست له أيّة قيمة ثبوتيّة إذ يبقى مجرد مذكرة في ما قام به عدل الإشهاد من عمليات، و أن دفتر المسودات هو الذي يمكن أن يكون محل تزوير نظرا لأنه يتضمن تصريحات ذوي الشأن مباشرة عند مثولهم أمام عدل الإشهاد،   و هو الذي تضمّن به جميع التوقيعات و تسلم منه النسخ القانونية للاتفاقات.

و انتهت محكمة التعقيب بذلك إلى اعتبار هذا الفعل من قبيل الخطأ الصناعي الذي يخضع للقانون المنظم لمهنة عدول الإشهاد دون أن يكون من أنظار المحاكم الزجرية[220].

         و يترتب عن رفع دعوى الزور الجنائي و جوب إيقاف النظر في الدعوى المدنية إن كانت المحاكم المدنية متعهدة بقضية مدنية لها صلة بالكتب المرمي بالزور، و ذلك عملا بقاعدة "الجزائي يوقف النظر في المدني".

و تستفاد هذه القاعدة سواء من خلال الفصل 446 من م.إ.ع. الذي يقتضي أنه "إذا قامت دعوى الزور في الرسم وقف العمل به لقبول النظر في الدعوى و ما دام الحكم لم يصدر بقبولها..." أو من خلال مقتضيات الفصل 240 من م.م.م.ت. الذي يقتضي أنه "في صورة القيام بدعوى الزور الجنائي يعطل الحكم في النازلة إلا إذا رأت المحكمة أن النازلة يمكن الحكم فيها بقطع النظر عن الكتب المخدوش فيه..."

و إيقاف النظر من قبل المحاكم المدنية يكون في هذه الصورة بمجرد توجيه تهمة التزوير بمقتضى قرار إحالة من النيابة العمومية على حاكم التحقيق.

أما قبل هذه المرحلة (أي قبل تقرير مآل الشكاية من قبل وكالة الجمهورية) فإن للمحكمة الخيار في مواصلة النظر في القضية أو توقيف النظر فيها ريثما تتم إحالة ملف قضية التزوير على حاكم التحقيق ليقوم بالأبحاث اللازمة لكشف الحقيقة.

و سواء كان القرار الذي اتخذته المحكمة المدنية بإيقاف أو بمواصلة النظر في الدعوى المدنية، فإن ذلك القرار غير بات بل هو قابل للاستئناف.

ثانيا : دعوى الزور الفرعية أو الزور المدني :

         لقد أتاح المشرع بالفصل 234 من م.م.م.ت. للخصم المحتج ضده بكتب في قضية مدنية أن يقوم بالطعن فيه بالتزوير في شكل دعوى عارضة أو فرعية، إذ جاء بهذا الفصل أن "الخصم الذي يودّ إثبات تزوير أو تدليس كتب يمكنه القيام بدعوى عارضة أثناء الدعوى الأصلية بطلب الإذن في إثبات الزور و ذلك لدى المحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف".

         إن ما يمكن ملاحظته من خلال هذا الفصل هوأنه بالرغم من استعمال المشرع لعبارتي التزوير و التدليس كمرادفين لمعنى واحد، فإنه تعمد استعمال العبارتين تباعا عند صياغته لنص هذا الفصل، فهل يفهم من ذلك أنه أراد التاكيد على أن التزوير هو تغيير معنوي للحقيقة (أي تزويرا معنويا) بينما التدليس يراد به التغيير المادي للحقيقة ؟

         يبدو أن الجواب الصحيح أقرب إلى النفي لأن المشرع لم يميّز بين المصطلحين في باقي النصوص الأخرى كما أن فقه القضاء التونسي لم يعتدّ بدوره بهذا التمييز.

         غير أن المشرّع لم يلزم المحكمة بالاستجابة إلى الدعوى العارضة التي يكون موضوعها طلب الإذن في إثبات الزور، بل إن لها مطلق الحرية في تقرير مصير ذلك الطلب و ذلك بحسب ما إذا كان جدّيا و منتجا في الدعوى أم لا.

و يستفاد ذلك خاصة باستقراء أحكام الفصل 235 من م.م.م.ت. الذي يقتضي أنه "إذا ظهر للمحكمة أنّ دعوى الزور لا أساس لها أو لا نفع فيما يخص النازلة فتحكم برفضها، و إن ظهرت لها جدية الطعن في الكتب فإنها تأذن بإثبات الزور".

و بذلك يقترن رفض المحكمة لدعوى الزور المدني بتوفر إحدى الحالتين :

·     إذا ظهر لها أن تلك الدعوى لا أساس لها، أي إذا اتضح من معطيات القضية و مظروفاتها أن الزور منعدم كأن يتبيّن أن المدعي في دعوى الزور العرضي سبق له أن نفّذ الحجّة المطعون فيها و لم ينازع في صحتها من قبل.

و تلتقي هذه الصورة مع الحالة التي يقوم فيها المدعى عليه في قضية أصلية بالخروج من المكرى بطلب الإذن في إثبات زور ذلك الكتب حتى يتمسك بالحوز المكسب للملكية، في حين أنه من الثابت حسب وصولات الكراء المدلى بها أنه نفّذ ذلك الكتب و لم ينازع في صحته من قبل.

·     إذا تبيّن أن تلك الدعوى لا نفع فيها بأن كانت غير منتجة في الدعوى الأصلية و ليس لها تأثير إيجابي أو سلبي على وجه الفصل في القضية، كأن يقوم المدعى عليه في قضية استحقاقية بطلب الإذن في إثبات زور الكتب الذي يشكل سند ملكية المدعي في الأصل، في حين أنه ثبت أن هذا الأخير اكتسب ملكية العقار المتنازع حوله بحسن نية و بمضي مدة التقادم المنصوص عليها بالفصل 46 من م.ح.ع.

و إذا ما رأت المحكمة جدية الطعن في الحجة الرسمية، فإنها تأذن بإثباته و بإيداع تلك الحجة المخدوش فيها بكتابة المحكمة بعد وضع الرئيس لإمضائه عليها منعا لها من التغيير، كما لها تعهيد القاضي المقرر للقيام بالأبحاث اللازمة لكشف الزور.

         و تأكيدا للصبغة الاختيارية لطلب الإذن في إثبات الزور، جاء الفصل 86 من م.م.م.ت. ناصا على أن تتبع دعوى الزور يبقى مجرد إمكانية للمحكمة التي لها أن تأذن به إذا رأت لزوما لذلك باعتباره يدخل في عداد الأعمال الكاشفة للحقيقة.

         إذ يقتضي هذا الفصل بفقرته الأولى أنه "يمكن للمحكمة إذا رأت لزوم إجراء أبحاث معينة من سماع بيّنات أو إجراء توجهات واختبارات أو تتبع دعوى الزور أو غير ذلك من الأعمال الكاشفة للحقيقة أن تأذن للقاضي المقرر بإتمامها.

