الذخيرة القانونية

موقع يتعلق بالقانون التونسي

random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

البينة بالشهادة في المادة المدنية

 

البينة بالشهادة في المادة المدنية


إنّ المتأمل في بناء النظرية العامة للحقوق والالتزامات يمكن له أن يتبيّن وجود آليات قانونية لها بالغ الأثر في فاعلية أداء تلك النظرية: إنها وسائل الإثبات القانونية.

لقد قام المشرع التونسي منذ أوائل القرن الماضي بإدراج تنظيم دقيق لوسائل الإثبات صلب مجلة الالتزامات والعقود أخذ فيه بالاعتبار الخصوصية المميزة لكلّ وسيلة منها. 

وقد نصّ الفصل 427 من م.إ.ع أن البيانات المقبولة قانونا خمسة وهي أولا الإقرار،  ثانيا الحجّة المكتوبة، ثالثا شهادة الشهود، رابعا : القرينة، خامسا : اليمين والامتناع عن أدائها. 

وتحتّل البينة بالشهادة مكانة متميزة ضمن وسائل الإثبات القانونية وقد تعدّدت التعاريف الفقهية والقانونية لهذه الوسيلة ويمكن القول بأنها تصريح الشهود لإثبات حقّ في مجلس القضاء لقد قيد المشرع التونسي البيّنة بالشهادة بشروط ذاتية وأخرى موضوعية (قسم أول) غير أنّ آثارها طرحت إشكاليات قانونية تمحورت حول قوتها الثبوتية (قسم ثاني). 


(القسم الأول) : شروط البينة بالشهادة


تمثل البينة بالشهادة وسيلة إثبات منقوصة الأمر الذي دفع المشرع إلى إحاطتها بشروط تمثل ضمانات ذاتية وموضوعية الهدف منها حماية الحق موضوع الشهادة.


(المبحث الأوّل) : الشروط الذاتية (المتعلّقة بالشاهد)

يقصد بالشروط الذاتية جملة الشروط الواجب توفّرها في ذات الشاهد حتى يمكن قبول شهادته وكان الفقه الإسلامي قد تناول هذا الجانب على وجه التفصيل وتوصل إلى شروط أهمّها البلوغ والإسلام والعدالة والذكورة. 

إنّ شهادة الشهود هي آلية قانونية من شأنها إثبات وجود الالتزام أو نفيه، وإذا كان المشرع قد اشترط توفر الأهلية القانونية في جانب منشئ الحق فإنّ المنطق القانوني يفترض اشتراط توفّر الأهلية القانونية في جانب من كان إثبات وجود الحقّ من عدمه متوقفا على تصريحاته وهو ما يفضي إلى اعتبار الأهلية القانونية شرطا ضروريا في جانب الشاهد المدني ويترتب عن ذلك إقصاء شهادة من اختل شعوره بما أخرجه من الإدراك. 

كما يشترط في الشاهد توفر عنصر الرضا وأن يكون رضاء سليما من الموانع  القانونية وهو ما يؤدي إلى استبعاد الشهادة المصرّح بها تحت الإكراه أو التهديد أو التي تأسست على غلط أو تغرير. 

لقد أسس المشرع حول هذه المبادئ العامّة جملة من الشروط الذاتية المتعلّقة بالشاهد وردت صلب الفصل 96 م.م.م.ت ذلك أنّ الشاهد المدني يجب أن يكون خاليا من القوادح القانونية وهي العداوة الواضحة أو المنفعة الشخصية من أداء الشهادة أو إذا قبل الشاهد هدية من الخصم الذي استشهد به أثناء نشر النازلة وكان دائنا أو مدينا لأحد الخصوم وقت أداء الشهادة  أو أن يكون صغير السن لنهاية ثلاثة عشر عاما. أو وكيلا لمن استشهد به أوله ولاية عليه أو أنّ تكون له قرابة غير متناهية للأصول والفروع وإلى الدرجة السادسة للحواشي أو المصاهرة إلى الدرجة الرابعة كما لا يجب أن يكون الشاهد من أتباع من استشهد به أو خدمته المأجورين أو أن يكون محكوما عليه من أجل جريمة مخلّة بالشرف. 

وتكتسي الشروط الذاتية للشاهد أهمية قصوى في ضمان حياء الشهود وصدق تصريحاتهم وقد ضبط المشرع إجراءات التجريح في الشهود وأوجب التصريح بذلك قبل تلقي الشهادة. وميّز بين التجريح القانوني المعترف بوجوده والتجريح الفعلي الذي يمكن أن يقع بكلّ ما من شأنه أن يجعل الثقة في أقوال الشهود محل شك أو ضعف.  غير أنه يمكن للقاضي سماع الشاهد المقدوح فيه على سبيل الاسترشاد إن رأى ذلك وإذا كان الشاهد موظفا عموميا وكانت شهادته في أمور إطلع عليها بموجب وظيفه فلا شهادة له دون موافقة الطرف الذي يرجع له بالنّظر أو كان يرجع له بالنّظر في صورة انفصاله عن الخدمة.


(المبحث الثاني) : الشروط الموضوعية للبينة بالشهادة


تضمّ الشروط الموضوعية للبينة بالشهادة شروطا إجرائية وأخرى متعلّقة بالحق موضوع الشهادة. 


(الفقرة الأولى): الشروط الإجرائية: 

لقد أوجب المشرع صلب مجلّة المرافعات المدنية والتجارية جملة من الشروط الموضوعية ذات الطابع الإجرائي الهدف منها إحاطة البينة بالشهادة بضمانات تكفل أدائها كوسيلة للإثبات فالقاضي هو الجهة  المخول لها قانونا تلقي شهادة الشهود طبقا لأحكام الفصل 92 م.م.م.ت، الذي  أكّد فضلا عن ذلك أنّ "...كلّ الشهادات الواقع تلقيها على غير هاته الصورة تعدّ باطلة ولا يعتدّ بها" يمكن التساؤل في خصوص هذا الشرط عن السبب الذي جعل المشرع التونسي يتّجه نحو جعل تلقي البينة  بالشهادة منحصرا في الجهة القضائية دون سواها رغم أنّ الحجّة الرسمية وهي التي يتلقاها المأمورون المنتصبون لذلك قانونا في محل تحريرها على الصورة التي يقتضيها القانون تعتمد طالما لم يقع القيام بدعوى الزور فيها ؟ 

يبدو أنّ المشرّع قد أراد من خلال ذلك تدعيم الصلاحية المخولة للقاضي في تقدير تلك الوسيلة الاستقرائية وذلك بإحضار الشهود مباشرة أمام القضاء. 

ومن جهة أخرى فإنّه يمكن للحاكم عند الاقتضاء أن ينيب عنه أحد القضاة المنتصبين بأقرب مركز لمكان الشاهد إذا تعذّر عليه سماعه مباشرة وإذا كان الشاهد أجنبيا موجودا خارج التراب  التونسي فإنّ القاضي يرسل قرار إنابته للسلطة القضائية التابع لها الشاهد بالطرق الدبلوماسية أمّا إذا كان الشاهد تونسيا موجودا خارج التراب التونسي فإنّ الطرف القنصلي أو الدبلوماسي القريب من مركز الشاهد يتولى سماعه طبقا لأحكام الفصل 93 م.م.م.ت.

ولكن هل تعتبر هذه الحالة الأخيرة استثناء لقاعدة الفصل 92 م.م.ت والتي تجعل سماع البينة مقتصرا على القاضي ؟ 

يمكن القول في حقيقة الأمر بعدم وجود استثناء طالما أنّ سماع الشاهد يكون في تلك الحالة من قبل العون الدبلوماسي أو القنصلي بناء على إنابة قضائية. 


(الفقرة الثانية) : الشروط المتعلّقة بالحق موضوع الشهادة 

لقد حرص المشرع التونسي صلب الأحكام المتعلّقة بالبينة بالشهادة الواردة بمجلّة الالتزامات والعقود على أن يبرز بوضوح أنّ اللجوء إلى الإثبات بواسطة هذه الوسيلة إنّما هو استثناء لمبدأ الإثبات بالكتابة ويظهر ذلك من خلال تكرر الإشارة إلى الكتب بل واعتبار مجال انطباقه المرجع المحدّد لمجال انطباق البينة بالشهادة. 

إن ورود الأحكام المتعلّقة بالبيّنة بالشهادة تحت العنوان الثامن من مجلّة الالتزامات والعقود المتعلّقة بإثبات تعمير الذمّة وبراءتها يمكن أن يفسّر الطابع الاستثنائي الذي أراده المشرع لوسيلة الإثبات تلك، فالبينة بالشهادة بتأسسها على تصريح شخصيّ للشاهد تكون عرضة لتقلبات النّفس البشرية والمؤثّرات المسلطة عليها ولا يخفى ما لذلك من خطورة على إثبات تعمير الذمة أو براءتها لقد دفعت تلك الاعتبارات المشرع إلى التضييق  قدر الإمكان باعتماد البيّنة بالشهادة كوسيلة للإثبات وظهر هذا التضييق بصفة جلية من خلال الشروط المتعلّقة بالحق موضوع الشهادة. 

فقد اقتضى الفصل 473 م.ا.ع أنّ "شهادة الشهود لا تكون بينة في الاتفاقات وغيرها من الأسباب القانونية التي من شأنها إحداث التزام أو حقّ أو إحالة ذلك أو تغييره أو الإبراء منه إذا كان قدر المال أكثر من ألف دينار فيجب حينئذ تحرير حجة رسمية أو غير رسمية للبينة فيه". 

لقد اعتبر المشرع بصفة ضمنية أن اشتراط مقدار محدد للمال موضوع الشهادة يمثل ضمانا إضافيا للحق موضوع الشهادة بل وذهب المشرع إلى أكثر من ذلك إلى درجة الحدّ من استعمال البينة بالشهادة حتى داخل الإطار الذي ضبطه لها الفصل 473 م.ا.ع المذكور. وذلك بأن اعتبر أنّ البينة بالشهود لا تقبل فيما بين المتعاقدين لمعارضة ما تضمنه الكتب أو لاثبات ما ليس به ولو كان ذلك  في قدر من المال أقلّ من ألف دينارا أو إذا كان المبلغ المراد إثباته جزء من دين يتجاوز الألف دينارا ولا حجّة فيه بالكتابة. 

ولم يسمح المشرع باعتماد البينة بالشهادة داخل مجال انطباق الحجة بالكتابة أي إذا كان قدر المال أكثر من ألف دينارا، إلاّ إذا فقد الخصم الكتب الذي هو حجّة الدين أو الإبراء بسبب أمر طارئ أو قوّة قاهرة أو اختلاس أو إذا تعذّر على المدعي الحصول على حجّة مكتوبة فيما يدعيه كأن تكون الدعوى في وجود غلط في كتابة الحجّة أو وقوع الإكراه أو التدليس أو ما اعتاده التجار فيما بينهم من عدم أخذ حجةّ بالكتابة. 

وقد أوكل المشرع للمحكمة ذات النّظر الاجتهاد في اعتبار الأحوال التي يتعذّر فيها على المدعي الإثبات بالكتابة. 


(القسم الثاني) : آثار البينة بالشهادة

يتضح من خلال جملة الأحكام الواردة بمجلّة الالتزامات والعقود المتعلّقة  بالبينة بالشهادة أن ّالمشرع قد رتّب أثر القوّة الثبوتية المطلقة لهذه الوسيلة في حالتين محدّدتين للقوّة الثبوتية النسبية في حالة أخرى. 


(المبحث الأول) : القوّة الثبوتية المطلقة للبينة بالشهادة


تكتسي البينة بالشهادة قوّة ثبوتية مطلقة في إثبات الوقائع القانونية المادية والتصرفات التجارية. 


(الفقرة الأولى) : البينة بالشهادة وإثبات الوقائع القانونية : 

إنّ الواقعة القانونية هي واقعة مادية يرتب القانون أثرا عليها ويمكن أن تكون طبيعية لا دخل الإدارة الإنسان فيها كالزلازل والأحداث الطبيعية والفيضانات  وقد تكون اختيارية أي أنّها وقعت بإرادة الإنسان كأعمال الحوز والاستيلاء وبصفة عامة فإنّ الوقائع القانونية يمكن أن تنشئ حقوق شخصية أو عينية. 


أ- إثبات الوقائع القانونية المنشئة لحق شخصي : 

تعتبر الجنحة المدنية وشبه الجنحة من أهمّ الوقائع القانونية المنشئة للحقوق الشخصية فضلا عن شبه العقد كالتصرّف الفضولي ودفع غير المستحق والإثراء بدون سبب. 