         و باستقراء أحكام الفصلين 86 و 234 من م.م.م.ت. نتبين أن البتّ في الدعوى العارضة التي يكون موضوعها طلب الإذن في إثبات الزور من علائق و اختصاص المحكمة بتركيبتها المجلسية و ذلك سواء عند البت في جدية الطلب أو عند النظر في دعوى الزور.

غير أن ذلك لا يمنعها بصريح الفصلين 86 و 236 المذكورين من تكليف القاضي المقرر بإجراء الأبحاث اللازمة لإيضاح الأمر. و هذا الأخير مطالب بعدم البحث إلا فيما وقع تكليفه به من المحكمة، و ذلك حسب ما يستفاد من الفصل 90 من م.م.م.ت.

         و لهذا الغرض يتولى القاضي المكلف بالبحث التحرير على الطالب و تلقي وسائل احتجاجه على الزور، كما يتولى التحرير على المطلوب و يتلقى ما له من دفوعات تنفي عنه التهمة، كما له سماع البيّنة من طرفي النزاع أو الإذن بإجراء الاختبار إن كان ذلك لازما لكشف الزور.

         و الملاحظ أن الأحكام التي يمكن أن تصدرها المحاكم المدنية المتعهدة بدعاوى الزور الفرعيـة لا تكـون ذات طابع جزائي، إذ تقتصر تلك المحاكم في صورة ثبوت الزور على حذف ما يلـزم حذفه و تمزيق ما يلزم تمزيقه، كما تقضي حسب الأحوال في ترجيع الحجج المدلى بها[221].

على أنه من المفروض أن بتضمن تلك الأحكام الظروف و القرائن و جميع الأسباب السائغة التي اعتمدتها المحكمة لتصل إلى النتيجة التي انتهت إليها و إلا كان حكمها معرّضا للنقض.

         و لما كان الطعن بالتزوير في صورة ثبوت عدم جديته من قبيل إساءة استعمال الحق في التقاضي، فإنه وجب رد الإساءة على صحابها. لذلك فإن المحكمة تصدر ضده حكما بالخطية بدون أن يكون ذلك مانعا من الغرم لخصمه أو محاكمته لدى المحاكم الجزائية من أجل ذلك.

         و لابد للمحكمة الجزائية في هذه الصورة أن تبيّن بحكمها القرائن و مختلف الشواهد الأخرى التي أدت بها إلى الوصول إلى النتيجة التي انتهت إليها بما له أصل ثابت في ملف القضية و إلا كان حكمها عرضة للطعن.

         إن دور القاضي في هذه المرحلة على غاية من الأهمية إذ أنه يتصدى باجتهاده إلى إمكانية إدخال وقائع هامشية أو غير صحيحة أو غير مقبولة قانونا في نطاق الدعوى التي يكون بصدد النظر فيها، فيتجنب بذلك تعطيل الفصل في القضايا و يقتصر على رفض طلب الإذن بإثبات الزور كلما تبين له أن مبررات التزوير غير منتجة في إثباته أو لا تمت بصلة إلى موضوع الدعوى الأصلية.

         إلا أنه من المشروع أن نتساءل هل أن طلب طرح المدعي للقضية الأصلية يؤثر على إجراءات دعوى الزور الفرعية ؟

         ترتبط الإجابة عن هذا التساؤل بماهية الدعوى العارضة في حد ذاتها، فسواء كان المقصود من الدعوى العارضة أو الفرعية ردّ الدعوى الأصلية أو المقاصة أو طلب غرم الضرر المتسبب عن النازلة أو إثبات تزوير كتب أثناء الدعوى المدنية الأصلية، فإن قبولها يكون مرتبطا بتعلّقها بالدّعوى الأصليّة و بضرورة أن تكون أسبابها موجودة وقت القيام بهذه الدعوى[222].

         لذلك فإن قيام المدعي بطرح القضية الأصلية ينجر عنه رفض النظر في الدعوى الفرعية في إثبات الزور طالما أن كلي الدعويين شديدي الارتباط من الناحية الإجرائية.

و في هذا المعنى رأى جانب من الفقه[223]  أنه :

« Ainsi, lorsque la demande principale est nulle en la forme ou est déclarée irrecevable, la demande reconventionnelle suit son sort. Son but est en effet de se défendre contre la demande principale et cette dernière ne peut pas être examinée, il en est de même lorsque le demandeur principal se désiste de son action et abandonne sa prétention ».

         لكن إذا ما اكتفى المدعي الأصلي بالتنازل عن حقه في التمسك بالحجة الرسمية المرمية بالزور دون طلب طرح قضيته الأصلية، فهل أن تنازله هذا يؤثر على قبول دعوى الزور الفرعية بالرغم من تواصل الدعوى الأصلية ؟

         يبدو أن الجواب الأقرب إلى الصواب سيكون بالإيجاب طالما أن نظر المحكمة المدنية في دعوى الزور لا يكون إلا بصفة استثنائية و عرضية عند إثارة ذلك من أحد الخصوم أثناء نشر الدعوى.

كما أن سحب الحجة الرسمية من قبل الشخص المحتج بها من شأنه أن يجعل دعوى الزور الفرعية غير ذات موضوع، خاصة و أن المحكمة المدنية المتعهدة بهذه الدعوى ستقتصر في صورة ثبوت زور تلك الحجة على زيادة ما يجب زيادته أو حذف ما يجب حذفه أو تمزيق ما يجب تمزيقه بحسب الأحوال و لا يمكن أن يكون الحكم بإعدام تلك الحجة المرمية بالزور أبدا، باعتبار أن ذلك من خصائص عمل المحاكم الزجرية.

كما أن رفض الدعوى الفرعية لن يؤثر على مآل النزاع في هذه الصورة إذ أن سحب الحجة الرسمية المحتج بها من قبل المدعي الأصلي أو استبعاد العمل بها من قبل هيئة المحكمة لهما نفس الآثار و هو اعتبارها كأن لم تقدم في النزاع.

         و علاوة على ذلك فإن فرصة الطعن في تلك الحجة تبقى متاحة للمدعى عليه في الدعوى الأصلية طالما أن بإمكانه القيام مباشرة بدعوى الزور  الأصلية أمام المحاكم الزجرية للحصول على حكم بثبوت التدليس.

         و الجدير بالملاحظة أن تثبّت المحكمة من صفة مصدر (بضمّ الميم) لحجة الرسمية يعتبر على غاية من الأهمية خصوصا إذا كانت متعهدة بدعوى الزور الأصلية.

إذ تبرز أهمية التثبت من توفر صفة المأمور العمومي في مصدر الحجة الرسمية المرمية بالزور على مستوى تكييف الجريمة و تقدير العقوبة. فإذا تثبت أن مرتكب التزوير هو مأمور عمومي فإن الجريمة تكون من صنف الجنايات و يكون عقابها بالسجن بقية العمر       و بخطية قدرها ألف دينار. أما إذا ثبت ارتكاب تلك الجريمة من شخص عادي فإن العقاب يكون أقل تقديرا.

         و يلحق بالشخص العادي المأمور العمومي الذي ارتكب جريمة التدليس خارج إطار الوظيفة كأن يكون ارتكابها بعد عزله أو يكون الكتب المرمي بالزور غير داخل في اختصاصه النوعي.

         و قد حرصت محكمة التعقيب التونسية على تأكيد أهمية التثبت من صفة الجاني لتطبيق أحكام جناية التدليس في حجة رسمية و أوجبت على محاكم الأصل بيان الصنف الذي ينتمي إليه الفاعل و إلا كان حكمها معرّضا للنقض[224].

         كما أن تثبت محكمة الأصل من بيانات الحجة الرسمية المطعون في صحتها عند النظر في دعوى الزور الفرعية، على غاية من الأهمية باعتبار أن ذلك له تأثير واضح على نوعية الإجراءات و الأبحاث التي من شأنها القيام بها. إذ لا شك في أن البيانات التي تقبل الطعن بالزور تكون متعلقة إما بما هو راجع للمأمور العمومي من أعمال أو بما وقع من ذوي الشأن في حضوره.

أما بقية البيانات فإنها تكون قابلة لإثبات العكس بكل الوسائل المقبولة قانونا، لذلك فإنه إذا ما ثبت للمحكمة المتعهدة بدعوى الزور الفرعية أن البيانات المطعون فيها تدخل في إطار البيانات العادية التي يجوز إثباتها دون اللجوء إلى دعوى الزور، فإنها تقتصر على تلقي ما لمدعى الزور من بيانات مقبولة قانونا دون اتباع إجراءات دعوى الزور المدينة و ما يستتبع ذلك من أبحاث و اختبارات.

المبحث الثاني : الحجة الرسمية وسيلة تنفيذية و حمائية هامة :

         إن حرص المشرع التونسي على تنظيم الحجة الرسمية بصورة مدققة و إحاطتها بضمانات شكلية و أصلية هائلة، لا يمكن تفسيره على أنه أريد من خلاله منح هذا السند الرسمي قوة ثبوتية متميزة فحسب، بل إنّ الحجة الرسمية قد تلعب دورا تنفيذيا (فقرة أولى) و حمائيا (فقرة ثانية) هاما يتجاوز في بعض الحالات مستوى دورها الإثباتي.

 

 

الفقرة الأولى : الدور التنفيذي للحجة الرسمية :

         قد تكون الحجة الرسمية المتوافرة الأركان و الشروط سندا تنفيذيا مباشرا (أ) و قد تكون مجرد مستند رسمي قابل للتنفيذ كلما اتخذت بشأنها إجراءات خاصة (ب).

أ‌- الحجة الرسمية كسند تنفيذي مباشر :

إن التنفيذ على أموال المدين لا يتم إلا بتوفر علاقة مديونية ثابتة بين الدائن و مدينه بمقتضى سند تنفيذي و بشرط احترام الإجراءات و الشروط التي فرضها القانون لذلك[225].

         و التنفيذ قد يكون عينيا و ذلك عن طريق التنفيذ الجبري المباشر أو بالإكراه البدني أو بالتهديد المالي كما يمكن أن يكون عن طريق التعويض، و يصل هذا النوع الأخير من التنفيذ إلى حد ضرب عقلة تحفضية أو تنفيذية أو توقيفية على أموال المدين و مكاسبه.

         و السند التنفيذي إما أن يكون حكما قضائيا أو أمرا بالدفع أو حكما من المحكمين أو إذنا على عريضة أو رقيما تنفيذيا أو غير ذلك مما يعتبره القانون سندا تنفيذيا. و من هذا المنطلق، فإن الأحكام القضائية أو الولائية بوصفها حججا رسمية تعتبر سندات تنفيذية بذاتها على أن تكون مذيلة بالصيغة التنفيذية وفقا لأحكام الفصل 253 من م.م.م.ت.

         و الحكم القضائي هو "القرار الذي تصدره المحكمة المختصة متى كانت مشكلة تشكيلا صحيحا، و قضت في خصومة رفعت إليها وفق قواعد المرافعات سواء كان ذلك القرار صادرا في موضوع النزاع أو في مسألة متفرعة عنه"[226].

و انطلاقا من هذا المفهوم يثار الإشكال بخصوص الطبيعة القانونية للحكم القاضي بالطرح و ما إذا كان حكما قابلا للتنفيذ أم أنه مجرد شطب للقضية ؟ الرأي عندنا أن الحكم القاضي بالطرح هو حكم قضائي بأتم معنى الكلمة.

إلا أنه حكم يتمتع بخصوصية تجعله غير قابل للطعن بالاستئناف، و غير قابل كذلك للتنفيذ استنادا إلى أن المحكمة التي أصدرته لم تقض في الخصومة المرفوعة لديها سواء من حيث الموضوع أو من حيث الإجراءات و بذلك فإن حكم الطرح لا يدخل في عداد السندات التنفيذية.

         و ليعتبر الحكم القضائي سندا تنفيذيا لا بد من أن يكون قد اتصل به القضاء أي أنه لم يكن أو لم يعد قابلا للطعن بإحدى الوسائل المعطلة للتنفيذ ( و هي في القانون التونسي الطعن بالاستئناف) و يستثنى من هذه القاعدة الأحكام القضائية المأذون بتنفيذها وقتيا[227]، و لو لم تحرز على قوة ما اتصل به القضاء[228].

         كما يشترط ليعتبر الحكم القضائي سندا تنفيذيا أن يكون مازال قابلا للتنفيذ. فإذا ما سقط بمضي المدة[229] أو بالتنازل عنه أو بوقف تنفيذه من الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، فإنه لا يصبح سندا قابلا للتنفيذ.

         و إلى جانب الأحكام القضائية و الولائية اعتبر المشرع التونسي بالفصل 207 من مجلة الشغل أنه "في صورة امتناع المدين من الدفع في الحال، فإن مضمون محضر الجلسة الممضى من طرف الرئيس و الكاتب تكون له قيمة حكم غير قابل للاستئناف مهما كان مقدار المبلغ المعترف به". وبذلك يكون محضر الجلسة في حالة الفصل 207 المذكور سندا تنفيذيا قائما بذاته دون حاجة إلى انتظار صدور حكم في شأنه.

         كما تعتبر سندات تنفيذية و تحلى بالصيغة التنفيذية القرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية باعتبارها حججا رسمية تتمتع بالقوة التنفيذية[230].