ويخضع إثبات الجنح وشبه الجنح على معنى الفصلين 82 و83 م.إ.ع إلى مبدأ حرية الإثبات إذ يخول للمدعي اللجوء إلى كافة وسائل الإثبات بما في ذلك البينة بالشهادة قصد إثبات الخطأ والضرر وعلاقة السببية طالما لم ينص القانون على خلاف ذلك وينطبق الأمر ذاته على شبه العقود التي لا تعدو أن تكون وقائع قانونية مادية إرادية بحتة ينتج عنها التزام معين تجاه الغير وفي بعض الحالات التزام متبادل بين الطرفين بل لقد دفع هذا التشابه بعض فقهاء القانون المدني إلى انتقاد التصنيف المعتمد لمصادر الالتزام على أساس الجنح وشبهها من جهة والعقد وشبه العقد من جهة أخرى وذلك بالنظر إلى أنّ شبه العقد إنّما  هو في حقيقته عمل غير مشروع كالتصرّف الفضولي ومن هذا المنطلق فإنّ الالتزامات الناجمة على شبه العقد إنّما هي أقرب إلى الوقائع منها إلى التصرفات القانونية ويترتّب عن ذلك إمكانية اعتماد كافة وسائل الإثبات في شأنها بما في ذلك البينة بالشهادة، ولكن مع مراعاة طبيعة الواقعة القانونية المنشئة لحق شخصي.


ب- إثبات الوقائع القانونية المنشئة لحق عيني : 

تعتبر أعمال الحوز والاستيلاء من أهمّ الوقائع القانونية المكسبة للحقوق العينية ويمكن إثبات هذه الوقائع بكافة وسائل الإثبات. 

ولكن شهادة الشهود تكتسي أهمية خاصّة في إثبات واقعة الحوز فقد اقتضى الفصل 54 من م.م.م.ت ضرورة أن يكون الحوز مشاهدا حتى يمكن القيام بدعوى الحوز باستثناء صورة افتكاك الحوز بالقوّة ولقد اعتبرت محكمة التعقيب "أنّ بينة الشهود في المادة الحوزية هي العنصر الأساسي في الإثبات ومن ثمّة كان الاعتماد عليها يتوقف على نقاوة الشهود من جميع القوادح سواء كانت قانونية أو فعلية ...".  وقد اعتبر فقه القضاء أنّ بينة الشهود في مادة الحوز يجب أن تكون حاسمة ودقيقة. 


(الفقرة الثانية) : البينة بالشهادة وإثبات التصرفات التجارية : 

اعتبر المشرع صلب الفصل 478 م.إ.ع أن ما اعتاده التجار فيما بينهم من عدم أخذ جحّة بالكتابة يستثنى من الصور المتعلّقة بعدم قبول البينة بالشهود. ويعني ذلك على سبيل الذكر أنّه إذا تجاوزت قيمة التصرف القانوني مبلغ الألف دينارا فإنه يمكن رغم ذلك اعتماد البينة بالشهادة شرط أن يكون التصرف القانوني بين التجار وذلك استثناء لقاعدة الفصل 473 م.ا.ع. 

ويعد تاجرا على معنى الفصل الثاني من المجلّة التجارية "كل شخص اتخذ له حرفة من تعاطي أعمال الإنتاج أو التداول أو المضاربة أو التوسط فيما عدا الحالات المنصوص عليها بالقانون. غير أنّ الفصل الثالث من المجلّة التجارية أخضع ".....للقوانين وأصول العرف المنظمة للتجارة كل من باشر بحكم العادة العمليات المنصوص عليها بالفصل الثاني المتقدّم شرحه للتحصيل منها على ربح".

ويطرح التساؤل في هذا الإطار هل أن الطرف الواقع تحت طائلة الفصل الثالث المذكور يمكن أن يخضع إلى مبدأ حرية الإثبات على معنى الفصل 478 م.ا.ع ؟ 

لقد تنازع الأمر اتجاهين رئيسيين فالأول يرى عدم استثناء التاجر بحكم العادة من الاستثناء المنصوص عليه صلب الفصل 478 م.ا.ع طالما أنّ الفصل الثالث من المجلّة التجارية قد أخضعه صراحة للقوانين وأصول العرف المنظمة للتجارة. أما الثاني فيرى ضرورة الوقوف عند حرفية الفصل 478 م.ا.ع واعتبار صفة التاجر فقط على معنى الفصل الثاني من المجلّة التجارية وأنّ التاجر بحكم العادة إنما يخضع لسلبيات القانون التجاري دون إيجابياته.

كأن وقع إخضاعه على سبيل المثال للتفليس دون الصلح الاحتياطي ولكن الاتجاه الأوّل هو الأقوى حجّة طالما أن الفصل الثالث من المجلّة التجارية قد  تعرّض صراحة ودون التباس للقوانين المنظمة للتجارة. فإذا كان التاجر خاضعا لمبدأ حرية الإثبات طبقا لأحكام الفصل 478 م.ا.ع فإن التاجر بحكم العادة خاضع لذلك المبدإ أيضا.

ومن جهة أخرى فقد طرح الفصل 478 م.ا.ع إشكالا آخر بخصوص اعتماد البيّنة بالشهادة قصد إثبات التصرفات التجارية فهل يشترط توفر صفة التاجر في طرفي النزاع، لقد أخذ فقه القضاء  بالتأويل الحرفي للنص معتبرا أنّ صفة التاجر يجب أن تتوفّر في طرفي النزاع بينما اعتبر الاتجاه السائد لدى فقهاء القانون أنّ قواعد الإثبات المدنية تسري على الطرف المدني في المعاملة، أما حرية الإثبات فتطبق على التاجر الطرف في المعاملة ويطبق مبدأ حرية الإثبات دون قيد إذا كان أطراف المعاملة كلّهم تجّارا. 


(المبحث الثاني) : القوّة الثبوتية النسبية البيّنة بالشهادة


تمثل التصرّفات القانونية المدنية المجال الذي تظهر فيه نسبية القوّة الثبوتية، للبينة بالشهادة. لقد رسم المشرّع حدود البيّنة بالشهادة داخل هذا المجال من خلال قاعدتين رئيسيتين فقد اعتبر صلب الفصل 473 م.ا.ع أنّه لا يمكن اللجوء إلى البيّنة بالشهادة إذا كان قدر المال أكثر من ألف دينارا كما اعتبر صلب الفصل 474 م.ا.ع أنّ البيّنة بالشهادة لا يمكن أن تعارض ما تضمنه الكتب ومن جهة أخرى فإنّ دراسة الأثر النسبي للبيّنة بالشهادة تقتضي التعرّض إلى  دور القاضي إزاء وسيلة الإثبات تلك. 