على أن تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية يبقى رهين مشيئة الإدارة التي لها أن تنفذ الحكم الإداري الصادر لفائدتها أو تمتنع عن تنفيذه، خاصة أمام غياب نص في القانون التونسي يفرض عليها الالتزام بالتنفيذ، و ذلك بخلاف بعض التشاريع الأجنبية مثل التشريع الفرنسي الذي خول لمجلس الدولة إمكانية الحكم بغرامة تهديديّة ضد الإدارة لضمان تنفيذ قراره[231].

         و يدخل عي عداد السندات التنفيذية، الرقيم التنفيذي الذي يسلمه كاتب المحكمة إلى الشخص المعني بالأمر (عادة ما يكون الشخص الصادر لفائدته الحكم) بناء على طلبه بخصوص المصاريف القانونية التي تكبدها لقاء التقاضي مثل أجرة الاختبار و التي لم يمكن تحريرها بالحكم. و يعطى الرقيم التنفيذي في هذه المصاريف بعد تعيين مقدارها من طرف رئيس المحكمة و دون لزوم لإجراءات جديدة[232].

         كما تعد سندات تنفيذية و تدرج في دفاتر الحالة المدنية دون الالتجاء إلى إجراءات الإذن بالتنفيذ رسوم الحالة المدنية المقامة ببلد أجنبي و كذلك أحكام الحالة المدنية النهائية (مثل الأحكام الصادرة بتصحيح لقب عائلي أو تبديل اسم...) باستثناء ما يتعلق منها بالأحوال الشخصية و يقع الاكتفاء في هذه الصورة بإعلام الطرف المعني بالأمر بها[233].

ب‌-     الحجة الرسمية كمستند رسمي قابل للتنفيذ :

تعتبر الحجة الرسمية مستندا رسميا قابلا للتنفيذ كلما افتقرت إلى الصيغة التنفيذية واحتاجت إلى إجراء قانوني آخر لتنفيذها.

و تعدّ هذه القاعدة المبدأ العام الذي يهيمن على أغلبيّة الحجج الرّسميّة باستثناء الأحكام القضائية و الولائية الصادرة عن المحاكم الوطنية المذيلة بالصيغة التنفيذية مثلما سبق بسطه سالفا.

فالحجج الرّسمية المحرّرة من قبل عدول الإشهاد "لا قوة تنفيذية لها بالعمالة التونسية أي لا تعمل وحدها بدون حكم، بل لا بد من الحكم و إعطاء هذا الحكم الصفة الرسمية لتنفيذها"[234]. فالحجة العادلة المتضمنة التزاما ماليا أو اعترافا بدين أو ما هو شبيه بذلك، تودع لدى المحكمة المختصة حكميا و ترابيا من قبل الدائن الذي يطلب إعمال مضمونها و التنفيذ بواسطتها على أموال المدين عند نكوله، و يصدر الحكم في مثل هذه الحالة دون إتباع للإجراءات العادية التي تمر بها القضايا المدنية، و ذلك بعد الإذن بالمرافعة حينا[235].

كما يتوجب على المحكمة المتعهدة في هذه الصورة الإذن بتنفيذ حكمها مؤقتا بضامن أو بدونه و بغض النظر عن الاستئناف[236].

و الملاحظ أن المشرع التونسي شذّ بهذا الموقف عن بعض التشريعات الأجنبية التي تعترف للحجج العادلة بالقوة التنفيذية بمجرد تذييلها بالصيغة التنفيذية من المأمور العمومي الذي حررها. من ذلك أن قانون المرافعات المصري يعتبر بالمادة 280 منه أن "العقد الرسمي يمكن تنفيذه كحكم واجب النفاذ و ذلك بخلاف العقد العرفي الذي لا يمكن تنفيذه إلا بعد التقاضي      و ضياع كثير من الوقت و الجهد و المصاريف"[237].

و بذلك يصبح العقد الرسمي في التشريع المصري سندا تنفيذيا بعد تحليته بالصيغة التنفيذية من قبل مكتب التوثيق دون حاجة إلى رفع دعوى واستصدار حكم لتنفيذه، طالما أنه صادر عن موظف عمومي مختص.

على أنه يشترط في العقد الرسمي أن يكون "محررا عن أشياء معينة خالية من النزاع إذ لا يجوز التنفيذ الجبري إلا بسند محقق الوجود و معين المقدار و حالة الأداء كما جاء في المادة 280 مرافعات" (مصري)[238].

         و في نفس هذا الإطار اعتبر التشريع الفرنسي من قبيل السندات التنفيذية القائمة الذات جميع الحجج العادلة المحلاة بالصيغة التنفيذية من قبل عدل الإشهاد طبق قانون 15  جوان 1976، و كذلك قرارات عدل التنفيذ بخصوص الصكوك البنكية الراجعة بدون رصيد ضد الملتزمين بها.[239]

         و هكذا يتحصحص أن المشرع التونسي و إن اعترف للحجة الرسمية بقوة ثبوتية هائلة لا تضاهيها القوة الثبوتية التي منحها للكتب الخطي، فإنه بالمقابل ضيّق من قوّتها التنفيذية، هذه القوة التي حصرها في الأحكام القضائية و الولائية دون غيرها من الحجج الرسمية.

         إلا أنه من المشروع أن نتساءل : هل أن الصيغة التنفيذية تتمتع بها جميع الأحكام القضائية على اختلافها سواء كانت وطنية أو أجنبية ؟

         إنّ مجرد قراءة سطحية لأحكام الفصل 343 من م.إ.ع. توحي بأنّ الأحكام الأجنبية بوصفها تدخل في عداد الحجج الرسمية التي لا يطعن فيها إلا بالزور هي سندات تنفيذية، طالما و أن المشرع التونسي لم يفرّق بينها و بين الأحكام القضائية الوطنية من حيث حجّيتها في الإثبات.

إلا أنّ الأمر يثبت على خلافه عند استكمال قراءة كافة مقتضيات هذا الفصل حيث جاء بآخره ما يلي  :

""ثانيا : - الأحكام الصادرة من المجالس القضائية التونسية و الأجنبية على معنى أن ما ثبت لدى هاته المجالس يعوّل عليه و لو قبل اكتسابه صفة التنفيذ".

فصفة التنفيذ تسند إلى الحكم القضائي الوطني بصورة آلية إذا استوفى الشروط الواردة بمجلة المرافعات المدنية و التجارية و السابق عرضها آنفا. أما الأحكام الأجنبية فقد أخضعها المشرع التونسي إلى إجراءات خاصة لتنفيذها.