(الفقرة الأولى) : عدم قبول البيّنة بالشهادة استنادا لمقدار المعاملة : 

لقد كان الفصل 473 م.ا.ع واضحا في إقصاء البيّنة بالشهادة كوسيلة للإثبات  إذ فاقت قيمة المال المتعامل فيه الألف دينارا وتندرج هذه القاعدة ضمن توجّه تشريعي أشمل، استهدف التقليص قدر الإمكان من اللجوء إلى هذه الوسيلة وذلك حماية للمعاملات من سلبياتها الناجمة عن شدّة ارتبطاها بالذات البشرية بما يجعلها عرضة لتقلباتها المحتملة حتى أن الفصل 64 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية ينص صراحة على أنّه لا يمكن للمحكمة اعتماد طرق الإثبات الواردة بالفصل 427 ثالثا وخامسا من مجلة الالتزامات والعقود لإثبات إدعاءات الأطراف المتعلّقة بالقضية ولم يكتفي المشرع بهذه الدرجة من الاحتراز إزاء البيّنة بالشهادة بل حرص على تضييق استعمالها حتى داخل مجال انطباقها حيث اعتبر الفصل 475 من م.ا.ع بأنّ من قام بدعوى في أكثر من ألف دينار لا يجوز له أن يثبتها بشهادة الشهود ولو حطّ من المبلغ المذكور فيما بعد إلاّ إذا أثبت في أن مطلبه الأول كان مبنيا على غلط كما أقرّ من جهة أخرى عدم قبول البينة بالشهادة ولو كان مقدار الدعوى أقل من ألف دينارا إذا كان مقدارها جزء من دين أوفر طبقا لأحكام الفصل 476 من م.ا.ع ويتضح مما سبق الطابع النسبي الذي أراده المشرع للقوة الثبوتية للبينة بالشهادة وذلك باعتماد معيار مقدار المعاملة. 


(لفقرة الثانية) : عدم قبول البينة بالشهادة لمعارضة الكتب : 

لم يكن مقدار المعاملة هو الآلية القانونية الوحيدة التي اعتمدها المشرع لضمان التضييق من اللّجوء إلى البينة بالشهادة في إثبات التصرفات القانونية المدنية ولكن ذلك التضييق قد ظهر أيضا من خلال إقراره لقاعدة عدم معارضة البينة بالشهادة لما تضمنه الكتب والاستثناءات الواردة عليها فقد اعتبر المشرع صلب 474 من م.ا.ع بأنّ البينة بالشهادة لا تقبل فيما بين المتعاقدين لمعارضة ما تضمنه الكتب أو لإثبات ما ليس به ولو كان في قدر من المال أقل من ألف دينار غير انّه يمكن اللّجوء إلى البينة بالشهادة إذا كان المراد إثبات أمور من شأنها ضبط معنى فصول مبهمة أو معقدة بالكتب وتعيين مدلولها وإثبات إجراء العمل بها كما يمكن أيضا اللّجوء بصفة استثنائية للبينة بالشهادة وذلك لإتمام بداية حجّة كتابية. 

لقد عرّف المشرع بداية الحجّة بالكتابة صلب الفصل 477 من م.ا.ع وبأنها كلّ كتب صدر من الخصم أو من نائبه أو ممّا انجرّ له حقّ فيه يقرب به احتمال ما تضمّنته الدعوى ويتضح مما سبق ضرورة توفر أركان ثلاثة لبداية الحجّة بالكتابة وهي وجود كتابة وأن تصدر هذه الكتابة من الخصم وأن يكون من شأنها جعل التصرف المدعى به قريب الاحتمال وأضاف الفصل 477 م.ا.ع شرطا رابعا وهو أن يكون الكتب قد تلقاه مأمور عمومي مأذون في ذلك أو تضمنه حكم أو تقارير ومستندات حكمية. 

إنّ حالة بداية الحجة بالكتابة  هي من أبرز الحالات التي يظهر فيها جليا الأثر النسبي للقوّة الثبوتية للبينة بالشهادة فهي في هذه الحالة لا تحلّ محلّ الكتب ولكنّها تكمل الدليل الكتابي وهو ما يؤكد أهمية دور القضاء إزاء وسيلة الإثبات تلك. 


(الفقرة الثالثة) : دور القاضي إزاء البينة بالشهادة  : 

تعتبر البينة بالشهادة وسيلة إثبات منقوصة ويظهر ذلك من خلال الطريقة التي تعرّض بها المشرّع لهذه الوسيلة حيث حرص على التضييق من استعمالها وأكسى اللّجوء إليها طابعا استثنائيا كتحديد ذلك بمقدار مالي معيّن تفاديا لتعطيل المعاملات البسيطة وتقييدها بالكتابة أو كالسماح باللّجوء إليها عند تعذّر الحصول على حجّة مكتوبة أو فقدان الكتب لقوّة قاهرة.

إن الاحتراز الذي ميّز موقف المشرع من البينة بالشهادة كوسيلة للإثبات كان سيؤدي به بالضرورة إلى إسناد دور هام للقاضي المدني إزاء هذه الوسيلة وهو  ما تمّ بالفعل فقد خوّل الفصل 86 من م.م.م.ت للمحكمة اللّجوء إلى سماع البينة على أن يكون ذلك بواسطة القاضي المقرر وأسند للمحكمة السلطة التقديرية في اللّجوء أو عدم اللّجوء إلى تلك الوسيلة الاستقرائية غير أنّ عدم لجوء المحكمة لسماع البينة إذا طلب منها الأطراف ذلك دون تعليل يتماشى مع ما له أصل ثابت في أوراق الملف يجعل حكمها عرضة للنقض لمساس ذلك بحقوق الدفاع كأن ترفض سماع البينة في دعاوي الاستحقاق أو الحوز دون مبرر قانوني. 

يبدو أن المشرع  التونسي قد حرص على إحاطة البينة بالشهادة بضمانات قضائية قصوى وهو ما جسّمه الفصل 92 من م.م.م.ت الذي أقرّ بأنه "يتولى الرئيس والقاضي المقرر سماع الشهود بنفسه .... وكلّ الشهادات الواقع تلقيها على غير هاته الصورة تعدّ باطلة ولا يعتد بها" 

لقد أراد المشرع من خلال الفصل 92 م.م.م.ت أن يمثل الشهود مباشرة أمام القضاء قصد الإدلاء بشهاداتهم وهو ما يمكن القاضي المدني من التثبت مباشرة من توفر الشروط المستوجبة قانونا في الشهود ولكن بالإضافة إلى ذلك فإنّه سوف يتمكن من استعمال تلك الوسيلة الاستقرائية على وجه أفضل قصد طرح الأسئلة التي من شأنها التحقق من صدق الشهادات المدلى بها على ضوء ما يشاهده من إجابات الشهود وردود أفعالهم.                    

البينة بالشهادة في المادة المدنية


إنّ المتأمل في بناء النظرية العامة للحقوق والالتزامات يمكن له أن يتبيّن وجود آليات قانونية لها بالغ الأثر في فاعلية أداء تلك النظرية: إنها وسائل الإثبات القانونية.

لقد قام المشرع التونسي منذ أوائل القرن الماضي بإدراج تنظيم دقيق لوسائل الإثبات صلب مجلة الالتزامات والعقود أخذ فيه بالاعتبار الخصوصية المميزة لكلّ وسيلة منها. 

وقد نصّ الفصل 427 من م.إ.ع أن البيانات المقبولة قانونا خمسة وهي أولا الإقرار،  ثانيا الحجّة المكتوبة، ثالثا شهادة الشهود، رابعا : القرينة، خامسا : اليمين والامتناع عن أدائها. 

وتحتّل البينة بالشهادة مكانة متميزة ضمن وسائل الإثبات القانونية وقد تعدّدت التعاريف الفقهية والقانونية لهذه الوسيلة ويمكن القول بأنها تصريح الشهود لإثبات حقّ في مجلس القضاء لقد قيد المشرع التونسي البيّنة بالشهادة بشروط ذاتية وأخرى موضوعية (قسم أول) غير أنّ آثارها طرحت إشكاليات قانونية تمحورت حول قوتها الثبوتية (قسم ثاني). 


(القسم الأول) : شروط البينة بالشهادة


تمثل البينة بالشهادة وسيلة إثبات منقوصة الأمر الذي دفع المشرع إلى إحاطتها بشروط تمثل ضمانات ذاتية وموضوعية الهدف منها حماية الحق موضوع الشهادة.


(المبحث الأوّل) : الشروط الذاتية (المتعلّقة بالشاهد)

يقصد بالشروط الذاتية جملة الشروط الواجب توفّرها في ذات الشاهد حتى يمكن قبول شهادته وكان الفقه الإسلامي قد تناول هذا الجانب على وجه التفصيل وتوصل إلى شروط أهمّها البلوغ والإسلام والعدالة والذكورة. 

إنّ شهادة الشهود هي آلية قانونية من شأنها إثبات وجود الالتزام أو نفيه، وإذا كان المشرع قد اشترط توفر الأهلية القانونية في جانب منشئ الحق فإنّ المنطق القانوني يفترض اشتراط توفّر الأهلية القانونية في جانب من كان إثبات وجود الحقّ من عدمه متوقفا على تصريحاته وهو ما يفضي إلى اعتبار الأهلية القانونية شرطا ضروريا في جانب الشاهد المدني ويترتب عن ذلك إقصاء شهادة من اختل شعوره بما أخرجه من الإدراك. 

كما يشترط في الشاهد توفر عنصر الرضا وأن يكون رضاء سليما من الموانع  القانونية وهو ما يؤدي إلى استبعاد الشهادة المصرّح بها تحت الإكراه أو التهديد أو التي تأسست على غلط أو تغرير. 

لقد أسس المشرع حول هذه المبادئ العامّة جملة من الشروط الذاتية المتعلّقة بالشاهد وردت صلب الفصل 96 م.م.م.ت ذلك أنّ الشاهد المدني يجب أن يكون خاليا من القوادح القانونية وهي العداوة الواضحة أو المنفعة الشخصية من أداء الشهادة أو إذا قبل الشاهد هدية من الخصم الذي استشهد به أثناء نشر النازلة وكان دائنا أو مدينا لأحد الخصوم وقت أداء الشهادة  أو أن يكون صغير السن لنهاية ثلاثة عشر عاما. أو وكيلا لمن استشهد به أوله ولاية عليه أو أنّ تكون له قرابة غير متناهية للأصول والفروع وإلى الدرجة السادسة للحواشي أو المصاهرة إلى الدرجة الرابعة كما لا يجب أن يكون الشاهد من أتباع من استشهد به أو خدمته المأجورين أو أن يكون محكوما عليه من أجل جريمة مخلّة بالشرف. 

وتكتسي الشروط الذاتية للشاهد أهمية قصوى في ضمان حياء الشهود وصدق تصريحاتهم وقد ضبط المشرع إجراءات التجريح في الشهود وأوجب التصريح بذلك قبل تلقي الشهادة. وميّز بين التجريح القانوني المعترف بوجوده والتجريح الفعلي الذي يمكن أن يقع بكلّ ما من شأنه أن يجعل الثقة في أقوال الشهود محل شك أو ضعف.  غير أنه يمكن للقاضي سماع الشاهد المقدوح فيه على سبيل الاسترشاد إن رأى ذلك وإذا كان الشاهد موظفا عموميا وكانت شهادته في أمور إطلع عليها بموجب وظيفه فلا شهادة له دون موافقة الطرف الذي يرجع له بالنّظر أو كان يرجع له بالنّظر في صورة انفصاله عن الخدمة.


(المبحث الثاني) : الشروط الموضوعية للبينة بالشهادة


تضمّ الشروط الموضوعية للبينة بالشهادة شروطا إجرائية وأخرى متعلّقة بالحق موضوع الشهادة. 


(الفقرة الأولى): الشروط الإجرائية: 

لقد أوجب المشرع صلب مجلّة المرافعات المدنية والتجارية جملة من الشروط الموضوعية ذات الطابع الإجرائي الهدف منها إحاطة البينة بالشهادة بضمانات تكفل أدائها كوسيلة للإثبات فالقاضي هو الجهة  المخول لها قانونا تلقي شهادة الشهود طبقا لأحكام الفصل 92 م.م.م.ت، الذي  أكّد فضلا عن ذلك أنّ "...كلّ الشهادات الواقع تلقيها على غير هاته الصورة تعدّ باطلة ولا يعتدّ بها" يمكن التساؤل في خصوص هذا الشرط عن السبب الذي جعل المشرع التونسي يتّجه نحو جعل تلقي البينة  بالشهادة منحصرا في الجهة القضائية دون سواها رغم أنّ الحجّة الرسمية وهي التي يتلقاها المأمورون المنتصبون لذلك قانونا في محل تحريرها على الصورة التي يقتضيها القانون تعتمد طالما لم يقع القيام بدعوى الزور فيها ؟ 

يبدو أنّ المشرّع قد أراد من خلال ذلك تدعيم الصلاحية المخولة للقاضي في تقدير تلك الوسيلة الاستقرائية وذلك بإحضار الشهود مباشرة أمام القضاء. 