         و هذه الإجراءات ضبطتها مجلة القانون الدولي الخاص الصادر بها القانون عدد 97 لسنة 1998 المؤرخ في 27 نوفمبر 1998[240]، و حصرتها في ضرورة الحصول على إذن بالتنفيذ يكون صادرا عن المحكمة الابتدائية التي بدائرتها مقر الطرف المحتج ضده بالقرار الأجنبي. و عند انعدام المقر بالبلاد التونسية فأمام المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة[241].

و لا يعطى الإذن المذكور إلا بناء على عريضة كتابية تقدم إلى كتابة المحكمة و تكون مرفوقة بنسخة معربة من الحكم أو القرار المراد إكساؤه بالصيغة التنفيذية[242]، على أن يكون هذا القرار الأخير سالما من الموانع المنصوص عليها بالفصل 11 من مجلة القانون الدولي الخاص الذي يقتضي أنه " لا يؤذن بتنفيذ القرارات القضائية الأجنبية :

 

-         إذا كان موضوع النزاع من اختصاص المحاكم التونسية دون سواها.

-         إذا سبق الفصل في نفس موضوع النزاع و بين نفس الخصوم و لنفس السبب من المحاكم التونسية بقرار غير قابل للطعن بالطرق العادية.

-         إذا كان القرار الأجنبي مخالفا للنظام العام في مفهوم القانون الدولي الخاص التونسي أو كان صدر وفق إجراءات لم تحترم حقوق الدفاع.

 

 

 

 

-         إذا كـان القـرار الأجنبـي قـد وقـع إبطالـه أو إيقـاف تنفيـذه بمـوجب قـانـون البلـد الصـادر فيـه أو غيـر قابـل للتنفيـذ فـي البـلاد التـي صـدر فيهـا.

-         إذا لـم تحتـرم الـدولة الصـادر بهـا الحكـم أو القـرار قواعـد المعاملـة بالمثـل".

 

         و هكـذا فإنـه و إذا ما أحـرز الحكـم أو القـرار الأجنبـي علـى الإذن بالتنفيـذ مـن طـرف المحـاكـم التـونسيـة خلصت لـه –شـأنه شـأن الأحكـام الـوطنيـة- قوّتـه التنفيذيـة فيحلـى بالصيغـة التنفيذيـة الـواردة بالفصـل 253 من م.م.م.ت         و تستعمـل لتنفيـذه جميـع وسائـل و طـرق التنفيـذ المعهـودة فـي القـانون التـونسي و ذلك شريطـة المعاملـة بالمثـل[243].

         إلا أن السـؤال الـذي يفـرض نفسـه فـي هـذا الإطـار هـو هـل أن الحكـم الصـادر بالتنفيـذ يسـري إبتـداءا مـن تاريـخ صـدوره، أم أن لـه أثـرا رجعيـّا علـى المـاضـي و ذلك بامتـداد مفعولـه إلـى تاريـخ صـدور الحكـم الأجنبـي ؟

         لقـد لـزم المشـرع التونسـي الصمـت بخصـوص هـذه الإشكالية سـواء بمجلـة المرافعات المدنيـة و التجاريـة سابقـا أو حاليـا بمجلـة القانـون الدولـي الخـاص. إلا أن الرأي الراجع هـو أن آثـار الحكـم الصادر بالتنفيذ تبدأ في السريان إبتـداءا من تاريخ صدور ذلك الحكم و لا تأثير له على الماضي و ذلك حماية للحقوق المكتسبة من الغير.

غيـر أنّ هنـاك اتجـاه آخـر ذهب إلـى خـلاف ذلـك معتبـرا أنّه و إن كـان الحكـم بالتنـفيـذ لا يسـري علـى المـاضي فإنـه "لا يوهـن الحقـوق التـي اكتسبهـا الغيـر قبـل صدوره، فمـن ذلك أن الحكـم بالتفليـس الصـادر بالخـارج يبيـح     لمـدين المفلـس بالبـلاد التونسيـة أن يحتـج بالمقاصـة و لا يمنع الدائنين من قيامهم فـرادى على هذا المفلس طالما لم يتحصل حكم التفليس علـى الإذن بالتنفيذ بالبلاد التونسية"[244].

تفسر قاعدة عدم سريان آثار الحكم بالتنفيذ على الماضي بضرورة احترام الحقوق التي اكتسبها الغير خصوصا التونسيين في الفترة الفاصلة بين تاريخ صدوره و تاريخ صدور الحكم الأجنبي.

على أنه لا يجب أن نفهم هذه القاعدة في حدود ضيقة، إذ لا بد من التفريق في هذا الإطار بين قاعدة عدم سريان الحكم بالتنفيذ على الماضي حماية للغير و بين تاريخ نشوء الحقوق المضمنة بالحكم الأجنبي، فكلما كانت هذه الحقوق الأخيرة غير ماسة بحقوق الغير، فإنه يقع العمل بها إبتداءا من تاريخ نشوئها بالحكم الأجنبي من ذلك أنه إذا صدر الحكم الأجنبي بإلزام الزوج بالإنفاق على زوجته بمبلغ مالي معين و ذلك مشاهرة ابتداءا من تاريخ صدوره إلا أن الإذن بالتنفيذ لم يسند له إلا في وقت لاحق، فإن من حق تلك الزوجة المطالبة بما تخلد في ذمة زوجها من معينات نفقة طيلة الفترة الفاصلة بين صدور الحكم الأجنبي و صدور الحكم بتنفيذه.

إنّ ما تجدر ملاحظته في هذا الصدد هو أن المشرع التونسي ربط بالفصل 482 من م.إ.ع. مسألة اكتساب الأحكام الأجنبية لقوّة الأمر المقضي به بضرورة صدور الإذن بتنفيذها بتونس، و إلا افتقدت إلى تلك الصفة.

إذ يقتضي هذا الفصل أن "الأحكام الآتي بيانها لا تعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها و هي : ... - ثانيا : أحكام مجالس البلاد الأجنبية حتى يصدر الحكم بتنفيذها من المجالس التونسية..."

إن أحكام هذا الفصل و إن كانت تتماشى و ما اقتضته مجلة القانون الدولي الخاص بخصوص تنفيذ الأحكام الأجنبية إلا أنها أثارت إشكالا هاما حول القوة التنفيذية للحكم الأجنبي المحتج به أمام القضاء التونسي حالما أنه لم يصدر بشأنه حكما بالتنفيذ ؟

لقد اعتبر البعض أن "امتناع الحاكم من إعادة النظر في قضية صدر فيها حكم أجنبي خال من الإذن بالتنفيذ هو بمثابة تنفيذ لهذا الحكم و نلاحظ هنا أن قوة التنفيذ و قوة الأمر المقضي به هما في الحقيقة مظهران مختلفان لأمر واحد هو قوة تنفيذ الأحكام. فالتنفيذ الجبري هو الواجهة الإيجابية لهذا المبدأ أما اتصال القضاء فهو الناحية السلبية له"[245].