ومن جهة أخرى فإنّه يمكن للحاكم عند الاقتضاء أن ينيب عنه أحد القضاة المنتصبين بأقرب مركز لمكان الشاهد إذا تعذّر عليه سماعه مباشرة وإذا كان الشاهد أجنبيا موجودا خارج التراب  التونسي فإنّ القاضي يرسل قرار إنابته للسلطة القضائية التابع لها الشاهد بالطرق الدبلوماسية أمّا إذا كان الشاهد تونسيا موجودا خارج التراب التونسي فإنّ الطرف القنصلي أو الدبلوماسي القريب من مركز الشاهد يتولى سماعه طبقا لأحكام الفصل 93 م.م.م.ت.

ولكن هل تعتبر هذه الحالة الأخيرة استثناء لقاعدة الفصل 92 م.م.ت والتي تجعل سماع البينة مقتصرا على القاضي ؟ 

يمكن القول في حقيقة الأمر بعدم وجود استثناء طالما أنّ سماع الشاهد يكون في تلك الحالة من قبل العون الدبلوماسي أو القنصلي بناء على إنابة قضائية. 


(الفقرة الثانية) : الشروط المتعلّقة بالحق موضوع الشهادة 

لقد حرص المشرع التونسي صلب الأحكام المتعلّقة بالبينة بالشهادة الواردة بمجلّة الالتزامات والعقود على أن يبرز بوضوح أنّ اللجوء إلى الإثبات بواسطة هذه الوسيلة إنّما هو استثناء لمبدأ الإثبات بالكتابة ويظهر ذلك من خلال تكرر الإشارة إلى الكتب بل واعتبار مجال انطباقه المرجع المحدّد لمجال انطباق البينة بالشهادة. 

إن ورود الأحكام المتعلّقة بالبيّنة بالشهادة تحت العنوان الثامن من مجلّة الالتزامات والعقود المتعلّقة بإثبات تعمير الذمّة وبراءتها يمكن أن يفسّر الطابع الاستثنائي الذي أراده المشرع لوسيلة الإثبات تلك، فالبينة بالشهادة بتأسسها على تصريح شخصيّ للشاهد تكون عرضة لتقلبات النّفس البشرية والمؤثّرات المسلطة عليها ولا يخفى ما لذلك من خطورة على إثبات تعمير الذمة أو براءتها لقد دفعت تلك الاعتبارات المشرع إلى التضييق  قدر الإمكان باعتماد البيّنة بالشهادة كوسيلة للإثبات وظهر هذا التضييق بصفة جلية من خلال الشروط المتعلّقة بالحق موضوع الشهادة. 

فقد اقتضى الفصل 473 م.ا.ع أنّ "شهادة الشهود لا تكون بينة في الاتفاقات وغيرها من الأسباب القانونية التي من شأنها إحداث التزام أو حقّ أو إحالة ذلك أو تغييره أو الإبراء منه إذا كان قدر المال أكثر من ألف دينار فيجب حينئذ تحرير حجة رسمية أو غير رسمية للبينة فيه". 

لقد اعتبر المشرع بصفة ضمنية أن اشتراط مقدار محدد للمال موضوع الشهادة يمثل ضمانا إضافيا للحق موضوع الشهادة بل وذهب المشرع إلى أكثر من ذلك إلى درجة الحدّ من استعمال البينة بالشهادة حتى داخل الإطار الذي ضبطه لها الفصل 473 م.ا.ع المذكور. وذلك بأن اعتبر أنّ البينة بالشهود لا تقبل فيما بين المتعاقدين لمعارضة ما تضمنه الكتب أو لاثبات ما ليس به ولو كان ذلك  في قدر من المال أقلّ من ألف دينارا أو إذا كان المبلغ المراد إثباته جزء من دين يتجاوز الألف دينارا ولا حجّة فيه بالكتابة. 

ولم يسمح المشرع باعتماد البينة بالشهادة داخل مجال انطباق الحجة بالكتابة أي إذا كان قدر المال أكثر من ألف دينارا، إلاّ إذا فقد الخصم الكتب الذي هو حجّة الدين أو الإبراء بسبب أمر طارئ أو قوّة قاهرة أو اختلاس أو إذا تعذّر على المدعي الحصول على حجّة مكتوبة فيما يدعيه كأن تكون الدعوى في وجود غلط في كتابة الحجّة أو وقوع الإكراه أو التدليس أو ما اعتاده التجار فيما بينهم من عدم أخذ حجةّ بالكتابة. 

وقد أوكل المشرع للمحكمة ذات النّظر الاجتهاد في اعتبار الأحوال التي يتعذّر فيها على المدعي الإثبات بالكتابة. 


(القسم الثاني) : آثار البينة بالشهادة

يتضح من خلال جملة الأحكام الواردة بمجلّة الالتزامات والعقود المتعلّقة  بالبينة بالشهادة أن ّالمشرع قد رتّب أثر القوّة الثبوتية المطلقة لهذه الوسيلة في حالتين محدّدتين للقوّة الثبوتية النسبية في حالة أخرى. 


(المبحث الأول) : القوّة الثبوتية المطلقة للبينة بالشهادة


تكتسي البينة بالشهادة قوّة ثبوتية مطلقة في إثبات الوقائع القانونية المادية والتصرفات التجارية. 


(الفقرة الأولى) : البينة بالشهادة وإثبات الوقائع القانونية : 

إنّ الواقعة القانونية هي واقعة مادية يرتب القانون أثرا عليها ويمكن أن تكون طبيعية لا دخل الإدارة الإنسان فيها كالزلازل والأحداث الطبيعية والفيضانات  وقد تكون اختيارية أي أنّها وقعت بإرادة الإنسان كأعمال الحوز والاستيلاء وبصفة عامة فإنّ الوقائع القانونية يمكن أن تنشئ حقوق شخصية أو عينية. 


أ- إثبات الوقائع القانونية المنشئة لحق شخصي : 

تعتبر الجنحة المدنية وشبه الجنحة من أهمّ الوقائع القانونية المنشئة للحقوق الشخصية فضلا عن شبه العقد كالتصرّف الفضولي ودفع غير المستحق والإثراء بدون سبب. 