و هكذا يخلص بأن المشرع التونسي خلافا لبعض التشاريع الأجنبية ضيّق من المفعول التنفيذي للحجج الرسمية فهل أنه توخى التوسيع في الدور الحمائي لهذه الأخيرة ؟

الفقرة الثانية : الدور الحمائي للحجة الرسمية :

         لا تقتصر أهمية الحجة الرسمية على ما أناطه لها المشرع التونسي من النفوذ و النفاذ، بل إن هذا السند الرسمي يلعب دورا حمائيا هاما بالنسبة إلى بعض أصناف العقود (أ)          و الأشخاص (ب) على حد سواء.

أ‌- الحجة الرسمية حماسة للرضا في بعض أصناف العقود :

تقوم نظرية الإلزام و الالتزام في القانون التونسي على مبدأ هام قوامه الرضائية ألا    و هو مبدأ سلطان الإرادة[246].

         هذا المبدأ الذي ربط صحة التصرف القانوني بصدوره عن إرادة حرة و واعية         و مختارة[247]. غير أن المشرع فرض بالمقابل ضرورة تدوين هذا التصرف صلب حجة رسمية أو غير رسمية و ذلك كلما تجاوزت قيمته الألف دينار[248].

إن هذا الموقف التشريعي يعتبر أمرا طبيعيا باعتبار أن الكتب من شأنه إثبات الالتزام الرابط بين الطرفين بجميع شرطه و محتوياته، و يجعلهما على بينة من ملابسات العقد، فيبقى لهما بذلك كامل الحرية في إتمامه أو العدول عنه.

كما أن هذا الإجراء لا يعدو أن يكون تطبيقا للمبادئ القانونية العامة المنظمة للالتزامات و التي توجب الوفاء بالالتزام مع تمام الأمانة[249] و تجعل المدين المتلدد يتحمل بالتعويضات الناجمة عن عدم الوفاء[250].

إلا أنه و لئن كانت الغاية من اشتراط الشكلية في العقود لصحة التصرف القانوني أو لإثباته هي حماية للإرادة التعاقدية سواء على مستوى إثبات وجود الالتزام ذاته أو على مستوى إثبات الشروط المضمنة به، فإن تخصيص المشرع للحجة الرسمية كشرط لصحة بعض التصرفات القانونية يجعل تساؤلنا حول الغاية من ذلك تساؤلا مشروعا و في طريقه.

فهل أن الحكمة من اشتراطها لصحة بعض التصرفات القانونية هي جعلها قيدا لمبدأ الرضائية ؟ أم أن الغاية من ذلك تكمن بالأحرى في تدعيم هذا المبدأ و ذلك بإحاطة الرضا في هذه التصرفات بحماية ضافية نظرا لأهميتها بل و خطورتها أحيانا ؟

قد يغلب على الظن أن اشتراط المشرع للشكل عموما و للحجة الرسمية بصفة خاصة كشرط لصحة التصرف القانوني هو خروجا عن مبدأ الرضائية استنادا إلى أنّ هذا المبدأ يفترض إتمام الاتفاق بمجرّد تبادل الرضا بين طرفيه دون حاجة إلى تحرير كتب في شأنه.

إلا أن الأمر يبدو على خلافه، ذلك أن اشتراط الشكل كركن خامس لصحة العقد إلى جانب الأهلية و الرضا و المحل و السبب، لا يقوم عائقا أمام مبدأ الرضائية باعتبار أن هذا المبدأ يفترض وجود رضا صحيحا و واعيا و غير معيب، و أن الحجة الرسمية هي الوعاء القانوني المؤهل أكثر من غيره من الوسائل لحماية وجود الرضا الصحيح و الواعي و غير المعيب بما أناطه لها المشرع من الضمانات خاصة عند تلقي تصريحات ذوي الشأن.

و بذلك تكون الحجة الرسمية الإطار الملائم الذي يكشف عن الرضا و يبين شكله الخارجي بكل مصداقية و نزاهة لصدوره أمام شخص مفترضة فيه هذه الصفات، ألا و هو المأمور العمومي.

و بالرجوع إلى مجلة الأحوال الشخصية نتبين أن الحجة الرسمية مستوجبة لصحة عديد العقود الهامة منها عقد الزواج الذي لا يصح إلا بتحريره أمام عدلين أو أمام ضابط الحالة المدنية بمحضر شاهدين من أهل الثقة[251].

وبذلك وضع حد لظاهرة الزواج العرفي التي كانت رائجة في البلاد التونسية قبل صدور تلك المجلة و حسمت عديد الصعوبات و المشاكل التي خلّفتها هذه الظاهرة بخصوص ثبوت الزوجية و النسب.

و حرصا من المشرع على حماية رضا الزوجين، فقد اشترط أن يكون عقد الوكالة في الزواج محررا في حجة رسمية و إلا عد باطلا. كما ربط صحة عقد الهبة الذي يكون موضوعه عقارات بضرورة تحريره صلب حجة رسمية و إلا عد باطلا[252].

و نفس هذا الشرط يخضع له عقد الكفالة، إذ فرض المشرع التونسي ضرورة تضمينه في حجة رسمية أمام عدلين مع ضرورة مصادقة حاكم الناحية على ذلك العقد و إلا اعتبر لاغيا[253].

وهذه المصادقة القضائية ضرورية كذلك فيما يخص التبني، الذي لابد من أن يصدر في شأنه حكما قضائيا يكون نهائي الدرجة و يتمّ التنصيص فيه على الرضا الصادر عن  الأطراف المعنية و نعني بذلك والدي الطفل المتبنى أو عند التعذر ممثل السلطة الإدارية المتعهّدة بالولاية العموميّة عن ذلك الطفل و طالبي التبني[254].

كما يخضع الاتفاق على تبني نظام الاشتراك في الأملاك بين الزوجين إلى ضرورة تضمنية بحجة عادلة إذا كان لاحقا لعقد الزواج أو تضمينه صلب هذا العقد الأخير إذا كان متزامنا معه[255]، ولابد في كل الحالات من التنصيص على رضا الزوجين بتبنّيهم لهذا النظام أو استبعاده صلب عقد الزواج.

إن حماية الرضا عن طريق الحجة الرسمية لا يقتصر على هذه العقود الشخصية بل يمتد كذلك إلى بعض العقود المدنية الهامة مثل عقد المغارسة الذي لا يثبت إلا إذا حرر فيه رسم صحيح[256]، نظرا لما ينتج عنه من أثار هامة متمثلة بالخصوص في انتقال ملكية جزء من الأرض إلى الشريك المغارس.

وقد تم تأويل عبارة رسم صحيح من قبل فقه القضاء التونسي[257] على أنها حجة رسمية وذلك استئناسا بالترجمة الفرنسية لهذه العبارة وهي :  "acte authentique".