ويخضع إثبات الجنح وشبه الجنح على معنى الفصلين 82 و83 م.إ.ع إلى مبدأ حرية الإثبات إذ يخول للمدعي اللجوء إلى كافة وسائل الإثبات بما في ذلك البينة بالشهادة قصد إثبات الخطأ والضرر وعلاقة السببية طالما لم ينص القانون على خلاف ذلك وينطبق الأمر ذاته على شبه العقود التي لا تعدو أن تكون وقائع قانونية مادية إرادية بحتة ينتج عنها التزام معين تجاه الغير وفي بعض الحالات التزام متبادل بين الطرفين بل لقد دفع هذا التشابه بعض فقهاء القانون المدني إلى انتقاد التصنيف المعتمد لمصادر الالتزام على أساس الجنح وشبهها من جهة والعقد وشبه العقد من جهة أخرى وذلك بالنظر إلى أنّ شبه العقد إنّما  هو في حقيقته عمل غير مشروع كالتصرّف الفضولي ومن هذا المنطلق فإنّ الالتزامات الناجمة على شبه العقد إنّما هي أقرب إلى الوقائع منها إلى التصرفات القانونية ويترتّب عن ذلك إمكانية اعتماد كافة وسائل الإثبات في شأنها بما في ذلك البينة بالشهادة، ولكن مع مراعاة طبيعة الواقعة القانونية المنشئة لحق شخصي.


ب- إثبات الوقائع القانونية المنشئة لحق عيني : 

تعتبر أعمال الحوز والاستيلاء من أهمّ الوقائع القانونية المكسبة للحقوق العينية ويمكن إثبات هذه الوقائع بكافة وسائل الإثبات. 

ولكن شهادة الشهود تكتسي أهمية خاصّة في إثبات واقعة الحوز فقد اقتضى الفصل 54 من م.م.م.ت ضرورة أن يكون الحوز مشاهدا حتى يمكن القيام بدعوى الحوز باستثناء صورة افتكاك الحوز بالقوّة ولقد اعتبرت محكمة التعقيب "أنّ بينة الشهود في المادة الحوزية هي العنصر الأساسي في الإثبات ومن ثمّة كان الاعتماد عليها يتوقف على نقاوة الشهود من جميع القوادح سواء كانت قانونية أو فعلية ...".  وقد اعتبر فقه القضاء أنّ بينة الشهود في مادة الحوز يجب أن تكون حاسمة ودقيقة. 


(الفقرة الثانية) : البينة بالشهادة وإثبات التصرفات التجارية : 

اعتبر المشرع صلب الفصل 478 م.إ.ع أن ما اعتاده التجار فيما بينهم من عدم أخذ جحّة بالكتابة يستثنى من الصور المتعلّقة بعدم قبول البينة بالشهود. ويعني ذلك على سبيل الذكر أنّه إذا تجاوزت قيمة التصرف القانوني مبلغ الألف دينارا فإنه يمكن رغم ذلك اعتماد البينة بالشهادة شرط أن يكون التصرف القانوني بين التجار وذلك استثناء لقاعدة الفصل 473 م.ا.ع. 

ويعد تاجرا على معنى الفصل الثاني من المجلّة التجارية "كل شخص اتخذ له حرفة من تعاطي أعمال الإنتاج أو التداول أو المضاربة أو التوسط فيما عدا الحالات المنصوص عليها بالقانون. غير أنّ الفصل الثالث من المجلّة التجارية أخضع ".....للقوانين وأصول العرف المنظمة للتجارة كل من باشر بحكم العادة العمليات المنصوص عليها بالفصل الثاني المتقدّم شرحه للتحصيل منها على ربح".

ويطرح التساؤل في هذا الإطار هل أن الطرف الواقع تحت طائلة الفصل الثالث المذكور يمكن أن يخضع إلى مبدأ حرية الإثبات على معنى الفصل 478 م.ا.ع ؟ 

لقد تنازع الأمر اتجاهين رئيسيين فالأول يرى عدم استثناء التاجر بحكم العادة من الاستثناء المنصوص عليه صلب الفصل 478 م.ا.ع طالما أنّ الفصل الثالث من المجلّة التجارية قد أخضعه صراحة للقوانين وأصول العرف المنظمة للتجارة. أما الثاني فيرى ضرورة الوقوف عند حرفية الفصل 478 م.ا.ع واعتبار صفة التاجر فقط على معنى الفصل الثاني من المجلّة التجارية وأنّ التاجر بحكم العادة إنما يخضع لسلبيات القانون التجاري دون إيجابياته.

كأن وقع إخضاعه على سبيل المثال للتفليس دون الصلح الاحتياطي ولكن الاتجاه الأوّل هو الأقوى حجّة طالما أن الفصل الثالث من المجلّة التجارية قد  تعرّض صراحة ودون التباس للقوانين المنظمة للتجارة. فإذا كان التاجر خاضعا لمبدأ حرية الإثبات طبقا لأحكام الفصل 478 م.ا.ع فإن التاجر بحكم العادة خاضع لذلك المبدإ أيضا.

ومن جهة أخرى فقد طرح الفصل 478 م.ا.ع إشكالا آخر بخصوص اعتماد البيّنة بالشهادة قصد إثبات التصرفات التجارية فهل يشترط توفر صفة التاجر في طرفي النزاع، لقد أخذ فقه القضاء  بالتأويل الحرفي للنص معتبرا أنّ صفة التاجر يجب أن تتوفّر في طرفي النزاع بينما اعتبر الاتجاه السائد لدى فقهاء القانون أنّ قواعد الإثبات المدنية تسري على الطرف المدني في المعاملة، أما حرية الإثبات فتطبق على التاجر الطرف في المعاملة ويطبق مبدأ حرية الإثبات دون قيد إذا كان أطراف المعاملة كلّهم تجّارا. 


(المبحث الثاني) : القوّة الثبوتية النسبية البيّنة بالشهادة


تمثل التصرّفات القانونية المدنية المجال الذي تظهر فيه نسبية القوّة الثبوتية، للبينة بالشهادة. لقد رسم المشرّع حدود البيّنة بالشهادة داخل هذا المجال من خلال قاعدتين رئيسيتين فقد اعتبر صلب الفصل 473 م.ا.ع أنّه لا يمكن اللجوء إلى البيّنة بالشهادة إذا كان قدر المال أكثر من ألف دينارا كما اعتبر صلب الفصل 474 م.ا.ع أنّ البيّنة بالشهادة لا يمكن أن تعارض ما تضمنه الكتب ومن جهة أخرى فإنّ دراسة الأثر النسبي للبيّنة بالشهادة تقتضي التعرّض إلى  دور القاضي إزاء وسيلة الإثبات تلك. 