كما أنه واعتبارا إلى خصوصية عقد التوكيل على الخصام وخطورة أثاره بالنسبة للموكل، فقد فرض المشرع أن يكون بالإشهاد[258]. ولا مجال للشك بأن الشخص المؤهل لتلقي هذا الإشهاد هو عدل الإشهاد المنتصب لمثل ذلك قانونا.

و بذلك يخلص، أن اشتراط ضرورة تضمين هذه العقود المدنية صلب حجج رسمية لم يكن بصفة اعتباطية، و إنّما الغاية منه تكمن بالأساس في حماية رضا ذوي الشأن وذلك بما توفره الحجة الرسمية من ضمانات وآليات حماية ضافية، تجعل الطرفان يتعاقدان وكلهم ثقة في من سيتولى تلقي إراداتهم سواء قبل إتمام التصرف وذلك من خلال تعريفهما بمحتوى الاتفاق وتحسيسهما بأهمية أثاره أو درجة خطورته باللغة التي يفهمانها، أو أثناء إبرام التصرف وذلك بتلقي إمضاءاتهما بدفتر المسودات وترتيب جزاء البطلان لقاء خلوه من تلك الإمضاءات مع التعريف بهما بواسطة شاهدين رشيدين يضعان إمضائهما ويقع التنصيص على الهوية الكاملة لكل منهما وذلك كلما تعذر التعريف بالمتعاقدين ببطاقة التعريف الوطنية.

وفي كل هذه الصور ضمان لرضاء الأطراف وحماية لهم من الوقوع في التحيّل أو الغش وفي أخر المطاف حماية للنظام العام الاجتماعي و الاقتصادي.

فهل أن هذه الحماية التشريعية شملت بدورها بعض الفئات التي تكون في مراكز ضعيفة عند التعاقد ؟

ب‌-     الحجة الرسمية حماية لبعض أصناف الأشخاص :

إرتئ المشرع التونسي على غرار بعض التشاريع الأجنبي[259] ضرورة حماية بعض الأشخاص الذين يكونون في مراكز ضعيفة ونلمس هذه الحماية التشريعية بالخصوص من خلال استقراء بعض فصول مجلة الالتزام والعقود وخصوصا منها أحكام الفصل 454 المتعلق بإلتزام الأمي.

والأمية تعني الجهل بالقراءة والكتابة، فمن كان لا يحسنهما يعتبر أميا[260] و قد توسّع الأمية ليشمل الأمية الوظيفية التي يعتبر أمّيا على ضوئها كل شخص يكون غير مؤهل للاندماج في سوق الشغل وغير مستعد فنيا لممارسة مهنته كأن يكون جاهلا للتعامل مع الكمبيوتر أو غيره من الحوامل الإلكترونية.

إلا أن المفهوم التشريعي للأمية بقي تقليديا إذ اقتصر على من لا يحسن الكتابة.        بل إن محكمة التعقيب ذهبت إلى أبعد من ذلك معتبرة أنّ "الشخص الذي يحسن الإمضاء مع التعريف بإمضائه لدى البلدية لا يقال فيه أمّيا على معنى الفصل 454 مدني"[261]  وفي ذلك دون شك تضييق لمفهوم الأمية.

وسواء أعتبر الأمي من كان جاهلا  للكتابة والقراءة مطلقا أو بلغة العقد فحسب، فإن المشرع التونسي اشترط أن يتلقى التزامه مأمور عمومي منتصب لذلك قانونا.

مما يعني ضرورة تضمينه في حجة رسمية وإلا كان باطلا والغاية من ذلك واضحة وهي دون شك حماية الأمي من الوقوع ضحية التغرير أو التحيّل من قبل معاقده.

و تتوفر آليات الحماية سواء قبل إبرام التصرف القانوني أو بعده، فالمأمور العمومي المختص و ظيفيا  و ترابيا -مثلما سبقت الإشارة إليه في الجزء الأول من هذه المذكرة- يتأكد من صحة موضوع العقد و عدم مخالفته للنظام العام و الأخلاق الحميدة. كما يتأكد من هوية المتعاقدين بواسطة بطاقات تعريفهم الوطنية أو بشهادة شخصين رشيدين يضعان إمضاءيهما     و يتم التنصيص على الهويّة الكاملة لكل منهما مع ذكر عدد بطاقة تعريفهما الوطنية.

و عدل الإشهاد مطالب كذلك بالتثبت من أهلية المتعاقدين و سلامة رضائهم و إرشاد الطرف الأمي منهم حول موضوع العقد و الآثار التي سيرتّبها و ذلك في إطار واجب الإعلام المحمول عليه قانونا (L'obligation d'informer).

و إذا كان أحد المتعاقدين لا يحسن اللغة العربية وجب على عدلي الإشهاد الاستعانة بمترجم محلف ما لم يكونا عالمين بلغة ذلك الشخص و يجب حينئذ إثبات ذلك بالعقد المحرر من قبلهما[262].

أما إذا كان من بين المتعاقدين شخصا مصابا بعاهة كبيرة كالصم و البكم و العمى و ما شابهها من العاهات، فإنه يجب أن يتم تلقي التزامه بمحضر شخص يعينه رئيس المحكمة الابتدائية.

و يتأكد واجب حماية المأمور العمومي للأمي خاصة أثناء كتابة الحجة الرسمية باعتبارها المرحلة الحاسمة في إبرام التصرف القانوني المقدم عليه.

لذلك فإنه من الضروري أن يكون الورق الذي يدون فيه الالتزام "من النوع الذي لا يبلى بحفظه"[263]. هذا فضلا عن ضرورة احترام محرر العقد الرسمي للبيانات و التنصيصات الجوهرية الواجب مراعاتها عند تحريره[264]، مع تجنب كل ما من شأنه أن يضع الحجة العادلة محل شك في صحتها أو في صحة البيانات التي تضمنتها مثل الكشط و المحو و الإقحام و غيره من الإخلالات الشلكية.

و عند الانتهاء من تلقي تصريحات ذوي الشأن لا بد من تلاوة مضمون العقد على الطرفين من قبل عدل الإشهاد الذي لم يقم بكتابته حتى يكون الطرفان على بيّنة من موضوع الالتزام و شروطه المختلفة.

كما يتلقى عدل الإشهاد الذي باشر تحرير العقد إمضاءات الأطراف و بصمة إبهام من كان منهم أميا، و هذه البصمة علامة تدل على الإمضاء و الرضا بالعقد الرضاء التام، كما أنها تعتبر مؤشرا على أمية من وضعها، لذلك فإنه لا بد في كل الحالات من ذكر اسم الطرف الأمي أسفل كل بصمة إبهام.

و تجدر الإشارة إلى أن الشرط الوارد صلب الفصل 454 من م.إ.ع. و المتعلق بضرورة تلقي التزام الأمي من قبل مأمور عمومي مختص يشكل ركنا شكليا خامسا يضاف إلى أركان العقد الواردة بالفصل الثاني من نفس المجلة. و يستشف ذلك خاصة بالرجوع إلى عبارة "لا يمضي" الواردة بالفصل 454 و التي استندت عليها محكمة التعقيب التونسية لترتب جزاء البطلان المطلق لقاء عدم احترام شرط التحرير من قبل مأمور عمومي إذا كان أحد الأطراف أميا[265].

إلا أن هناك رأي مخالف يرى أن أحكام هذا الفصل هي حمائية و لا تهم النظام العام باعتبارها جاءت لتنظم طرق الإثبات.

غير أن هذا الرأي على أهميته فإنه يبدو أن الرأي الأول أكثر وجاهة و ذلك لأن هذا الفصل و إن كان يحمي فئة معينة من الأشخاص إلا أنه لا يمكن اعتباره يهمّ مصلحة الأطراف الشخصيّة، بل إنّه يدخل في إطار النظام العام الحمائي، فضلا عن أن عبارة "لا يمضي" الواردة به تدل حتما على أن العقد لا يتم   و لا يبعث للوجود. و عليه فإن جزاء مخالفة هذا الفصل لا يمكن أن يكون إلا البطلان المطلق.

كما نلمس بمجلة الحقوق العينية حماية قانونية خاصة لبعض الأشخاص غير القادرين على الإمضاء أو الذين لا يحسنونه إذ أوجب الفصل 378  منها ضرورة تلاوة الكتب غير الرسمي عليهم لدى إحدى السلط الآتية :

-         رؤساء المحاكم الابتدائية

-         الولاة و معتمديهم

-         رؤساء البلديات

-         مدير الملكية العقارية

و يجب أن يتم ذلك بمحضر شاهدين يحسنان الإمضاء و يتمتعان بأهلية التعاقد.         و تشهد السلط المذكورة بأنها تعرف الأطراف أو أن هويتهم ثابتة لديها بواسطة الشاهدين.

كما تشهد بأن أطراف العقد صرحوا بأنهم استوعبوا مضمون الكتب و قبلوا شروطه، ثم تمضي محضر التلاوة مع الشاهدين و يضع ذوي الشأن إمضاءاتهم أو بصمات إبهامهم.

و تعتبر أحكام الفصل 378  السالف الذكر صورة خاصة لالتزام الأمي و ذلك لتعلقه بالالتزامات الخاصة بالعقارات المسجلة دون غيرها من ناحية، كما أنها تشكل استثناء لقاعدة الفصل 454  من م.إ.ع. من ناحية ثانية.

ذلك أنّها باعتبارها تسمح بإبرام عقود غير رسمية طرفها شخصا لا يحسن الإمضاء أو غير قادر عليه. و يكتفي المأمور العمومي في هذه الحالة بالتعريف بإمضاءات الأطراف       و تلاوة محضر التلاوة على من كان أميا أو غير قادر على الإمضاء. و في هذا الاتجاه اعتبرت محكمة التعقيب التونسية أن الكتب الخطي الذي يكتفي فيه المأمور العمومي بالتعريف فيه بإمضاءات الأطراف و تلاوة محضر التلاوة عليهم لا يمكن اعتباره حجة رسمية[266].

إلا أنه لا يخفى أن الكتب غير الرسمي المحرر طبقا للفصل 378  من م.ح.ع. يختلف عن الكتب الخطي العادي باعتباره يتضمن آلية حماية خاصة لمن كان أميا من الطرفين أو غير قادر على الإمضاء، ألا و هي آلية محضر التلاوة و هكذا يكون المأمور العمومي قد ساهم في حماية الأمي و إن كان ذلك خارج إطار الحجة الرسمية.

كما يتمتع القصر و المحجور عليهم باعتبارهم أطرافا ضعفاء بحماية تشريعية ضافية تبلورت بالخصوص من خلال الحجة الرسمية فقد أوجب الفصلان 15 و 17 من م.إ.ع. ضرورة حصول كل أب مدير لكسب ابنه الصغير أو السفيه و الولي وكل مدير لكسب بوجه قانوني على هذا الإذن القضائي قبل إتمام أي تصرف قانوني بمثل بيع أو معاوضة أو مقاسمة أو تعاطي تجارة في حق من لهم عليه النظر.

و لا يصدر هذا الإذن القضائي الذي لا يكون إلا بناء على عريضة في إطار القضاء الولائي للمحكمة إلا عند الضرورة و المصلحة الواضحة للصغير أو المحجور عليه.

و علاوة على ذلك يتمتع القصّر بحماية تشريعية خاصة في ما يتعلق بعقود الزواج      و تبنّي نظام الاشتراك بما توفّرها لهم الحجة الرسمية المتجسّمة في الإذن القضائي من ضمانات، خاصة بتدخّلها المبكر و السابق لإتمام تلك التصرفات.

إذ يحتاج الزوج القاضي (وهو الذكر الذي يقلّ نسبة عن العشرين سنة و الأنثى دون السبعة عشر عاما كاملة) إلى إذن القاضي كلّما عارضه في ذلك وليّه أو أمّه.

كما يحتاج ذل القاصر إلى إذن قضائي كلما رغب في تبنّي نظام الاشتراك في الأملاك و لم يوافقه وليه أو أمّه أو أحدهما على ذلك[267].

و القاضي يفصل في هذا النزاع إما بالاستجابة إلى رغبة الزوج القاصر و إقرار نظام الاشتراك في الأملاك و إما بمعارضته في رغبته و إقرار نظام التفرقة في الأموال و المعار المعتمد في هذه الصورة لا يخرج عن دائرة مصلحة الزوج القاصر و حمايته من الوقوع في التحيّل.

و بذلك تلعب الحجة الرسمية في هذه الحالة دورا وقائيا هاما بالنسبة للقصّر غير أن هذه الحماية ليست ضافية و شافية، ذلك أن الزوج القاصر المطلّق أو الأرمل و الذي ترشد بزواجه السابق يمكنه اختيار نظام الاشتراك في الأملاك بمقتضى حجة رسمية لاحقة دون توقّف على موافقة وليه أو أمه و دون احتياج كذلك إلى استصدار إذن قضائي لذلك.

و بذلك تلعب الحجة الرسمية في هذه الحالات دورا وقائيا هما لبعض الأشخاص صاحبة المراكز الضعيفة و في ذلك حماية لهم من تعسف و تحيل من لهم عليهم النظر و فضلا عن دورها الحمائي و الوقائي، تساهم الحجة الرسمية في ضمان حسن سير الدعوى القضائية فعلى أي مستوى يتجلى هذا الدور ؟


عن الكاتب

الذخيرة القانونية

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الذخيرة القانونية