(الفقرة الأولى) : عدم قبول البيّنة بالشهادة استنادا لمقدار المعاملة : 

لقد كان الفصل 473 م.ا.ع واضحا في إقصاء البيّنة بالشهادة كوسيلة للإثبات  إذ فاقت قيمة المال المتعامل فيه الألف دينارا وتندرج هذه القاعدة ضمن توجّه تشريعي أشمل، استهدف التقليص قدر الإمكان من اللجوء إلى هذه الوسيلة وذلك حماية للمعاملات من سلبياتها الناجمة عن شدّة ارتبطاها بالذات البشرية بما يجعلها عرضة لتقلباتها المحتملة حتى أن الفصل 64 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية ينص صراحة على أنّه لا يمكن للمحكمة اعتماد طرق الإثبات الواردة بالفصل 427 ثالثا وخامسا من مجلة الالتزامات والعقود لإثبات إدعاءات الأطراف المتعلّقة بالقضية ولم يكتفي المشرع بهذه الدرجة من الاحتراز إزاء البيّنة بالشهادة بل حرص على تضييق استعمالها حتى داخل مجال انطباقها حيث اعتبر الفصل 475 من م.ا.ع بأنّ من قام بدعوى في أكثر من ألف دينار لا يجوز له أن يثبتها بشهادة الشهود ولو حطّ من المبلغ المذكور فيما بعد إلاّ إذا أثبت في أن مطلبه الأول كان مبنيا على غلط كما أقرّ من جهة أخرى عدم قبول البينة بالشهادة ولو كان مقدار الدعوى أقل من ألف دينارا إذا كان مقدارها جزء من دين أوفر طبقا لأحكام الفصل 476 من م.ا.ع ويتضح مما سبق الطابع النسبي الذي أراده المشرع للقوة الثبوتية للبينة بالشهادة وذلك باعتماد معيار مقدار المعاملة. 


(لفقرة الثانية) : عدم قبول البينة بالشهادة لمعارضة الكتب : 

لم يكن مقدار المعاملة هو الآلية القانونية الوحيدة التي اعتمدها المشرع لضمان التضييق من اللّجوء إلى البينة بالشهادة في إثبات التصرفات القانونية المدنية ولكن ذلك التضييق قد ظهر أيضا من خلال إقراره لقاعدة عدم معارضة البينة بالشهادة لما تضمنه الكتب والاستثناءات الواردة عليها فقد اعتبر المشرع صلب 474 من م.ا.ع بأنّ البينة بالشهادة لا تقبل فيما بين المتعاقدين لمعارضة ما تضمنه الكتب أو لإثبات ما ليس به ولو كان في قدر من المال أقل من ألف دينار غير انّه يمكن اللّجوء إلى البينة بالشهادة إذا كان المراد إثبات أمور من شأنها ضبط معنى فصول مبهمة أو معقدة بالكتب وتعيين مدلولها وإثبات إجراء العمل بها كما يمكن أيضا اللّجوء بصفة استثنائية للبينة بالشهادة وذلك لإتمام بداية حجّة كتابية. 

لقد عرّف المشرع بداية الحجّة بالكتابة صلب الفصل 477 من م.ا.ع وبأنها كلّ كتب صدر من الخصم أو من نائبه أو ممّا انجرّ له حقّ فيه يقرب به احتمال ما تضمّنته الدعوى ويتضح مما سبق ضرورة توفر أركان ثلاثة لبداية الحجّة بالكتابة وهي وجود كتابة وأن تصدر هذه الكتابة من الخصم وأن يكون من شأنها جعل التصرف المدعى به قريب الاحتمال وأضاف الفصل 477 م.ا.ع شرطا رابعا وهو أن يكون الكتب قد تلقاه مأمور عمومي مأذون في ذلك أو تضمنه حكم أو تقارير ومستندات حكمية. 

إنّ حالة بداية الحجة بالكتابة  هي من أبرز الحالات التي يظهر فيها جليا الأثر النسبي للقوّة الثبوتية للبينة بالشهادة فهي في هذه الحالة لا تحلّ محلّ الكتب ولكنّها تكمل الدليل الكتابي وهو ما يؤكد أهمية دور القضاء إزاء وسيلة الإثبات تلك. 


(الفقرة الثالثة) : دور القاضي إزاء البينة بالشهادة  : 

تعتبر البينة بالشهادة وسيلة إثبات منقوصة ويظهر ذلك من خلال الطريقة التي تعرّض بها المشرّع لهذه الوسيلة حيث حرص على التضييق من استعمالها وأكسى اللّجوء إليها طابعا استثنائيا كتحديد ذلك بمقدار مالي معيّن تفاديا لتعطيل المعاملات البسيطة وتقييدها بالكتابة أو كالسماح باللّجوء إليها عند تعذّر الحصول على حجّة مكتوبة أو فقدان الكتب لقوّة قاهرة.

إن الاحتراز الذي ميّز موقف المشرع من البينة بالشهادة كوسيلة للإثبات كان سيؤدي به بالضرورة إلى إسناد دور هام للقاضي المدني إزاء هذه الوسيلة وهو  ما تمّ بالفعل فقد خوّل الفصل 86 من م.م.م.ت للمحكمة اللّجوء إلى سماع البينة على أن يكون ذلك بواسطة القاضي المقرر وأسند للمحكمة السلطة التقديرية في اللّجوء أو عدم اللّجوء إلى تلك الوسيلة الاستقرائية غير أنّ عدم لجوء المحكمة لسماع البينة إذا طلب منها الأطراف ذلك دون تعليل يتماشى مع ما له أصل ثابت في أوراق الملف يجعل حكمها عرضة للنقض لمساس ذلك بحقوق الدفاع كأن ترفض سماع البينة في دعاوي الاستحقاق أو الحوز دون مبرر قانوني. 

يبدو أن المشرع  التونسي قد حرص على إحاطة البينة بالشهادة بضمانات قضائية قصوى وهو ما جسّمه الفصل 92 من م.م.م.ت الذي أقرّ بأنه "يتولى الرئيس والقاضي المقرر سماع الشهود بنفسه .... وكلّ الشهادات الواقع تلقيها على غير هاته الصورة تعدّ باطلة ولا يعتد بها" 

لقد أراد المشرع من خلال الفصل 92 م.م.م.ت أن يمثل الشهود مباشرة أمام القضاء قصد الإدلاء بشهاداتهم وهو ما يمكن القاضي المدني من التثبت مباشرة من توفر الشروط المستوجبة قانونا في الشهود ولكن بالإضافة إلى ذلك فإنّه سوف يتمكن من استعمال تلك الوسيلة الاستقرائية على وجه أفضل قصد طرح الأسئلة التي من شأنها التحقق من صدق الشهادات المدلى بها على ضوء ما يشاهده من إجابات الشهود وردود أفعالهم.

عن الكاتب

الذخيرة القانونية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الذخيرة القانونية